manif_anti_rcd_640

يوم 09 مارس 2011 احتفل ثوار تونس بحل حزب التجمع الدستوري بأمر قضائي بعد حكم دام 23 سنة. وقد انطلق المهتمون بالشأن السياسي انذاك في الإعداد لصيغ محاكمة التجمعيين من المتورطين في الفساد ومن المشاركين أيضا في إعلاء راية النظام السابق من منخرطين وأنصار. لكنّ الإنتظار طال، فخرج أغلب المتهمين بالتورط مع نظام بن علي من وزراء ومسؤولين أمنيين من السجون بحكم البراءة، وأطلّ آخرون برؤوسهم شيئا فشيئا لبث رسائل تفيد براءتهم وحكمة نظام بن علي عبر وسائل إعلام مأجورة، ثمّ عاد أغلبهم ليأخذوا مكانهم عنوة في الساحة السياسية ليمنحهم المجلس التأسيسي الحق في العودة لسالف نشاطهم والمشاركة في الإنتخابات أيضا، حتى أن نفس الوجوه القديمة التي ارتبط اسمها بسنوات من القمع والدكتاتورية أصبح أصحابها اليوم من المرشحين البارزين للانتخابات القادمة.

محاولات نواب عن حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحركة وفاء العديدة تمرير مشروع قانون يتم على أساسه إقصاء تجمعيين من الحياة السياسية ومنعهم من المشاركة في الإنتخابات القادمة أسقطه عضو مجلس نواب بن علي السابق ورئيس حزب النداء من أجل تونس بعبارته الشهرية “هذا القانون جهنمي ولن يمرّ”، ولم يمرّ القانون رغم الجدل الذي أثاره، فأياد خفية أجبرت حركة النهضة على التراجع عن إصرارها على تمريره، وربح قايد السبسي التحدّي السياسي الأكبر في تونس ما بعد الثورة.

مصالحة سياسية بعد الإفلات من المحاسبة

لطالما تحدّث سياسيون في المنابر الإعلامية عن ضرورة تطبيق مشروع العدالة الإنتقالية الذي يرتكز على المحاسبة ثم المصالحة. عبارات رنانة وفضفاضة لم تنجح في فرض أي محاسبة على المتورطين من المنتمين للنظام السابق في حين. ولغايات سياسية وحزبية ضيقة سرعان ما تمت المصالحة مع “رموز” النظام السابق وتحوّلوا من طرف منبوذ إلى طرف منافس أو حليف مهم، حسب ما تقتضيه مصلحة هذا الطرف أو ذاك. ومع خفوت الغضب الشعبي ضدّ أتباع هذا الحزب ومسئوليه وتحوّل الرّأي العام إلى قضايا أمنية واقتصادية وجد هؤلاء الباب مفتوحا على مصراعيه للعودة بقوة وبثقة حتى أنّ بعضهم استغل ما تمر به البلاد من ظروف أمنية متردية ليتحسّر على “الأمن” الذي كانت تتمتع به البلاد في عهد بن علي.

إقصاء التجمعيين من المشاركة في الإنتخابات السابقة الذي تم التنصيص عليه في القانون الإنتخابي لسنة 2011. كان كفيلا بإسكات غضب التونسيين وطمأنتهم بخصوص خلو المجلس الوطني التونسي من أي فرد شارك في دعم النظام السابق من مسئولين ومناصرين. وقد جاء في الفصل 15 من هذا القانون :

الفصل 15 : لا يمكن أن يترشح للانتخابات: كل من تحمّل مسؤولية صلب الحكومة في عهد النظام السابق باستثناء من لم ينتم من أعضائها إلى التجمع الدستوري الديمقراطي ومن تحمل مسؤولية في هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي في عهد الرئيس السابق.

كل من ناشد الرئيس السابق الترشح لمدة رئاسية جديدة لسنة 2014 وتضبط في ذلك قائمة من قبل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.

وقد نجح هذا القانون فعلا في إفراز مجلس تأسيسي خال من الوجوه التجمعية المألوفة. غير أنّه وفي نفس الفترة التي تم فيها إصداره كان عشرات التجمعيين قد حصلوا على رخص أحزاب أطلق على أغلبها أحزاب “دستورية” وذلك في فترة ترأس الباجي قايد السبسي للحكومة. ويبدو أن باعثي هذه الأحزاب كانوا يعملون في “الظل” من أجل تجاوز الفترات الصعبة التي ارتفعت فيها ضدهم أصوات المحتجين وقد نجح أغلبهم فعلا في بناء أحزابهم والتسلل شيئا فشيئا إلى المنابر الإعلامية والملتقيات السياسية عبر طرق مختلفة.

غياب المحاسبة القضائية لرموز النظام السابق والذين خرجوا من السجون برؤوس مرفوعة بعد أن أثبت القضاء براءتهم منح هؤلاء التجمعيين صكّ غفران مكّنهم من التشدّق بإنجازاتهم السابقة ومشاركتهم في بناء تونس. من بين الأسماء التي كان من المنتظر أن تحاسب بشدة على تواطؤها مع بن علي في قمع التونسيين وتهميشهم وبرّأهم القضاء التونسي نذكر : محمد الغرياني الأمين العام السابق لحزب التجمع، عبد الله القلال وزير بن علي ورئيس مجلس المستشارين السابق، أبو بكر الأخروزي ووزير الشؤون الدينية الأسبق، محمد بللونة مدير عام منتزه قمرت سابقا والمتهم في قضايا تحيل، عبد الرحيم الزواري وزير النقل الأسبق. هذا بالإضافة إلى إفلات عدد من الوزراء والمسئولين من المحاسبة القضائية دون أن توجه لهم أية تهمة، ومن بينهم نذكر كمال مرجان وحامد القروي ومحمد جغام وهم ممن يتصدرون الآن الساحة السياسية.

المشهد اكتمل بإسقاط مشروع قانون تحصين الثورة وإقصاء التجمعيين بالمجلس التأسيسي. هذا القانون الذي نوقش طويلا وتضمن فصولا تحدد مدة منع التجمعيين والمسؤولين السابقين من العمل السياسي عرف معارضة عددا هاما من نواب أحزاب المعارضة في حين ساندته أحزاب الترويكا وبعض النواب المستقلين الموالين لها. غير أنّه ونظرا لأن بعض فصوله تهدد رئيس حزب نداء تونس الباجي قايد السبسي شخصيا فقد دارت مفاوضات سرية بين قايد السبسي ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي انتهت بتراجع هذا الأخير عن تمرير قانون تحصين الثورة وبالتزام نواب حركة النهضة بالتصويت ضده وإسقاطه في انضباط حزبي منقطع النظير رغم كل الشعارات التي رفعوها سابقا ضد حزب النداء والتجمعيين.

اكتظاظ التجمعيين على باب الإنتخابات

عدم محاسبة التجمعيين تلته “مصالحة” غير مشروطة من أغلب مكونات الساحة السياسية تعزّزت بانطفاء جذوة الثورة في نفوس صانعيها. فالدور الذي قام به رئيس الحكومة في الفترة الإنتقالية الباجي قايد السبسي من منح رخص لتجمعيين سابقين وتأسيس حزب “نداء تونس” الذي ضمّ أهم الفاعلين في حزب التجمع الدستوري الديمقراطي ومن بينهم أمينه العام السابق محمد الغرياني، حوّل الأعداء إلى منافسين سياسيين معترف بهم. كما أن صفة “دستوري” التي أطلقها أغلبهم على أحزابهم وما تحمله من إشارات إلى الفكر البورقيبي الذي تحبذه فئة هامة من التونسيين ساهمت في تخفيف حدّة الرفض الذي جوبهوا به سابقا. ومع مرور الوقت وانشغال التونسيين بالضربات الإرهابية الموجعة التي خلفت عددا كبيرا من الضحايا أصبح حزب نداء تونس المكون في أغلبه من تجمعيين وبعض الأحزاب الأخرى كحزب “كمال مرجان” من بين أهم الأحزاب المؤثرة في الحياة السياسية حيث شاركت في مفاوضات “الحوار الوطني” وكان لها دور كبير في إسقاط حكومة الترويكا.

وبعد زوال كل المعوقات القانونية والسياسية لم يتبقّ لرموز التجمع الدستوري الديمقراطي سوى العودة بقوة لممارسة الحياة السياسية وجمع الأنصار وطرق أبواب السفارات الأجنبية للحصول على الدعم المالي والسياسي من أجل إعادة احتلال مواقعهم السابقة في البرلمان وفي الحكومة. وإعداد هذه الأحزاب للإنتخابات القادمة يتم في ظروف حسنة وعلى أحسن وجه حيث نشطت المواقع الإجتماعية والمؤسسات الإعلامية من إذاعات وقنوات تلفزية وجرائد في تبييض المترشحين من التجمعيين وإبرازهم في صورة الضحية أو في صورة البطل المنقذ.

وسنذكر هنا عددا من أهم التجمعيين الذين سيشاركون في الإنتخابات القادمة سواء بالترشح للانتخابات الرئاسية أو التشريعية.

حزب نداء تونس: يضم حزب النداء في صفوفه أغلب التجمعيين وأهمهم ومن بينهم الأمين العام السابق لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي محمد الغرياني. وقد ضمت القائمات الإنتخابية لحزب النداء زمرة من المتنمين السابقين لحزب التجمع ومن بينهم حسونة الناصفي الكاتب العام السابق لطلبة التجمع الدستوري الديمقراطي، والمحامي التجمعي منير بن عبد الرحمان الحمدي، وغيرهم. والأهم هو ترشح رئيس الحزب الباجي قايد السبسي للإنتخابات الرئاسية وهو الذي تقلد منصب رئيس مجلس نواب في عهد بن علي لمدة سنتين (91-92). وقد عرف حزب النداء مؤخرا جملة من الإستقالات التي نفذها أعضاء غاضبون من عدم ترشيحهم في قوائم النداء للإنتخابات التشريعية مقابل ترشيح تجمعيين سابقين.

كمال مرجان : وزير خارجية بن علي إلى حدود 14 جانفي 2014 ورئيس حزب المبادرة الذي أسسه بعد الثورة. أعترف بتسليمه جوازات سفر لبن علي وعائلته إثر فرارهم من تونس. في تصريحات إعلامية أعلن مرجان إمكانية ترشحه للإنتخابية الرّئاسية ووعد التونسيين “بمفاجأة”. كما أنه قد شارك في الإنتخابات السابقة وحصل على ثلاث مقاعد نيابية في المجلس التأسيسي ويعرف حزبه دعما قويا في جهات الساحل التونسي كسوسة والمنستير. يذكر أن نائب رئيس حزب المبادرة هو محمد جغام الذي شغل في عهد بن علي منصب وزير السياحة ثم وزير داخلية ثم مديرا للديوان الرئاسي ثم وزيرا للدفاع ثم سفيرا بروما كما كان عضوا في اللجنة المركزية لحزب التجمع من سنة 1988 إلى سنة 2003.

حامد القروي: وزير العدل السابق في عهد بن علي وعضو سابق في الديوان السياسي للتجمع الدستوري الديمقراطي ثم نائبا أولا للحزب وكان يأتي في المرتبة الثانية في الترتيب البروتوكولي بعد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. أسس بعد هدوء الأوضاع إثر الثورة حزب “الحركة الدستورية” وأكد مؤخرا عزم حزبه خوض الإنتخابات التشريعية في قائمات موحدة مع بقية الأحزاب الدستورية. عرف حزبه انضمام 10 من وزراء بن علي السابقين من بينهم عبد الله القلال والصادق رابح ورشيد كشيش والشاذلي النفاتي والتيجاني الحداد.

عبد الرحيم الزواري: يعتبر الزواري من أهم الشخصيات السياسية في عهد نظام بن علي حيث تولى بداية مهمة أمين عام لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي ثم سمي على رأس عدد من الوزارات من بينها : وزارة العدل، وزارة الشباب والطفولة، وزارة الشؤون الخارجية، وزارة السياحة ووزارة النقل. وقد أكّد رئيس الحركة الدستورية حامد اقروي أنّ الوزير السابق وعضو المكتب التنفيذي للحركة عبد الرحيم الزواري سيكون مرشح الحزب للإنتخابات الرئاسية القادمة.

منذر الزنايدي: شغل الزنايدي عدة مناصب في حكومة بن علي وكان على رأس عدد من الوزارات من بينها وزارة النقل، وزارة التجارة، وزارة السياحة ووزارة الصحة التي تقلّدها حتى تاريخ 14 جانفي 2011. وقد انتمى الزنايدي إلى اللجنة المركزية لحزب التجمع المنحل منذ سنة 1993. أعلن الزنايدي مؤخرا ترشحه للإنتخابات الرئاسية وعن تشكيله لجان دعم لترشحه نجحت في جمع أكثر من 10 آلاف تزكية.

هذه الأسماء وغيرها بكل ما لها من تاريخ في صفوف التجمع الدستوري تدخل الإنتخابات التشريعية والرئاسية ثلاث سنوات فقط بعد الإطاحة بحزب رعاهم وفضّلهم وخدموه بكل ما أوتوا من وسائل. هذه الأسماء تستمد الثقة من قواعد شعبية لحزب منحل ما زالت تنادي بعودة بن علي “حامي البلاد من الإرهاب” حسب تعبيرها. كل الظروف كانت سانحة للعودة : الإنفلات الأمني، انهيار المؤشرات الاقتصادية، خفوت صوت المدونين والناشطين الذين ساهموا في الثورة، اليأس الذي غلب على التونسيين مع مشاهد الدم والدمار التي يشاهدونها يوميا، وأخيرا الكثير من “الوقاحة” من طرف مسئولين تجمعيين سابقين لفظهم الشعب وأطردهم من مناصبهم لما ارتكبوه من جرائم في حق شعب أنهكته الدكتاتورية والسرقة وفساد الذين ساهمت هذه الأسماء في تفشيها.