…هذه هي السياسة، عداء ثم تحالف و العبرة بالمحصلة النهائية…
راشد الغنوشي
هكذا و نحوه كرر اﻷستاذ المفوه الشيخ (عند مقلديه) خلال برنامج تلفزي خصص لحواره *. و لعل العنوان فضح (لمن قرأ لماكيافيلي أو حتى سمع عنه) أني لن أتمالك أن أشير إلى تناسق هذا التصريح، بل نسبته رأسا إلى ماكيافيلي في “أميره” الشهير.
أهيب بقراء هذه الكلمات مطالعة كتاب “اﻷمير“، و هو على صفيحات معدودات، بدون تأخير (فلا يأخرنَك و يمنعك عن فائدته سوى إكمال قراءة هذه السطور بالطبع).
و الماكيافيلية مدرسة مركزية في فهم و تعاطي السياسة إنبثقت عن صاحبها فتعددت شعابها التطبيقية و لكنَني أسوق لكم من مبادئها أن “الحفاظ على إستقرار الحكم بيد الحاكم أنبل غاية سياسية تطلب” و أن “الغاية تبرر الوسيلة“. فلا يوجد، ماكيافيليَا، ما يمنع حاكما من القتل و الظلم و البغي (والتحالف مع من إغتصب و قتل) مادام ذلك للحفاظ على الحكم (الدولة) و في سبيل توطيده.
و هنا يمكن أن نعنعن فنقول: قال الشيخ الغنوشي عن المفكر ماكيافيلي:”الغاية تبرر الوسيلة“.
في المقابل نجد أن الشيخ “زاهد في الحكم” بل و يسوق تلك العبارة في إطار دفاعه عن طريقة “خروجه من الحكم” و هذا ظاهريا يتعارض مع الغاية الرئيسية التي يقصدها ماكيافيلي. لكن الشيخ، و في سياق تبريري، يكرر بإصرار تلك العبارة المبتذلة، لتدرع كل المنافقين بها أكثر من المخلصين لها: “لمصلحة تونس” . أي أن عبارة “مصلحة تونس” الفضفاضة هذه هي الغاية التي تبرر أية وسيلة عنده.
لا. اﻹسلام، أيا شيخنا، لا يتحمل أجندة سياسية ماكيافيلية.
بل إن مقابلة و دحض المقولات الماكيافيلية تقع بالقلب من الرؤية اﻹسلامية المعاصرة. فالخطاب اﻹسلامي يمكن أ ن يعتبر في جانب منه “ردَة فعل” غير مباشرة تطرح المعايير اﻷخلاقية اﻹنسانية و الدينية من صدق و شفافية و عدل و شجاعة و حسم و عفو و الجنوح للسلم كبدائل ﻹدارة العملية السياسية عوض المكائد و تفاهمات الغرف المغلقة و الكذب والكيد.
فلنذكر، لماذا يمارس اﻹسلامي السياسة أصلا؟
هل دخلتم هذه المعمعة (على المستوى الشخصي حتى) حتى تمارسوا سياسة الغرف المغلقة و تتكلموا بدبلوماسية (أي تكذبوا) و تفقؤوا أعين ناخبيكم بابتسامتكم مصافحين سفاحي شعبكم؟ هل دخلتم السياسة حتى يهينكم الناس و لا تملكوا لهم ردَا (ولا حتى معنويا)؟ كفُوا عن إدعائكم الصفح و التعالي عن مهاجميكم و أنتم لا تملكون إعلاما و لا إدارة و القضاء ضدكم و حتى إن أردتم القصاص فلا سبيل لكم حتى على من دعى صراحة لتقتيلكم و تقسيم الوطن فما بالك بمجرد إهانتكم. الحلم و الصفح صفح رسول اﻹسلام، صلى الله عليه و سلم، الذي قتل من أعدائه 500 رجل و صفح عن قريش و هم بين يدي جيشه. بعد إنقلاب مصر و السيف قد وقع على رقاب كل إخواني بها، يصبح تبرير “مصلحة تونس” حقا مدعاة ﻷسف (حتى لا نقول السخرية).
أخاطبكم شخصيا
إن كان تقدم “المشروع اﻹسلامي” يستوجب نسف أدنى مبادئ اﻹستقامة و اﻷدب و تحمل المهانة فبئس المسعى هذا. أنصاركم البسطاء يكررون بالمقاهي، لتخدير أنفسهم لا غير، أنكم “تضمرون اﻹسلام” و لكن ما باليد حيلة اﻵن. لقد تمكنتم من حيث تريدون أو لا، من تجذير فكرة الضعف و المظلومية السلبية و فكرة هذا “التمكين المستقبلي” على شاكلة “المهدي المنتظر” لدى النهضويين. فهاهم دائما متعلقون بمستقبل ساحر سيحكمون فيه بدستور و مؤسسات دولة مستقرة و “يطبقون” أفكارهم التي ذبحتها (و لا أقول شوهتها) تجربة قياداتهم السياسية. و لكأني بالجماعة لم يستفيقوا من غشاوة العمل السري بعد. و يعون أنًهم، كما غيرهم، كتاب مفتوح لدى أعدائهم و كما يكيدون للمستقبل يكاد لهم. و في تونس و خارجها من يرى في الفكرة اﻹسلامية أيديولوجية إرهابية مهددة وجوديا. و هؤلاء في تونس هم النخبة و مجتمع اﻷعمال و البيروقراطية و مجتمع القضاء و أصحاب اﻹعلام (بدرجات متفاوتة في اﻹستئصالية).
إسلاميون و إتجاه إسلامي و شورويون و محافظون و حتى خوانجية و إرهابيون. هكذا أنتم عند خصومكم و مهما حاولتم التملص و اﻹنسلاخ هكذا ستؤتون.
نعم تحملون راية اﻹسلام السياسي بتونس و تقودون أكبر حزب جماهيري. و رأي الجمهور كما تعلمون أيا شيخنا الديمقراطي، مجرد حجَة أخرى وورقة تفاوض تباع و تشترى و تلك سنَة ارتضيتموها. تتباهون بتماسك حزبكم. و كيف لا يتماسك حزبكم؟ و الخوف من هذه اﻷمواج العاتية و المعادية لكل نفس إسلامي خارجه و الخوف من عداء الجماعة نفسها عند اﻹنشقاق (إجتماعيا قبل البعد السياسي) هو سبب رئيس لهذا التماسك (أو هي المبادئ و قيم اﻹسلام و الثورة تجمعكم؟).
الحبيب اللوز و الصادق شورو أحسن مثال. فهاهما قد صدعا رؤوسنا بتصريحاتهما المجلجلة حول “الشريعة” و اﻹسلام و علويتهما منذ سنتين. تدَعيان أنكما لا توافقان على اﻹستسلام و التفريط في أدنى ثوابت حركتكم اﻹسلامية. فأعلمكم أن الساسي ينشق لمَا يحيد حزبه عن المبادئ اﻷساسيَة التي إلتأمت الجماعة من أجلها أصلا. و التهديد باﻹنشقاق هو من الوسائل الديمقراطية اﻷساسية لضمان تأثير العضو فى حزبه. و سقف كلامكم المرتفع و الذي يسمع و لا يجد أية صدى عمليا يساهم في تسويف الخطاب اﻹسلامي و التعود عليه كمجرد رافعة و لافتة لا يترتب عليها آثار سياسية. كفوا عن تسجيل المواقف. كلنا نعلم أن اﻷمر كان مقضيا و لا داعي للعنتريات اﻵن.
لقد تركتم الضباع تلتهم كل نفس إسلامي ثوري أو إصلاحي فكنتم دائما ما تسارعون إلى التخلي عن إخوتكم(والي سليانة، مدير الديوانة، وزير الخارجية…). أو أن ذلك أيضا يقع ضمن خانة “مصلحة تونس“؟ و ليس ضمن تخوفكم المبالغ فيه و قدرة خصومكم على إرباككم و تحقيقهم إنجازات تشجعهم على الفتك بكل من يزعجهم منكم أو من الثوار. ماكيافيلي نفسه يا شيخنا ليرى أن نهجكم هذا يهدم أسس الحكم و يجرئ أعداء الدولة عليها حتى بعد رحيلكم. فمابالك بمدعي اﻹسلامية يعاقبون إخوتهم بأيديهم لمجرد قيامهم بواجبهم؟
إسلاميَا ليس كل تنازل يمكن تسويقه على أنه مندرج في إطار العمل وفق مقولة “فقه الموازنات و المصالح”. و قد صار هذا النهج مجرد إسم آخر لاعتناق فكرة “التقية” ( و هو الكذب المشرعن دينيا) و التمسك بأدبيات “التمكين“. بالعامية، ما تفعلونه يجسم مقولة “تمسكن حتى تتمكن“.
شيخنا المقاوم! المسلم يتحرى الصدق و الوضوح و يعلم أن التلبيس على الناس بمعسول الكلام كذب و أقله تضليل. المسلم لا يتمسكن و لا يذل إلا لربه. المسلم ليس ماكيافيليا. فمابالك باﻹسلامي؟
لا يشكك أحد في دور حركة النهضة الرئيسي و خصوصا شيخها في إنجاح العملية السياسية و دفعها قدما. و لا داعي لاتهامكم بعدم الثورية أو بالفشل فكل ذلك فات وقته و كما قلنا، اﻷمر مقضي و نعلم أنه خرج من أيديكم إلى أيادي أقوى.
رهانكم الكبير ﻹرضاء خصومكم ثم الفوز باﻹنتخابات في غفلة من الزمن و من أعدائكم جوابه من كتاب الله باﻵية120 من سورة البقرة. ألا أن مبايعة فتى صادق مقدام لكم في إنتخابات 23 أكتوبر خير لكم عند الله من رضى كل عتاة اﻷرض و جبابرتها. أرجو ألا يزعجكم كلامي هذا و قد خرج عن “الموضة” و أنتم الديمقراطيون الحداثيون.
أتساءل: لو كان بن علي ذكيا أكثر (قيد أنملة) و “حل اللعب” في إطار إصلاحات دستورية و ديمقراطية و مكنكم من المشاركة في الحكم (أي صفقة بين النهضة و التجمع للتعايش)، فبماذا تختلف “صفقتكم” اﻵن عن هكذا سيناريو؟ أليست كلها طرقا حلالا لتحقيق “مصلحة تونس“.
و ختاما أنا على يقين من أن كثيرين لن يروقهم ما عبَرت عنه في السالف من مقالي و كثيرين أيضا سيغمرهم الزهو و لكنني أربأ بنفسي عن أي إصطفاف. لقد مارست حريتي في التعبير و هو أحد المكاسب الرئيسية التي أتت بها الثورة التي إليها أنتسب.
—–
هذا مقالكم أخي العزيز و أرجو أن أفهم مدى الترابط بين وجهتي نظرك و إعطائنا رأي واضح و يمكن تطبيقه
و هذا منذ 2012
تطبيقيا، أعتقد أن كل ذلك قد إنتهى. أعتقد أن تطبيق الدستور و خصوصا الفصول المتعلقة بالحكم المحلي (يجب أن يترافق مع جباية محلية) هو اﻷمل اﻷكبر
très belle article