المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

confusion

بقلم محمد سميح الباجي عكاز،

المراقب للحياة السياسيّة اليوم في تونس يقف عند مصطلحات معيّنة تتردّد كثيرا و تثير الكثير من الجدال والخلاف بين النّاس لعلّ أهمّ مصطلح بينها هو العلمانيّة. و يكمن سبب الخلاف أساسا إلى عدم فهم الكثيرين لهذا المصطلح و اندفاعهم الأعمى للدفاع عنه و أو مهاجمته.

عكس ما يتصوّر الكثيرون فانّ العلمانيّة تقوم على احترام الأديان و حريّة المعتقد ضمن إطار اجتماعيّ و ثقافيّ عام و لا تقوم على ازدراء الأديان و تهميشها كما يروّج البعض، أمّا كرؤية سياسيّة و مشروع مستقبليّ لناء الدولة فالعلمانيّة هي فصل الدين عن الدولة، بمعنى أن لا تكون للدولة بمؤسّساتها  صبغة دينيّة معيّنة  في التعاملات الإدارية و التخطيط الاقتصاديّ و العلاقات الخارجيّة.

أمّا على مستوى الاجتماعيّ و القانونيّ، فالدولة العلمانيّة تعمل على حفظ التوازن في المجتمع و ضمان عدم تسلّط طائفة، على أخرى عبر ضمان حياديّة مؤسّسات القرار و التعامل مع المواطنين على أساس الحقوق و الواجبات لا على أساس الدين أو العرق.

بالنسبة للدعوات التّي تتعالى اليوم لإقامة الدولة الدينيّة في تونس … علينا أن نتذكّر جيّدا أنّ الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم قد مات و لم يحدّد للمسلمين مثالا  معيّنا للنظام السياسيّ من بعده…. و لن يكون بإمكاننا إتباع نمط حكم الرسول … لأنّه ليس بشرا عاديّا .. و بالنتيجة ستكون كلّ محاولة لتطبيق و نقل ما حكم به فاشلة أو مشوّهة أمّا الخلافة فقد كانت اجتهادا من أصحاب الرسول.

لقد فتح الرسول المجال للمسلمين من بعده  للاجتهاد و تشكيل أنظمتهم السياسيّة وفق متطلّبات كلّ عصر لأنّ التقليد و الجمود  لن يخلّف سوى التشوّه و التخلّف.

كما أن بعض المثقفين يقعون في خطأين قاتلين، الخطأ الأوّل تصوير الصراع مع الجماعات أو الأحزاب التّي تدّعي أنّ الإسلام مرجعيّتها على أنّه صراع ضدّ الدين في مجتمع الدين فيه ثقافة وممارسة تتداخل في أبسط تفاصيل حياتنا …. بينما الصراع الحقيقيّ هو ضدّ قراءات معيّنة للدين ومحاولة فرض تلك القراءات عبر الإرهاب الماديّ و الفكريّ….

أمّا الخطأ الثاني فهو التأثّر والانصهار بمثال غربيّ لا يتوافق غالبا مع خصائصنا الثقافيّة و ارثنا التاريخيّ… والانبهار بكلّ ما تصدّره لنا الدول الشمال و الغرب من أسلوب حياة وأنماط تفكير في ظلّ نرجسيّة و عنجهيّة صريحة تجاهنا…. فتتحوّل حالة الانبهار والانصهار في النموذج الغربيّ لبعض مثقّفينا وسياسيّينا إلى حالة من الاغتراب الثقافيّ وانعزال داخل أبراج عاجيّة والاكتفاء بدور المثقّف أو السياسيّ المراقب …

على الكثيرين أن يفهموا أنّ الدين ليس أفيونا للشعوب…. بل هو ضرورة نفسيّة وحتميّة …. فعبر تاريخ البشريّة …. كثير من الشعوب لم تعرف النار أو الملح أو الكتابة أو المسرح أو غيره من الأشياء…. ولكن لم يوجد قطّ شعب لم يصنع لنفسه آلهة. وعلى الكثير منّا أن يفهموا أنّ مستقبلنا لا يجب أن يكون استنساخا…. بل وليد إبداعنا و تصوّرنا الخّاص، فالعلمانيّة لم تكن يوما جنسا وخمرا ومجاهرة بالإلحاد… و الدين لم يكن أبدا لحية وخمارا ومجاهرة بالمناسك والشعائر….

التحرّر هو تحرّر العقل من الأوهام ومن التطرّف والانغلاق على الذّات واندفاعا نحو المعرفة. والتديّن هو التعفّف عن الإساءة للذات وللآخر واحتراما لخيارات الآخرين ودفاعا عن الحقّ أيّا كان دين أو لون صاحب الحقّ.

أمّا مسألة التفسّخ الأخلاقيّ التي يزجّ بها في هذا الجدال، فهي ليست نتاجا لتراجع الالتزام الدينيّ كما يحاول البعض الترويج لذلك.. وحلّها ليس دينيّا بحتا، والأخلاق لا ينبغي حصرها ضمن قاموس الجنس و الجسد و المرأة… بل ينبغي دراستها و تحليلها بشكل أشمل وربطها بإطار تاريخيّ معيّن.

ما نعيشه اليوم من مظاهر لا مبالاة و انتهازيّة و تراجع للقيم ينبغي ربطه بممارسات مثّلت سياسة رسميّة لنظام مثّل و بجدارة الوجه الحقيقيّ للرداءة السياسيّة و قد امتدّت هذه الأخيرة لتشمل جميع المجالات… فتردّت الحياة الثقافيّة و الفنيّة و تدنّى الوعي الجماعي و تراجعت القيم الأخلاقيّة و استشرت ثقافة العنف اللفظيّ و الماديّ لتشمل الرياضة و التعليم و الشارع و العائلة. و شيئا فشيئا صارت الرداءة هي القاعدة و تحوّلت القيم النبيلة و الالتزام و السعي نحو الجودة استثناء.

و لم يكن النظام السابق ليشذّ عن تيّار جارف جعل من هذا الزمن بامتياز زمن لرداءة.

إذن فما نعانيه كمجتمع يرنو دوما إلى التقدّم و مواكبة العصر و يرفض في الآن ذاته أن ينسلخ عن هويّته العربيّة و تراثه الدينيّ أسبابه فكريّة و سياسيّة و اقتصاديّة بالأساس. فما نعيشه اليوم من صراعات لا تمتّ بصلة إلى مشاكلنا العاجلة و ما نشهده يوما بعد يوم من تزايد الاحتقان الداخليّ و تنامي البغض بين أفراد المجتمع الواحد إنّما سببه الرئيسيّ اختلاط المفاهيم و رفضنا للحوار و الإصغاء لبعضنا البعض و الاعتماد على الأحكام المسبقة المشوّهة.

إن الثورة بما تمثّله من فرصة تاريخيّة لإعادة رسم ملامح مستقبل كنّا يئسنا من أن نكون طرفا فيه، يجب أن تقوم على أساس محاربة الرداءة بالجودة. و مقارعة التسلّط و الرفض بالحوار و محاربة كلّ ما من شأنه أن يعيدنا إلى ما كنّا عليه من كبت وانقماع وسطحيّة.

نحن كتونسيين نفخر دوما بإرثنا التاريخيّ الذّي أثرته مختلف الشعوب و الأديان و نعتزّ بهويّتنا العربيّة و نتمسّك بثقافتنا التّي نهلت من الإسلام لقرون عدّة و لا تزال… و لكنّنا نريد دولة لجميع التونسيّين أيّا كانت توجّهاتهم و اختياراتهم العقديّة.