mehdi-jomaa-elections-2014

لم يتبقّى من المرحلة الإنتقالية والتأسيسية التي تمرّ بها البلاد سوى أسابيع قليلة. في هذه الفترة القادمة ستُنهي تونس تنظيم الإنتخابات التشريعية والرّئاسية الأولى من نوعها كما نصّ عليها دستور تونس الجديد. وفي هذه الفترة الحساسة أيضا ستستكمل السلطات الثلاث، أي المجلس التأسيسي وحكومة التكنوقراط ورئاسة الجمهورية بقية المهام الموكلة بعهدتها كما نص عليها القانون المنظم لها.

اتّسم آداء السلطات الثلاث طيلة فترة ترأسهم لتونس، أي منذ الإنتخابات الفارطة، بالإرتباك، وعرف الشارع التونسي غضبا شعبيا في عديد المناسبات ضدّ هذه السلطات دون استثناء نتيجة قرارات خاطئة أو ممارسات غير مرغوب فيها أو تصريحات رسمية في غير محلّها. غير أن هذا الغضب الشعبي هدء شيئا فشيئا إثر إسقاط حكومة الترويكا والإنتهاء من صياغة الدستور الجديد وتعيين حكومة تكنوقراط. فقد تحوّل الغضب الشعبي إلى حالة من الترّقب في انتظار ما ستفرزه الإنتخابات القادمة من مؤسسات حاكمة جديدة. وانشغل الشارع التونسي منذ مدة قصيرة في متابعة الحملات الإنتخابية للأحزاب والشخصيات السياسية بحذر شديد. فتخوف التونسي من الفشل الجماعي في حسن اختيار من يمثله على رأس الدولة لاحقا جعله يتناسى المتابعة اللصيقة التي كان يقوم بها سابقا للحكومة وللمجلس التأسيسي على وجه الخصوص. ورغم الإهتمام الإعلامي المكثف بالإستحقاقات الإنتخابية القادمة فإن التركيز على دور السلطات الثلاث وخصوصا منها حكومة التكنوقراط في المرحلة القادمة مهم جدا بالنظر إلى حساسية المرحلة سياسيا واقتصاديا وأمنيا.

مهدي جمعة ملتزم سياسيا

يوم الأربعاء 17 سبتمبر الجاري أعلن رئيس حكومة التكنوقراط مهدي جمعة في خطاب تلفزي عن عدم نيته الترشح للإنتخابات الرئاسية. جاء هذا الخطاب للرد على أخبار من مختلف المصادر أكدت نية حركة النهضة تزكية المهدي جمعة للترشح للإنتخابات الرئاسية كمرشّح “توافقي.” وقد عبّر جمعة في خطابه عن مضيّه في الإلتزام بقرارات مؤتمر الحوار الوطني الذي يلزمه وأعضاء حكومته بعدم الترشح للإنتخابات القادمة كشرط أساسي لمنحهم الثقة في تسلم مقاليد السلطة. ونذكر أن بيان الحوار الوطني ينصّ في أحد بنوده على التالي:

القبول بتشكيل حكومة كفاءات ترأسها شخصية وطنية مستقلة لا يترشح أعضاؤها للإنتخابات القادمة تحلُّ محلّ الحكومة الحالية التي تتعهد بتقديم استقالتها، وتكون للحكومة الجديدة الصلاحيات الكاملة لتسيير البلاد، ولا تقبل لائحة لوم ضدها إلا بإمضاء نصف أعضاء المجلس الوطني التأسيسي ويتم التصويت على حجب الثقة عنها بموافقة ثلثي أعضائه على الأقل.

وللتذكير فقد جاء خطاب جمعة وإقراره عدم الترشح للإنتخابات القادمة إثر تهديد قيادات من الإتحاد العام التونسي للشغل ومن بينهم سامي الطاهري بمنع إجراء الإنتخابات في صورة ترشّح جمعة. وقد تحدّثت بعض وسائل الإعلام عن اعتزام جمعة الترشح للإنتخابات الرئاسية بداية وتغييره لقراره إثر هذا التهديد وهو ما لم يؤكده جمعة أو ينفيه. غير أنّ قراره الأخير لقي ترحيبا من طرف الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل حسين العباسي الذي اكد على ضرورة احترام جميع الأطراف لما جاء في خارطة الطريق التي وضعها المشاركون في الحوار الوطني.

كان مهدي جمعة قد تسلم مهامه على رأس حكومة التكنوقراط يوم الأربعاء 29 جانفي 2014 خلفا لرئيس حكومة الترويكا علي العريّض. وقد قضّى جمعة إلى حد كتابة هذه الأسطر قرابة السبعة أشهر والنصف على رأس الحكومة. سيواصل جمعة وحكومته مهامهم إلى حين تشكيل الحكومة الجديدة، أي إثر صدور نتائج الإنتخابات الرّئاسية والتشريعية من طرف الحزب أو الإئتلاف الحزبي الحاصل على الأغلبية كما ينص عليه الفصل 89 من الدستور:

تتكون الحكومة من رئيس ووزراء وكتاب دولة يختارهم رئيس الحكومة وبالتشاور مع رئيس الجمهورية بالنسبة لوزارتيْ الخارجية والدفاع.

في أجل أسبوع من الإعلان عن النتائج النهائية للإنتخابات، يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الحزب أو الائتلاف الإنتخابي المتحصل على أكبر عدد من المقاعد بمجلس نواب الشعب، بتكوين الحكومة خلال شهر يجدد مرة واحدة. وفي صورة التساوي في عدد المقاعد يُعتمد للتكليف عدد الأصوات المتحصل عليها.

وكانت الهئية العليا للإنتخابات قد حدّدت يوم 31 ديسمبر القادم كأخر أجل للتصريح بنتائج الدورة الثانية من الإنتخابات الرئاسية كما حددت يوم 25 جانفي 2015 كآخر اجل للتصريح بنفس النتائج بعد البتّ في جميع الطعون. وبذلك من المتوقع أن يتم تشكيل الحكومة الجديدة في بداية شهر فيفري من سنة 2015. وعلى هذا الأساس ستواصل حكومة التكنوقراط برئاسة جمعة مواصلة مهامها خلال الأربعة أشهر والنصف القادمة.

وفي انتظار انقضاء هذه الآجال وفي ظلّ إكبار أطراف سياسية ونقابية بإيفاء المهدي جمعة وحكومته بالتزاماتهم السياسية والأخلاقية، يتجنب البعض الحديث عن مدى نجاح حكومة “الكفاءات” في القيام بالمهام الموكلة لها خصوصا في ما يتعلّق بالوضعين الأمني والإقتصادي. والسؤال الذي يطرح هنا هل كانت هذه الحكومة مكلّفة فقط بالحفاظ على مستوى الفشل الذي بلغته البلاد في فترة حكومة الترويكا وعدم النزول عنه أو أنها كانت مطالبة لضمّها لكفاءات مهمة في كل المجالات بالنهوض بالبلاد في جميع المستويات وإحداث انتعاشة تعيد الأمل في نفوس التونسيين بخصوص قدرة أبنائها من غير السياسيين؟ وهل ستنجح حكومة جمعة خلال الأربعة الأشهر القادمة في ما فشلت فيه طيلة الأشهر السبعة الفارطة ؟

تكنوقراط ينجح في الحفاظ على “مستوى الفشل”

لئن وجد مهدي جمعة الوقت الكافي ليستدرك قراره في الترشح للإنتخابات الرئاسية ويؤكد التزامه الأخلاقي والسياسي، فإن الفترة المقبلة والتي تقدر بأشهر قليلة لن تكون كافية لتقوم حكومة التكنوقراط باستدراك الأخطاء التي ارتكبتها والفشل الذي ميّز معظم مسارها الإقتصادي والإجتماعي والأمني والذي ستورثه حتما للحكومة التي ستليها. ولن يكون جديدا أن تلقى حكومة التكنوقراط بعد التخلي عن مهامها لصالح الحكومة المنتخبة تمجيدا من طرف بعض الأطياف السياسية التي ستكرر ما صرحت به إثر تخلي حكومة السبسي بما مفاده أن هذه الحكومة “نجحت في الحفاظ على استقرار البلاد وفي تنظيم الإنتخابات.” في محاولة لإقناع التونسيين بأنهم “محظوظون” لأنّ البلاد لم تدخل في حالة من الفوضى شأن بعض البلدان الأخرى من بلدان الربيع العربي أو هو ما يطلق عليه “الأمن مقابل الصّمت على الأخطاء” رغم أن الأمن في تونس خلال حكومة جمعة لم يكن مستتبا بما يكفي لشكرها وتمجيدها.

كانت نواة قد استعرضت بعد مضي مدة مائة يوم على حكومة المهدي جمعة جملة من الإشكالات الإقتصادية العالقة والتي تجنب جمعة خلال خطابه بالمناسبة الحديث عنها في حين ركّز على استعراض جهود الحكومة في محاربة الإرهاب ونجاحها النسبي في ذلك. كما لم يفت نواة في إطار متابعتها اليومية والمستمرة لسير أشغال حكومة التكنوقراط نشر جرد للأخطاء الفادحة التي قامت بها وزارات مختلفة في هذه الحكومة “المؤقتة”. وهذه الأخطاء، رغم قصر المدة التي قضتها الحكومة في القصبة فادحة وكان لها انعكاسات سلبية مما عمّق الأزمات المختلفة التي تمر بها البلاد. ومن بين هذه الأخطاء نذكر مساهمة وزيرة السياحة آمال كربول رغم ما شاب نشاطاتها من متابعة إعلامية مكثفة نتيجة تصرفات غير مسؤولة صدرت عنها. وقد خلقت شطحات الوزيرة أزمة بين وزارة السياحة والجامعة التونسية للنزل التي نشرت أرقاما تفيد بتراجع المؤشرات السياحية في عهد كربول.

كما سجلت كل من وزارة المالية ووزارة التجارة ووزارة الصناعة فشلا ذريعا في ما يتعلق برسم السياسة المالية للبلاد مما أدى إلى ارتفاع مشط في أسعار المواد الإستهلاكية وغياب منظومة واضحة بخصوص هيكلة الإقتصاد الوطني. هذا بالإضافة إلى سياسة الغموض التي تتبعها في مسائل إنتاج الطاقة والثروات الطبيعية. وهنا نذكّر بتصريح مهدي جمعة بخصوص المضي في عملية استخراج غاز الشيست رغم التحذيرات التي أطلقها مختصون حول ضرورة التحري قبل الشروع في التنفيذ والتي ضربت بها حكومة التكنوقراط عرض الحائط.

أمنيا عرفت تونس في عهد حكومة جمعة ضربات إرهابية عديدة ونوعية راح ضحيتها العشرات من أعوان الأمن والجيش الوطنيين. كما شهدت البلاد حادثة غريبة تمثلت في هجوم الإرهابيين على الأمنيين المكلفين بحراسة منزل وزير الداخلية واغتالوا بعضهم، الأمر الذي جعل تونسيين يتساءلون عن مدى قدرة وزير الداخلية بن جدو الذي فشل في حماية منزله على حماية البلاد من الإرهاب. ويضاف إلى هذا الفشل مواصلة بعض المنتمين لسلك الأمن لممارساتهم التعسفية ضد المواطنين حيث تم تسجيل عديد حالات الإعتداء بالعنف من طرف أمنيين ضد مواطنين وصحفيين ومدونين عدا عن إطلاق الرصاص على مواطنين عزل وقتلهم عن طريق الخطأ بدعوى مكافحة الإرهاب مثلما حصل في حادثة الفتاتين الدلهومي في القصرين.

لم تضاعف حكومة التكنوقراط بشكل كبير في مجمل الأزمات التي تمر بها البلاد منذ سنوات كما أنها لم تنجح في الحدّ منها بأي شكل من الأشكال. وبذلك تكون حكومة التكنوقراط قد حافظت تقريبا على نفس مستوى الفشل الذي عرفته البلاد خلال فترة حكومة التكنوقراط في كل القطاعات. ويعيب تونسيون على هذه الحكومة تشدق أعضائها بصفة “الكفاءة” التي اختيروا على أساسها. وفهذه الكفاءات التي فشلت رغم كل ما تملكه من خبرات في حلحلة ولو جزء بسيط من المشاكل التي تمر بها البلاد طيلة السبعة أشهر الفارطة، لن يسعفها الوقت خلال المدة القصيرة المتبقية في عمر حكومة جمعة للاستدراك وتحقيق أي تقدم يذكر. ولن تكون الفترة القادمة في تاريخ هذه الحكومة سوى فسحة أخيرة من أجل السهر على إنجاح الإنتخابات وإعادة البلاد إلى فكّ الاحزاب السياسية التي بدأت التناحر على الكراسي منذ وقت مبكّر.