All-Family-State-Capture-Tunisia

التشريعات يمكن أن تحمي المستهلكين من الأسعار التي يفرضها الاحتكار أو من تسويق المنتجات الخطرة، كما أنّها يمكن أن تحمي حقوق المستثمرين، ولكنّ هل يمكن الالتفاف عليها لتتحوّل لمصلحة أطراف بعينها؟
الصفحة 24؛ كلّ شيء في العائلة: الاستيلاء على تونس

محتوى التقرير

تحت عنوان كلّ شيء في العائلة: الاستيلاء على تونس.، نُشر هذا التقرير في أواخر شهر مارس من سنة 2014، ضمن سلسلة من الوثائق التي أصدرها البنك الدولي والمتعلّقة بالشؤون السياسيّة. هذا البحث الذّي تناول الفساد الاقتصادي في تونس بين عامي 1987 و 2010 في ظل نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، يهدف “لتحديد العلاقة بين السياسات الاستثمارية ومصالح رجال السياسة التونسيّين في العالم الأعمال” وذلك من خلال ثلاثة محاور رئيسيّة:
1 . تحديد القطاعات التي كانت الشركات التابعة لحاشية بن عليّ تنشط فيها.
2 . توثيق الفارق في المردوديّة بين الشركات التابعة لحاشية بن علي ومنافسيهم ودراسة إلى أي مدى أثّرت القيود القانونيّة على هذا الفارق.
3 . النظر في ما إذا كانت القطاعات التي كانت الشركات التابعة لحاشية بن علي ناشطة فيها خاضعة أكثر من غيرها للقيود القانونيّة الجديدة وتحديد طابع هذه القوانين.

لدراسة العلاقة بين التشريعات و أداء الشركات التابعة للحاشية، ركّز التقرير على تطوّر مجلّة التشجيع على الاستثمار، منذ إنشائها في سنة 1993 حتى صدور المراسيم الرئاسية التعديليّة والتي بلغ عددها 22 مرسوما. و قد أشاروا كمثال إلى حالة ماك دونالد، حين رفضت حكومة بن علي السماح لها ببعث فرع في تونس، وهي حالة تعكس حجم الصعوبات التي تواجه المستثمرين الأجانب لدخول السوق التونسية.
النظريات حول آليّات الفساد واللوائح القانونيّة، وفّرت الإطار التحليلي الذي أوضح أنّ القطاعات التي المحكومة بقيود قانونيّة صارمة كانت أكثر مردوديّة لشركات حاشية بن علي أكثر مما هو الحال في القطاعات التي تشملها تلك القيود :
… أرباح الشركات التابعة لحاشية بن علي كانت أكبر في القطاعات الخاضعة للترخيص، أين كانت الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة محدودة. هذا يدل على أن القيود المفروضة تعطي وزنا أكبر، وتزيد من حصّة الشركة في السوق وهو ما ينجرّ عنه زيادة الأرباح. هذه النتائج أثبتت إذن أنّ القوانين المشرّعة كانت لخدمة مصالحهم.

مصادر التقرير

“يعود أخذ القرار بالنسبة للقوانين المتعلّقة بالاستثمار بشكل كبير إلى بن عليّ، بما أنّ التعديلات التي تهمّ قانون الاستثمار يمكن إجراؤها عن طريق المراسيم الرئاسية.”
الصفحة 3، كلّ شيء في العائلة: الاستيلاء على تونس.

كاتبو التقرير كانوا واضحين بخصوص جودة ومصداقيّة مصادرهم وهم “واعون بطبيعة القيود المفروضة على البيانات الإدارية”، التي قد يحتاجونها من المعهد الوطني للإحصاء ، والقباضة الماليّة ،أو بالنسبة لقانون الاستثمار ولجنة المصادرة التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية.

وتعود المعلومات التي اعتمد عليها هذا التقرير إلى لجنة تشكّلت سنة 2011 لتتولّى عمليّة مصادرة أملاك المخلوع وهو ما يمنحها مصداقيّة كبرى تنفي عنها التلاعب أو التزييف.
“والميزة الرئيسية لاستخدام بيانات من لجنة المصادرة هو أن هناك إزالة أيّ غموض حول حقيقة أن هذه الشركات كانت مرتبطة سياسيا بالرئيس.”
(Antonio Nucifora) ، أحد المشاركين في كتابة التقرير أنطونيو نوسيفيرا.
وقد أضاف السيدأنطونيو نوسيفيرا (Antonio Nucifora)، قائلا: “في عهد بن علي، كانت المعلومات المتاحة شحيحة، وهو ما جعلنا عاجزين عن إنجاز مثل هذا التقرير. منذ قيام الثورة سنة 2011، اقترب من المعهد الوطني للإحصاء ووزارة المالية من البنك الدولي لجمع البيانات وجعلها أكثر شفافية. في إطار هذا التعاون، مكّنتنا الوزارة ومعهد الإحصاء من الوصول إلى البيانات الضروريّة لانجاز هذه الدراسة، بل وساعدوها في إعدادها.”

التقرير الكميّ أكّد الواقع الملموس

كان فساد عائلة بن علي معروفا للجميع ويمثل شكلا من أشكال الإحباط بالنسبة للتونسيين، لأنه كان من الصعب تحديد حجم الفساد المستشري والنهب الذي كانوا ضحيّته.
معرض صحافة البنك الدولي .

وفقا لنوسيفيرا و رايكرس و فروند (Rijkers، Freund, Nucifora)، يعتبر هذا التقرير قاعدة بيانات كميّة لازمة لاستكمال الصورة التي يعرفها الجميع وتوجيه أصابع الاتهّام. منذ قيام الثورة، ولكن دون إعطاء معلومات أو أرقام محدّدة: “عندما راحت وسائل الإعلام تنشر معلومات عن الممارسات الاستبدادية لعائلة بن علي وحاشيته على الصعيد الاقتصادي، فإنّها لم تقدّم سوى أرقام ضئيلة أو مبهمة لا تعكس الواقع وحجم الانتهاكات”.

هذا التقرير ليس فقط دراسة شاملة للأنشطة الاقتصادية للأسرة بن علي، مدعّمة بالأرقام وبالإحصاءات وبالخبرات وبالتحاليل الاقتصاديّة، ولكنه أيضا تأكيد للمعلومات المتوافرة والمعلومة من الجميع.

تونس: من “الدولة النموذج” إلى “دولة تحت النفوذ”

لطالما صنّف المنتدى الاقتصادي العالمي الاقتصاد التونسي باعتباره الأكثر قدرة على المنافسة في أفريقيا. بدورهما درج كلّ من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على تشجيع البلدان الأخرى لإتّباع النموذج الاقتصادي التونسي. وقد تبيّنت صحّة العيوب الخطيرة التي كان يعاني منها النموذج التونسي: كانت البطالة والفساد على مستوى عال خلال الفترة التي تمّ خلالها إعداد هذا التقرير، وقد ساهمت هذه العيوب سقوط نظام بن علي.
الصفحة 3، كلّ شيء في العائلة: الاستيلاء على تونس.

كانت الميزة الأكبر لهذا التقرير هي المعلومات التي نشرها والتي كانت سابقا ممنوعة على العامّة. في الواقع، ومن حيث المقاربة والشفافية ودقّة النتائج والتحليلات، لن يساهم هذا التقرير في فهم أفضل لمنظومة فساد بن عليّ وحاشيته فقط، بل وسيكون منطلقا للعديد من البحوث في المستقبل.

ومع ذلك، أي عمل أكاديمي يستوجب الثناء والانتقاد معا. وفي هذا التقرير، لا بد من شجب الالتباس حول دور البنك الدولي في تونس.
في الواقع، كيف أمكن القول بأنّ الاقتصاد التونسيّ في عهد زين العابدين بن علي كان “نموذجا” في حين تمّ خنقه وإخضاعه لنفوذ مجموعة صغيرة من حاشية بن عليّ وعائلته؟ من الصعب أن نصدق أن البنك الدولي لم يكن لديه ما يكفي من المعلومات والضمانات للمشاركة في المشاريع التنموية في تونس، كما هو الحال منذ ما يقارب من الخمسين سنة.

علّق السيّدأنطونيو نوسيفيرا . (Antonio Nucifora): ” بالنسبة لنا في البنك الدولي، لم نكن محصنين ضدّ الصورة التي روّجها نظام بن علي لنفسه. وبينما كنّا نتابع بانتظام كلّ التفاصيل حول فشل التشريعات، والحواجز أمام تدفقّ الاستثمارات والامتيازات التي كان يتمتّع بها مريدو النظام القديم، ولكنّ كلّ ذلك كان مخفيّا في اللغة البيروقراطية التي لم تشر مباشرة إلى صميم المشكلة؛ وهي أنّ النظام يختنق بفعل فساده الخاصّ”

هل امتدّت حاشية بن عليّ إلى خارج البلاد؟

يركز تقرير البنك الدوليّ بشكل خاص على الشركات المحلية التابعة لحاشية بن علي، ولكنّه يتجاهل نشاطاتها خارج البلاد.
في الواقع، “فالنشاطات” هي مصطلح عام يشمل عدّة أنواع لم يتمكّن التقرير من اكتشافها، وبالتأكيد فقد كانت مكمّلة للفساد الاقتصادي في ظلّ حكم بن علي، بما في ذلك الممتلكات العقارية والمنقولة ورؤوس الأموال والعقارات الخاصّة.
طبعا، هذه الدراسة طويلة ومملّة في تخطيطها، ولكن لا يمكن للمرء إلاّ أن يتساءل لماذا ظهر هذا التقرير في الوقت الحاضر وبوجهات النظر التي سبق عرضها؟
ويجيب هنا السيد نوسيفيرا Nucifora قائلا: ” هذا التقرير هو جزء من دراسة أشمل حول تونس، يعمل البنك الدولي على إعدادها ويستعد لنشر تحت عنوان”استعراض سياسات التنمية: الثورة المنقوصة” والتّي تحدد العقبات التي تعترض تحقيق نموّ اقتصادي أسرع وخلق مواطن الشغل في تونس. نعمل منذ سنتين على إعدادها، و سوف تنشر في شهر ماي باللغة الإنجليزية والعربية والفرنسية. ”
وكون أربعة من خمسة إجراءات لاسترداد الثروات المنهوبة تأخذ مجراها اليوم في مختلف المحاكم الوطنية قد تفسّر الأمر برمّته.

“مبادرة استعادة الممتلكات المنهوبة” (StAR )؛ قاعدة بيانات للبنك الدولي حول الممتلكات المنهوبة، تقدّم لنا المزيد من المعلومات حول إجراءات استرداد سيئة الممتلكات المنهوبة لحاشية بن عليّ خارج البلاد. وهي عبارة عن شراكة بين مجموعة البنك الدولي ومكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة، وهي تعمل مع البلدان النامية والمراكز المالية لمنع عمليّة غسيل الأموال المتأتيّة من الفساد وتسهيل إجراءات استعادة الممتلكات المنهوبة في الوقت المناسب.

حتى يومنا هذا، لم تتمّ استعادة سوى 28.8 مليون دولار من إجماليّ الممتلكات الكنهوبة، ووفقا للقرار الصادر في شهر ديسمبر 2012 عن الغرفة الخامسة لمحكمة الاستئناف في بيروت والتي أمرت بمصادرة حساب ليلى بنت محمد بنت رحومة الطرابلسي في البنك اللبناني الكندي في لبنان. وقد تمّ تسليم هذه الأموال في شكل شيك إلى رئيس الجمهوريّة الحاليّ محمد منصف المرزوقي، أمّا في حالات أخرى، فإجراءات المصادرة لا تزال جاريّة في عدد من المحاكم الأجنبيّة.

المشكلة الرئيسية التي تواجه “مبادرة استعادة الممتلكات المنهوبة” (StAR )، هو أن الإجراءات القانونية تختلف من بلد غلى آخر، كما أنّ التحقيقات لا تسير بنفس الوتيرة .
طبعا، تنسيق الإجراءات القانونية بين البلدان قد تسرّع عودة هذه الممتلكات، ولكنّها تبقى مهمّة صعبة التنفيذ ومعقّدة للغاية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه وفقا “مبادرة استعادة الممتلكات المنهوبة” (StAR )، فإنّ أربعة إجراءات مصادرة هي قيد التنفيذ في الوقت الحاليّ: في كندا وسويسرا في وتشمل مبلغ 68,794 مليون دولار، والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي ولكن دون أيّ أرقام حول قيمة الممتلكات، وذلك لأن تحديد قيمة الأموال التي تمّ نهبها لا تزال جارية.

مغزى التوقيت

إنّ تركيز البنك الدوليّ على الفساد الاقتصادي المرتبط ببن علي وحاشيته، ويخفي يخفي في باطنه الهدف الحقيقيّ وهو إصلاح مجلّة التشجيع على الاستثمار.
إنّ مجلّة الاستثمار الصادرة في ديسمبر 1993 والمراسيم الرئاسية التعديليّة والتي بلغ عددها 22 مرسوما تتعارض والليبرالية المتطرفة التي ينادي بها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، و على وجه الخصوص المادة الثالثة من القانون الذي يحدّ من المشاركة الأجنبية في العديد من القطاعات، بما في ذلك الخدمات والزراعة.

وهو ما تؤكّده تلميحات السيد نوسيفيرا (Nucifora) :” ما نأمله هو أن يساعد هذا التقرير على تعزيز النقاش بين التونسيين بشأن إصلاح النظام القديم، تماما كما فعل من خلال الدستور الجديد ولجنة مصادرة. إنّ إنشاء نظام اقتصادي أكثر شمولية ونجاعة في تونس يتطلب التفكير بجديّة في إصلاح النظم والقوانين.”
من خلال إصلاح مجلّة التشجيع على الاستثمار، يأمل البنك الدولي أن ينفتح الاقتصاد التونسي على الشركات الأجنبية، من خلال تسهيل ظروف نقل وتحويل الأرباح ورؤوس الأموال.

عديدون فكّروا في الأمر، خصوصا في شهر سبتمبر الماضي، عندما وصل عدد من أعضاء البنك الدولي إلى تونس للاجتماع مع أعضاء المجلس الوطني التأسيسي والسعي للتأكيد على الإصلاحات الدستورية المطلوبة. أمّا الاجتماع الغير الرسمي في شهر مارس الفارط فهو يمثّل لغزا بحدّ ذاته.

توقيت يلفّه الكثير من الغرابة، هو ذاك الذّي تم الانتهاء فيه من إعداد التقرير قبل الزيارة الرسمية لرئيس الحكومة التونسيّة إلى واشنطن. بطريقة أو بأخرى يمكن اعتبار ما حدث كنوع من الإغراء للمستثمرين الأمريكيّين الذين سيقابلون مهدي جمعة للضغط عليه لتتمّ هذه الإصلاحات.
بالنسبة للسيّد نوسيفيرا (Nucifora)، فإن هذا التقرير لا يحمل مثل هذه النوايا. فهو لا يقدم حلولا، ولكنّه يقدّم جردا للواقع ويترك المجال للسلطات التونسية لاتخاذ القرارات المناسبة:
“من المهم أن نشير إلى أن النتائج التي توصلنا إليها لا تعني بالضرورة تقليص دور الدولة أو وضع حدّ للتشريعات الخاصّة بالقطاع الخاص. بالنسبة لنا يجب على القوانين أن تدعم القطاع الخاصّ، لا أن تعيقه عبر اعتمادها الشفافيّة والشموليّة والحياد. وبالتالي فإنّه من الحكمة أن تتمّ مراجعة تلك السياسات وأخذها بعين الاعتبار وضمان تحقيقها لأهدافها”.

في ضوء التصريحات التي أدلى بها رئيس الحكومة خلال لقاءاته، يبدو أن إستراتيجية البنك الدولي بدأت تأتي ثمارها، وهو ما أكدته المقابلة التي أجراها السيد مهدي جمعة مع صحيفة واشنطن بوست، حول الإصلاحات التي أوصى البنك الدولي:
واشنطن بوست : هل تهدف لإنشاء اقتصاد حرّ أكثر ديناميكيّة وانفتاحا؟
مهدي جمعة: إن التمشيّ الواضح والرئيسيّ لتونس هو تشجيع (جميع) المبادرات الخاصة.