المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

tunisia-regional-media

بقلم وليد غبّارة،

طالما كان بحث الإنسان منصبّا، ولا يزال، على تعريف العدالة مفهوما وتحقيقها واقعا. ويعتبر مصطلح العدالة أعمّ وأشمل من مصطلح العدل إذ العدالة هي أرقى درجات العدل (…) وتقتضي اتصالا والتصاقا بالواقع والظروف والملابسات الخاصّة بكلّ شريحة اجتماعيّة مهما كان سنّها أو جنسها أو انتماؤها الديني أو الجهوي أو الفئوي أو القطاعي أو غير ذلك من الاعتبارات.

ويعتبر الاتصال والالتصاق بالواقع من أهمّ مطالب الثّورة التونسيّة، ذلك أن التّهميش كان سمة النظام السابق سواء تعلق بالمناطق الداخليّة أو بالفئات الاجتماعية المهمّشة. ولعلّ أحد أهم أسباب التهميش هو غياب وسائل إعلام حرّة تنقل بكلّ أمانة الوجع دون تحريف أو تهويل أو تزييف، فالمشهد الإعلامي كان طيلة العهد السابق مشهدا متصحّرا تماما إلا من بعض صحف المعارضة والإعلام البديل عبر المدوّنات وشبكة التواصل الاجتماعي.

وما زاد في عزلة المناطق المهمّشة أن الإعلام كان مركزيّا إلى أبعد الحدود بمعنى أنه كان متمركزا حدثا وبثّا وقرارا في العاصمة. وحتى الإذاعات الجهويّة المنتشرة في مختلف المناطق، لم تكن تمارس الدّور المنوط بعهدتها فكانت في فلك الإعلام المركزي تدور، أو هي بالأحرى رجع صداه في المناطق المتواجدة فيها.

ولكنّ راهن الثورة غير الماضي تماما، ويعتبر الإعلام في قلب الرّاهن التونسي، وهذه “الراهنيّة” تشكّل في نظرنا صدمة للإعلام “الكلاسيكي”، وبالتّحديد للإعلام “الرّسمي” أو ما بات يطلق عليه الإعلام “العمومي”. هذه الصدّمة مأتاها أن هذا الإعلام كان دوما إعلاما تابعا للحدث ولم يكن مطلقا إعلاما صانعا للحدث أو على الأقلّ مواكبا له.

ولنا في الثّورة التونسيّة المثال النّاصع، فعندنا كان شباب الثّورة يقمع في مختلف مناطق الجمهوريّة التونسيّة، كان الإعلام “الرّسمي” يغطّ آنذاك في سباب عميق. وبقطع النظر عن أسباب هذا “السّبات الإعلامي” ومسبّاته، فإنه استفاق فجأّة على “صدمة الثورة” تماما كما استفاق العرب على نابوليون يغزو مصر فكانت “صدمة الحداثة”.

وككلّ مستيقظ من النّوم، أو بالأحرى ككل من أوقظ من النّوم عنوة، فإن آثار الدهشة والاستغراب تبدو واضحة على “ملامح” الإعلام التونسي، إنها صدمة بكل ما للكلمة من معنى. هاهو الإعلام مع ذلك يسعى جاهدا للتّأقلم مع واقع الثورة وإن ببطء شديد.
وينقسم هذا التأقلم في نظرنا إلى تأقلم مع الأحداث في نقلها ومواكبها من جهة، وإلى محاولة للانتشار “الجغرافي” في مختلف مناطق الجمهورية من جهة أخرى، إنّه بلغة أخرى تأقلم “زمنيّ” من جهة، وتأقلم “جغرافي” من جهة أخرى.

سنركّز في هذا المقال على ما أسميناه “التأقلم الجغرافي” أي انتشار الإعلام في مختلف مناطق الجمهوريّة” في محاولة منه لنقل معانات المواطنين.
إن هذا التأقلم الجغرافي تمظهر حينئذ في ما يسمى بـ”اللامركزيّة الإعلاميّة”، وذلك عبر تخصيص قناة الوطنية (2) للجهات : ولكن هذه التـجربة وإن كانت إيجابيّة في جانب منها، إلا أنها لا تقدّم حلا للمشكل في عمقه، ذلك منطق “تخصيص” الوطنية (2) للجهات يجعل في المقابل الوطنية (1) متّجهة بالأساس نحو العاصمة، بحيث يختلّ التّوازن مجّددا، لأن المناطق الداخليّة تبقى مع ذلك على الهامش.

والحل يمكن في إرساء دعائم “إعلام عموميّ، وطنيّ، عادل” من حيث التوزيع الجغرافي للبثّ بحيث تصبح مختلف مناطق الجمهورية محلّ تغطية إعلامية يوميّة في القناة الوطنيّة الأولى بالتّحديد لأنها القناة الجامعة والحاضنة، فتتحقّق العدالة الإعلامية، ونتخلّص بالتالي من التوجّه المركزي للإعلام العمومي الذي يتجلّى رمزيّا من خلال التصوير في شارع الحبيب بورقيبة بالتّحديد باعتباره يشكّل “قلب العاصمة”.

بعبارة أخرى يجب على الوطنية (1) بالتحديد أن تكون قناة عادلة لكلّ التونسيين والتونسيات وليست قناة “العاصمة” بمعنى أن تكون حاضنة لكل الوطن إقليما وأحداثا، وتتحقّق هذه العدالة الإعلاميّة عبر توزيع عادل للبثّ على مختلف المناطق فنجد استوديوهات فرعية للقناة في مختلف تراب الجمهورية، ونسمع عن أخبار برج الخضراء في النشرة الرئيسية للأنباء باستمرار ونرى ربوع الوطن كلّه بحلوه مرّه دون تزييف أو تضخيم.

ولسائل أن يتسائل : ألا تتكفّل الوطنيّة (2) بهذا الدور ؟ نجيب بأن تخصيص قناة للجهات وإن كان يحقّق حدّا أدنى من العدالة الإعلاميّة إلا أنه يظلّ يتعامل مع الجهات بوصفها معطى مستقّلا عن الشّأن العام الذي يظل شأن العاصمة بالتحديد والأحداث التي تدور فيها فيتم إفراد قناة خاصة بالجهات لتخفيف العبئ عن الوطنية (1) كي تهتمّ أكثر بالشأن “الوطني”.

ولكنّنا نسعى عبر “العدالة الإعلامية” أن تكون مختلف الجهات جزءا لا يتجزأ من “النسيج الإخباري” للقناة الوطنيّة في مختلف تجلّياته الإيجابية والسلبية، وفي مختلف الأحداث الطارئة والكفّ بالتالي التحرّك “المناسباتي” نحو المناطق المحرومة والتعامل معها بمنطق ‘إغاثيّ” بحت باعتبارها “مناطق أزمات” لا يقع الالتفات إليها إلا في حالة وجود اعتصامات أو كوارث طبيعية.