arab-spring

الثورات العربيّة التّي انطلقت شرارتها من تونس لم تغيّر واقع شعوبها فقط.. بل غيّرت قواعد العمل السياسيّ في المنطقة وخريطة التحالفات وفتحت الباب على مصراعيه لإعادة تكوين مشهد دوليّ جديد.
فبغياب دور مؤثّر للدول العربيّة الكبرى كمصر التّي لا زالت تعيش حالة من الفوضى والغموض بخصوص مستقبلها السياسيّ وفي ظلّ استمرار الأزمة السوريّة و انزلاقها إلى حرب أهليّة و تدخّل أجنبي مباشر، وبغياب العراق المحتلّ عن هموم و مشاغل الأمّة … فانّ المنطقة تعيش حالة من الفراغ السياسيّ المرعب الذّي أثار مطامع الكثير من الأطراف الدوليّة وأفقد أطرافا أخرى مناطق نفوذها الكلاسيكيّة.

اليوم وبعد مرور ما يزيد عن العامين على أطول ربيع عربيّ … بدأت تتجلّى أمامنا صورة واضحة للاعبين قدامى انحسر دورهم في المنطقة لعلّ أهمّهم روسيا التّي خسرت حليفها القذّافي وتكاد تخسر حليفها الأهمّ في المنطقة، بشّار الأسد، وهو ما يدفعها للاستماتة في الدفاع عن النظام السوريّ والدخول كطرف مباشر في الصراع عبر تسليح الجيش النظاميّ السوريّ وتمثيل النظام ديبلوماسيّا والتحدّث بلسانه بعد أن قرّر المجتمع الدوليّ عزله. ويبدو أنّ روسيا ماضية في هذه السياسة بعد أن أيقنت أنّ أبعاد الحراك تتجاوز انتفاضة شعب يطالب بالحريّة بل تحوّلت سوريا إلى رقعة شطرنج يحاول الجميع أن يجد دورا له عليها وأن يكيّف نتيجة الصراع وفق مصالحه.

أمّا الصين فهي على ما يبدو ما زالت تراهن على وزنها الاقتصاديّ في الأسواق العربيّة وترى أنّ موقفها السيّاسيّ من الثورات العربيّة لن يؤثّر في حجم وجودها في السوق العربيّة ومدى احتياج المستهلك العربيّ لمنتجاتها التّي تتماشى وقدرات هذا الأخير الاستهلاكيّة التّي ما فتأت تتراجع.

الخاسر الثاني من الثورات العربيّة هي المملكة العربيّة السعوديّة التّي فقدت حليفها مبارك وخسرت وأثارت سخط الشعوب العربيّة باستقبالها لبن عليّ و لعلاجها عليّ عبد اللّه صالح هذا بالإضافة لانحسار دورها وتأثيرها أمام الصعود الصاروخيّ لقطر المدجّجة بعائدات الغاز و بالجزيرة والتّي تسعى أن تكون “محرّك الدمى” الجديد في المنطقة بالوكالة عن الولايات المتحدّة الأمريكيّة والتّي لم يعد يخفى على أحد جهود هذه الأخيرة لتقزيم التأثير السعوديّ وهو ما تجلّى من خلال الصراع الإعلامي والمخابراتي على الأرض السوريّة بين السعوديّة الساعية إلى الحفاظ على خيوط مستقبل الأزمة السوريّة وبين قطر اللاهثة نحو حلم السيطرة على مستقبل المنطقة ككلّ والذّي يتواصل اليوم في معركة ليّ الأذرع على الساحة المصريّة بين تنظيم الإخوان الذّي استفاق من ضربة 30 جويليّة ويسعى لقلب الطاولة على فريق السيسي.

أمّا إيران، فقد حاولت في البداية أن لا تغرق أكثر المشاكل العربيّة وسعت إلى اتّخاذ مسافة من جميع الأطراف سعيا منها إلى العودة مرّة أخرى إلى الساحة العربيّة بعد اتضّاح المشهد أكثر ولكنّها وجدت نفسها مجبرة على أن تتدخّل مباشرة في الأزمة السوريّة لعلمها أنّ انهيار النظام السوريّ سينهي نفوذها في المنطقة وسيؤدّي إلى مزيد خنق تحرّكها في شمال فلسطين المحتلّة وسيكون متبوعا بحرب إلغاء لأحد أهمّ حلفائها وأدوات عملها السياسيّ والعسكريّ وهو حزب اللّه الذّي سيكون القضاء عليه بداية العمليّة الكبرى لتركيع النظام الايرانيّ إن لم نقل إسقاطه. فقبل توجيه الضربة النهائيّة إلى إيران، كان لا بدّ من تقليم أظافرها ومنعها من القيام بأيّ ردّة فعل، لذلك فمعركة سوريا مصيريّة بالنسبة إلى نظام الملالي، فهم يفهمون أنّ دخولهم المعركة الحاسمة ستكون خاسرة إن أحرقت أوراقهم على الحدود الشماليّة للكيان الصهيونيّ. كما أنّ سقوط النظام السوريّ سيؤدّي إلى خنق حزب اللّه وحرمانه من “الرئة” السوريّة قبل جرّه إلى نزاع داخليّ مقترن بضربات خارجيّة شبيهة بما حدث لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة وسيناريو إخراجها من لبنان …

هذا ولا يغيب عن بال أصحاب القرار في طهران أنّ توجيه ضربات انتقاميّة على أراضي دول الخليج لن يكون بنفس التأثير إن كانت تلك الضربات على الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة وهي تعلم أنّ الإستراتيجية الأمريكيّة لإسقاط “التفاحة الإيرانية” تقوم على محاصرة الشجرة وقطع المياه عنها حتّى تجفّ و تسقط التفاحة من تلقاء نفسها أو بهزّة بسيطة بدل إجهاد أنفسهم بمحاولة التسلّق و ما قد يحيق بهذه العمليّة من مخاطر …. لذا سينخرط الجميع و دون نيّة للتراجع في معركة كسر العظام.

تركيّا، واثر مخالفة حكّامها وصيّة “أتاتورك” بالابتعاد عن “المستنقع العربيّ” على حدّ تعبيره، بعد أن جوبهت جهودهم بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بالرفض، فقد انتهجوا سياسة التوسّع السياسيّ والاقتصاديّ جنوبا وشرقا محاولين التقارب مع الأنظمة العربيّة السابقة عبر البوّابة الاقتصاديّة، وبعد هذه الثورات، و ما أفرزته من صعود الإسلاميين إلى سدّة الحكم في مصر وتونس وتصدّر الإسلاميين للمشهد المعارض في سوريا، وجد النظام التركيّ الفرصة سانحة لاستكمال تدعيم نفوذه في المنطقة واكتساح الأسواق العربيّة واستغلال التقارب “الإيديولوجي” لتذليل العقبات السياسيّة و كسب نقاط إضافية في وجه الخصوم الّذي تجمعه وإياهم نفس الأطماع تجاه المنطقة.

أمّا فرنسا فيبدو أنّها أضاعت نفوذها ودورها الكبير في تونس بعد الثورة اثر موقفها السلبيّ ودعمها الرسميّ لنظام بن عليّ، وقد سعت لاستدراك “هفوتها” عبر استمالة العديد من النخب السياسيّة وتقديم وعود الاستثمار والتدخّل بكلّ ثقلها في الثورة الليبيّة محاولة أن تضمن موطئ قدم لها في منطقة تعتبرها حقّا تاريخيّا وحزاما أمنيّا وعسكريّا استراتيجيّا.

إنّ حالة المخاض العسيرة التّي تشهدها المنطقة الثائرة بامتياز وخروج العديد من اللاعبين التقليديّين من المنطقة وإن مؤقّتا، فتح المجال لترسيخ نفوذ أطراف أخرى لعلّ أهمّهم الولايات المتحدّة الأمريكيّة التّي سعت ومنذ انتصار ثورة تونس إلى استمالة هذه الأخيرة وإبعادها عن الحضن الأوربي وإيجاد موطئ قدم في السوق التونسيّة التّي ستفتح أمامها سوقا مغاربيّة مهمّة تخفّف من وطأة المشاكل الاقتصاديّة الأمريكيّة، بالإضافة إلى تشديد قبضتها على النظام الحاكم في مصر وتطويعه لخدمة أجنداتها… كما أنّها تسعى لتركيع سوريا التّي كانت دائما دولة معارضة للدور الأمريكيّ وهو ما تجلّى عبر تسليح المعارضة وخنق النظام السوريّ ديبلوماسيّا و اقتصاديّا بالتعاون مع حلفائها في المنطقة و شركائها في حلف الناتو.

أمام هذا التسابق المحموم نحو المنطقة وانشغال الجميع بأخبار الثورات والانتخابات والاستفتاءات… يجد الفلسطينّيون أنفسهم دون دعم أو اهتمام في مواجهة الكيان الصهيونيّ الذّي يحاول استغلال الظرف للانفراد بالفلسطينيّين و محاولة تركعيهم و إضعاف صمودهم، و هو الذّي يبدو أكبر الرابحين من حالة الفراغ والفوضى التّي تعيشها المنطقة ككلّ، ويراها فرصة سانحة لفرض الحلّ النهائيّ وإجبار الفلسطينيّين على تقديم أكبر قدر من التنازلات… متناسين أنّ الفلسطينيّين وللأسف، لطالما كانوا وحدهم في مواجهة آلات القتل الإسرائيلية والمؤامرات الدوليّة ضدّهم.

في هذه المرحلة المفصليّة من تاريخ المنطقة، على الشعوب العربيّة أن تنتبه من ارتهان حاضرها ومستقبلها في أيدي أطراف أجنبيّة لن تقيم بأيّ حال من الأحوال وزنا لمصالح هذه الشعوب… وعلى الحكّام و السياسيّين الجدد أن يفهموا أنّ المهمّ قد أنجز ولكنّ الأهمّ هو بناء و تأسيس دول ذات سيادة حقيقيّة … وعليهم أن يتذكّروا دوما أنّ الثورات التّي لا تغيّر بشكل جذريّ أحوال الدول نحو الأفضل… تتحوّل في النهاية إلى مهزلة.