chaambi-soldats

الشعانبي/نواة/ انجاز وليد الماجري

انّها دراما مؤسفة كُتبت فصولها بدماء حماة الوطن تحت عنوان “يموت اعوان الجيش والحرس من اجل ان يحيا الإرهابيّون”.

هذه عصارة عمل استقصائي قمنا به على مدى الفترة المنقضية خلال زيارة ميدانية الى مناطق مختلفة من الشريط الحدودي المشترك بين تونس والجزائر تمكنّا خلالها من توثيق شهادات وحقائق مرعبة حول ملابسات ما يحدث في جبل الشعانبي و ما يتوقع أن يحدث خلال محطّات لاحقة في بعض قرى جندوبة و الكاف.

بعد تنسيق مُحكم تطلّب كثيرا من الوقت و الجهد و الإلحاح، رتّبت لنا مصادرنا في الكاف لقاءا سرّيا مع سائح جزائريّ تبيّن لاحقا أنّه عنصر تابع للمخابرات العسكرية الجزائرية تمّ تكليفه منذ موفّى ديسمبر المنقضي بمهمّة استخباراتية في مناطق الشمال الغربي و القصرين في اطار التوقّي من خطر الإرهاب. و قد تسنّى لنا التحدّث أيضا إلى عدد من القيادات الأمنية التونسية الميدانية على أطراف “جبهة الشعانبي” ما أتاح لنا فهم خفايا ما وصفته مصادرنا ب”مسرحية الشعانبي”.

في التحقيق الاستقصائي التالي نرفع الستار عن بعض اسباب تاخّر الحسم في مواجهات الشعانبي و خفايا الإنفجارات المريبة للألغام و ملابسات نجاح المجموعة الإرهابية في الفرار من قبضة الدوريات الأمنية والعسكرية، فضلا عن كشف النقاب عن كيفية إيصال المؤونة الى معسكر المجموعة.

تجارة “النفط مقابل الدواء”

في مدن الكاف و قراها كما في بقيّة مناطق الشمال الغربي و القصرين تشعر أنّك بصدد التجوّل في دولة داخل الدولة. كلّ شيء هنا يوحي باختلال التوازن الأمني و تنامي نفوذ العصابات الإجرامية التّي تتّخذ من انشطة التهريب ذراعا اقتصاديا موازيا لبسط سيطرتها على المنطقة و التحكّم في مصير المئات من العائلات ذات الوضعية الاقتصادية و الاجتماعية الهشّة.

بعض بارونات التهريب استغلّوا غياب الدولة و ضعف الرقابة الأمنية على المناطق الحدودية و حوّلوا انشطتهم، وفق شهادات متطابقة، نحو تجارة جديدة أكثر ربحا من غيرها : انّها النفط مقابل الدّواء. في البداية بدا الموضوع معقّدا نسبيا الاّ انّنا تمكنّا من فهم طلاسمه بعد ان جمعتنا لقاءات متفرّقة باحد كبار المهرّبين ممّن يتمتّعون بحصانة غير معلنة إذ لا تطاله يد القانون رغم إشرافه العلني على “جمهورية التهريب” في ولاية الكاف.

محدّثُنا الذي يرفض الافصاح عن هويّته، و هو أصيل تاجروين، كشف لنا جانبا من تجارة “النفط مقابل الدواء” مشيرا الى انّ فحوى الحكاية يتمثّل في انّ بعض المهرّبين الجزائريين الذين اعتادوا التعامل معهم منذ سنوات طويلة في إطار عمليات تهريب البنزين والألكترونيات والأغنام و الأجهزة الكهرومنزلية اصبحوا خلال الآونة الأخيرة يلحّون على طلب منتوجات غريبة ويدفعون لقاءها أثمانا باهضة قد تصل الى عشرة أضعاف قيمتها الحقيقية .و من بين هذه المنتوجات حبوب الصداع ونزلات البرد (افّيرالغون ، آدول ، بانادول ، قريبّاكس …) وخيوط الرّتق (غرُز) وموادّ التبنيج و التّعقيم والضمّادات.

وافاد مصدرنا بأنّه بعد استفساره من المهرّبين الجزائريين عن الغاية من اقتناء هذه المعدّات الطبّية تمّ اعلامه (بعد تحفّظ طويل) بانّ هذه البضاعة مطلوبة بكثرة في معسكرات الجهاديين شرق الجزائر حيث يدفع امير تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي (معسكر تبسّة) بسخاء لكلّ المهرّبين الذين ينجحون في تزويده بهذه الاغراض التي يتمّ استعمالها لاسعاف “الاخوة المجاهدين” وعلاجهم بعد انتهاء العمليات العسكرية المفاجئة التي تشنّها قوّات الدرك و الجيش الجزائريين على معسكرات التدريب ب ”ادرار” و”تيزّي وزّو” و جبل”قابل بوجلال” بالقرب من قرية “الماء الأبيض” من ولاية تبسّة على الحدود التونسية الجزائرية، قبالة ساقية سيدي يوسف و قلعة سنان من الناحية التونسية.

المخابرات الجزائرية ترتع في الشمال الغربي

تجارة “النفط مقابل الدواء” لم تكن سوى بوّابة لفكّ العزلة عن المعسكر الإرهابي المحاصر منذ اكثر من اربعة اشهر في جبل الشعانبي. تقول مصادرنا المطّلعة في هذا الصدد بانّ بارونات التهريب اصبحوا منذ مطلع السنة الجارية يوفّرون المياه الصالحة للشراب والموادّ الغذائية والاغطية الصوفية والادوية و بعض المعدّات الالكترونية (هواتف نقالة، شرائح الخ) بطلب مسبق من عدد من المهرّبين الجزائريين الذّين يتكفّلون بمقايضة هذه البضاعة بكميّات كبيرة من المحروقات ليتمّ في وقت لاحق ايصال تلك البضائع (الأكل و الدواء و الماء…) عبر المسالك الوعرة الى معسكرات الإرهابيين في جبل الشعانبي و بعض المناطق الأخرى التي سنأتي على ذكرها بالتفصيل.

رحلة البحث قادتنا الى منطقة خمودة بالقصرين و منها الى مدينة تاجروين بالكاف حيث التقينا عنصرا سرّيا في المخابرات العسكرية الجزائرية دخل تونس منذ موفّى ديسمبر المنقضي للقيام بمهمّة استخباراتية لحساب بلاده حول الخلايا الإرهابية و معسكرات التدريب التي يفترض وُجودها على امتداد الشريط الحدودي المشترك.

محدّثنا أكّد بانّه نجح في اجراء تحقيقات على الأراضي التونسية حول الجماعات القتالية المتمركزة في عدد من المناطق الحدودية بهدف معرفة حجمها و جمع معطيات كمّية حول عتادها القتالي و وجهتها و أهدافها المحتملة . و قد تبيّن، و فق المعطيات التي أمدّنا بها، بأنّ ولاية جندوبة تحتوي على ثلاث معسكرات ارهابية (لم يكشف اماكنها) يشرف عليها قادةٌ في رصيدهم تجارب قتالية في كل من افغانستان و العراق و الجزائر تجمع بعضهم علاقة صداقة بشخصين يشغلان خططا سياسية رفيعة في تونس حسب قوله.

واضاف مصدرنا ذاته بانّ اللواء احمد بوسطيلة قائد جهاز الدرك الوطني الجزائري اشرف بنفسه على التحقيقات الإستخباراتية في الغرب التونسي وتولّى على اثر ذلك اإاجتماع بشكل سرّي مع القادة السياسيين و العسكريين و الأمنيين على مستوى الناحية الخامسة (ولايات الشرق الجزائري) لتفكيك التقارير الواردة من تونس و رسم استراتيجية عمل تهدف الى منع وصول المجموعات المسلّحة الى الإراضي الجزائرية و تجفيف منابع الإرهاب على الحدود التونسية الجزائرية المشتركة.

كان بالامكان تفادي الكارثة

جملة هذه المعطيات تمّ توجيهها بشكل متواتر منذ مطلع العام الجاري الى المخابرات التونسية في اطار التنسيق الثنائي بين تونس والجزائر لمكافحة الإرهاب، غير انّ الاداء التونسي بدا “محيّرا جدّا” بالنسبةإالى الطرف الجزائري الذّي بات يخشى على أمنه و حدوده من الإختراق.

يقول مصدرنا ذاته، عنصر المخابرات الجزائرية المتواجد حاليا في الشمال الغربي، بأنّ الجزائر كانت قد نبّهت الجهات التونسية المختصّة منذ فترة الى وجود تحرّكات مريبة في جبل الشعانبي و بعض المناطق الحدودية الأخرى تمّ رصدها عبر الأقمار الصناعية بالإضافة الى إثباتها ميدانيا من خلال التقارير الاستخبارتية مع تمكين الجهات المختصّة في تونس من احداثيات دقيقة لمعسكرات الإرهابيين قصد مداهمتها او توجيه ضربات جويّة أو برّية مباغتة لها قبل أن تنجح هذه الخلايا الإرهابية في التمركز و تأمين وجودها. إلاّ انّ الجهات التونسية لم تحرّك ساكنا و لم تبادر الى تفكيك هذه المعسكرات و تجاهلت التحذيرات الجزائرية ما دفع بالجزائر – وفق مصادرنا- الى التكثيف من أنشطتها الاستخباراتية في تونس و تحريك ألوية الدرك الوطني و القوّات الخاصّة للجيش الشعبي الجزائري باتجاه المناطق الحدودية حيث تمّ تأسيس قطب أمنيّ جاهز للتحرّك و التصدي لكل ما من شأنه المس بأمن التراب الجزائري.

بعض المصادر الجزائرية – غير الرسمية – وثيقة الإطّلاع أكّدت أنّه

كان بالامكان تفادي سيناريو الشعانبي بشكل بسيط و سهل جدّا و تفكيك الخلايا الإرهابية من خلال عملية أمنية و عسكرية لا تتجاوز مدّتها اليومين على أقصى تقدير خلال الفترة السابقة غير انّ غياب ارادة سياسية حقيقية لدى الجانب التونسي لإنهاء الوضع أتاح للمجموعات الأرهابية تأسيس عدّة معسكرات و خلايا نائمة في كل من جندوبة و قرى القصرين و الكاف تحظى بتسليح جيّد.

ولم تُخف مصادرنا اشتغالها حاليا على فرضيّة ان تكون هذه المعسكرات الإرهابية المتواجدة على الجانب التونسي من الحدود التونسية الجزائرية المشتركة موجّهة لزعزعة النظام العام في الجزائر تمهيدا لخلق حركة تمرّد مسلّحة مدعومة من قوى خارجية تروم اسقاط النظام الجزائري عبر بثّ الفوضى وخلق بؤر “جهاديّة” على شاكلة ما يحدث في سوريا حسب ما جاء على لسانها من معطيات.

واتّهمت مصادرنا أطرافا سياسية تونسيّة نافذة بالإنخراط في مخطّط اقليمي لتصدير العنف و الفوضى الى الجزائر، مضيفة قولها

لدينا معلومات دقيقة جدّا سنكشف فحواها في الوقت المناسب تؤكّد بأنّ جهات تونسية بصدد تجهيز معسكرات إرهابية على طول الشريط الحدودي مع الجزائر بدعم من جهات أجنبية في إطار مؤامرة جاهزة لإضعاف النظام الجزائري إستعدادا لإسقاطه.

مصادرنا الجزائرية أكّدت انّ احداث جبل الشعانبي تندرج ضمن هذا الإطار و انّها “مجرّد مناورة لإيهام الرأي العام الوطني و الدولي بانّ تونس ليست مقصّرة في محاربة الإرهاب”.

ما ورد على لسان عنصر المخابرات الجزائرية يلُوح خطيرا للغاية و يشي بتقصير السلطات التونسية حيث ترتع المخابرات الاجنبية في بلادنا دون حسيب أو رقيب.

كوادر أمنية ميدانية تبوح بأسرار الجبل

مسلسل الشعانبي لا يمكن ان تكتمل حلقاته ما لم ننصت الى أهل الميدان الذّين يشاركون حاليا في مواجهات مصيرية ضدّ اشباح لا وجود لهم سوى من خلال الأذى الذّي تسبّبه ألغامهم للأمنيين و العسكريين.

يقول مصدر من طلائع الحرس (مباشرة من الشعانبي) بانّ

الحكاية اصبحت تقترب أكثر الى المسرحية منها الى مكافحة الإرهاب فمنذ اكثر من اسبوع و نحن نمشّط هذا الجبل مترا بمتر دون ان نجد لهم اثرا، و في المقابل نجد ألغاما تنفجر في وجوهنا رغم انّنا سبق لنا أن مشّطنا بعض المناطق التي انفجرت فيها الألغام دون أن نعثر على أيّ لغم.

و يضيف مصدرنا قوله

بصراحة و دون لفّ أو دوران لقد باتت تحدونا قناعة راسخة مفادها انّ هنالك يدا خفيّة تقوم بإفشاء أسرار تحركاتنا في الجبل للمجموعة الإرهابية حتّى يتسنّى لها زرع الألغام في طريقنا و تغيير تمركزها كلّما أوشكنا على الوصول إليها. يبدو أنّه قد وقعت التضحية بنا من أجل ان لا يصاب الإرهابيون بأذى .. يموت حماة الوطن من أجل ان يحيا الإرهاب آمنا.

شهادة عون طلائع الحرس لم تكن شاذّة عن سياق بقيّة الشهادات التي استقيناها من عدد آخر من الأمنيين و العسكريين الذّين شاركوا في المهمات القتالية في جبل الشعانبي.

لقد سئمنا هذا الوضع – يقول ضابط سام في الجيش – اذ بتنا نُساق الى المجزرة كالخرفان. بتنا نشعر بل ندرك جيّدا أنّنا نُساق الى الألغام بأعين مغمضة و بتنا متأكّدين أنّ الإرهابيين سينجحون في مغادرة مخابئهم قبل أن نصل إليهم رغم تحرّكاتنا السرّية المحترفة.

مصدرنا استدرك في ختام حديثه قائلا :

نحن لا نتّهم قادتنا الميدانيين فهم يواجهون المصير ذاته و معرّضون أكثر من غيرهم للأذى، بل نوجّه اتّهاماتنا رأسا للسلطة السياسية التي – على ما يبدو – ترغب في إطالة أمد الأزمة و إتاحة المجال للإرهابيين حتى يفلتوا من قبضتنا.

انتهت رحلتنا الى الشريط الحدودي و غادرنا جبل الشعانبي باتّجاه العاصمة غير أنّ ما قاله عنصر المخابرات الجزائرية حول وجود ثلاث معسكرات إرهابية في جندوبة ظلّ يجول بذهننا و يدفع بنا لرسم نقاط استفهام ربّما يتسنّى الإجابة عنها في تحقيقات لاحقة، فالمسألة لا تتعلّق بسبق صحفي بقدر ما تتعلّق بالمصلحة العليا للوطن.

 
walid-mejri-chaambi