greve-tunisie

بقلم صفاء متاع الله،

على مدى ثلاث سنوات عاشت تونس على وقع الإضرابات العمالية التي طالت المؤسسات العمومية والخاصة. و على الرغم من مشروعية عدد كبير منها والتي انصبت أغلب مطالبها في خانة تحسين ظروف العمل وتحسين الوضع الاجتماعي إلا أنها كبّدت الدولة خسائر تقدر بالمليارات إضافة إلى غياب خطة عمل واضحة للحكومات المتعاقبة على السلطة في تونس، مما حذى اليوم بوزير الاقتصاد والمالية أن يصرح في جويلية الماضي أن نسبة العجز في ميزانية الدولة قد تصل هذه السنة إلى حدود 9,2% وهي نسبة هامة لا يمكن الاستخفاف بها.

“نواة” تمكنت من الحصول على الإحصائيات الرسمية حول تطور الوضع الاجتماعي لسنة 2011 و2012 و2013 وحصيلة الاضرابات العمالية التي شملت البلاد. وفيما يلي عرض لأهم ما جاء فيها:

سنة 2011 سنة الاحتجاج والإضرابات

تميزت سنة 2011 بحراك احتجاجي كبير طغت عليه المطالب ذات الصبغة الاجتماعية، وأفادت الاحصائيات الرسمية الصادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعية أنّ عدد الاضرابات قد ارتفع سنة 2011 بنسبة 122 % مقارنة بنفس الفترة من سنة 2010. كما ارتفع عدد المؤسسات المعنية بهذه الاضرابات من 170 إلى 314 مؤسسة أي بنسبة تقدر بـ 85%، وارتفع عدد العمال المشاركين في الاضرابات بنسبة 108%. وفي نفس السياق شهدت نسبة المشاركة في الاضرابات ارتفاعا بنسبة 74% مقارنة بسنة 2010 (37%)، وارتفع عدد الأيام الضائعة بسبب الاضرابات بنسبة 314% (74.763 يوم سنة 2010 و 309.343 يوم سنة 2011).

ومن المؤسسات التي شملتها الاضرابات نذكر الخطوط التونسية وشركة نقل تونس وشركة اتصالات تونس وقطاع البريد والشركة الوطنية لتوزيع النفط عجيل والشركة التونسية لصناعات التكرير “ستير” ببنزرت وميناء قابس والشركة التونسية للسكر والوكالة العقارية الصناعية والشركة الوطنية للسكك الحديدية والصناديق الاجتماعية والوكالة الفنية للنقل البري وقطاعي التعليم الثانوي والصحة العمومية.

2012 تواصل الإضرابات

رغم أنّ عدد الاضرابات قد انخفض سنة 2012 بنسبة 8% مقارنة بسنة 2011 إلا أنه ظل مرتفعا مقارنة بسنة 2010 بنسبة 105%. كما ارتفع عدد المؤسسات المعنية بهذه الاضرابات مقارنة بسنة 2011 وذلك بنسبة تقدر بـ 31% وارتفاعا بنسبة 142% مقارنة بسنة 2010. لكنّ عدد العمال المشاركين في الاضرابات قد انخفض بنسبة 22% مقارنة بسنة 2011 وانخفضت بالتالي نسبة المشاركة في الاضرابات خلال سنة 2012 مقارنة بسنة 2011 وذلك من 74% إلى 56% وانخفضت نسبة الأيام الضائعة بنسبة 22% مقارنة بسنة 2011.

وشملت هذه الاضرابات 411 مؤسسة منها 380 مؤسسة خاصة و27 مؤسسة عمومية أهمها:

شركة فسفاط قفصة، الشركة الوطنية للسكك الحديدية التونسية، الشركة التونسية للكهرباء والغاز، الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، مؤسسة التلفزة التونسية، الصندوق الوطني للتأمين على المرض، ديوان البحرية التجارية والمواني، شركة النقل بالساحل، والشركة الوطنية لعجين الحلفاء والورق بالقصرين، إضافة إلى قطاعات التعليم الثانوي والتعليم الأساسي والصحة العمومية والصحافة.

سنة 2013: حلقة أخرى من مسلسل الإضرابات

شهدت سنة 2013 حسب الاحصائيات الرسمية انخفاضا في عدد الاضرابات بنسبة 24% بالنسبة لنفس الفترة من سنة 2012 وبـ 30% بالنسبة لسنة 2011. كما انخفض عدد المؤسسات المعنية بالإضرابات إلى 35% مقارنة بسنة 2012 وبـ 15% مقارنة بسنة 2011.

وانخفض عدد العمال المشاركين في الإضرابات خلال 2013 بـ 9% مقارنة بسنة 2012 وبـ 32% مقارنة بسنة 2011. كما تم تسجيل انخفاض هام في نسبة المشاركة في الاضرابات من 56% إلى 14% بالنسبة لسنة 2012 ومن 74% إلى 14% بالنسبة لسنة 2011 وانخفضت عدد الأيام الضائعة بسبب الاضرابات خلال سنة 2013 مقارنة بسنة 2012 بـ7% وبـ 27% مقارنة بسنة 2011.

وشملت هذه الاضرابات 266 مؤسسة منها 235 مؤسسة خاصة و31 مؤسسة عمومية أهمها: شركة تونس للطرقات السيارة والديوان الوطني للسياحة والديوان الوطني للبريد والصندوق الوطني للتأمين على المرض بصفاقس والشركة التونسية للكهرباء والغاز بجندوبة والقيروان وشركة توب نات والوكالة الفنية للنقل البري والديوان الوطني للحبوب بصفاقس وشركة اسمنت بنزرت والشركة التونسية للشحن والترصيف وديوان الطيران المدني والمطارات وشركة نقل تونس والشركة التونسية للسكك الحديدية. كما شهدت سنة 2013 خمسة إضرابات جهوية عامة للمطالبة بالتنمية الجهوية وذلك بولاية زغوان وولاية سليانة وولاية توزر وقفصة وقابس إضافة إلى اضرابين عموميين سجلا خلال شهري فيفري وجويلية وذلك اثر الاغتيالين السياسيين في البلاد.

الاضرابات من حيث القطاعات: قطاعي النسيج والمناولة في الصدارة

تصدر كل من قطاع النسيج والملابس والأحذية وقطاع الخدمات والمناولة وقطاع الصناعات المعدنية والكيميائية قائمة القطاعات التي شهدت أعلى نسبة إضرابات طيلة 3 سنوات.

● سنة 2011 شهد قطاع النسيج والملابس والأحذية أعلى نسبة من الإضرابات بلغت 21%، تلاه قطاع الخدمات والمناولة بنسبة 16.6% وفي المرتبة الثالثة قطاع الصناعات المعدنية والميكانيكية بنسبة 16%.

● سنة 2012 احتل قطاع الخدمات والمناولة رأس قائمة الاضرابات القطاعية حيث سجل أعلى نسبة من الاضرابات وصلت إلى 23% تلاه قطاع الصناعات المعدنية والميكانيكية 14% ثم قطاع النسيج والملابس والأحذية بـ13%.

● سنة 2013 حافظ قطاع الخدمات والمناولة على أعلى نسبة من الاضرابات بنسبة 20% يليه قطاع النسيج والملابس والأحذية بنسبة 16% فقطاع الصناعات المعدنية والميكانيكية بـ15%.

فيما يلي جدول يوضح توزيع الاضرابات حسب القطاعات طيلة 3 سنوات:

greve-secteurs-tunisie

الاضرابات حسب الجهات: صفاقس وبن عروس في الصدارة

ظلت ولايتا صفاقس وبن عروس تحتلان المرتبة الأولى والثانية من حيث أعلى نسبة في الاضرابات تلتهما ولاية نابل وكانت النسب كالآتي:

● سنة 2011 سجلت ولاية بن عروس أعلى نسبة من الإضرابات (19%) تلتها ولاية صفاقس بنسبة 12%.

● سنة 2012 سجلت ولاية صفاقس أعلى نسبة من الاضرابات وصلت إلى 23% تليها ولاية بن عروس بـ15% فولاية نابل بـ 7%.

● سنة 2013 حافظت ولاية صفاقس على أعلى نسبة من الاضرابات بـ 16% تلتها ولاية بن عروس بـ15% فولاية نابل بنسبة 11%.

وفيما يلي توزيع الاضرابات حسب الجهات طيلة ثلاث سنوات.

greve-regions-tunisie

تحسين ظروف العمل أهم أسباب الاضرابات

تعتبر المطالبة بتحسين ظروف العمل السبب الرئيسي للإضرابات ومثلت سنة 2011 نسبة 43% من الاضرابات بينما ارتفعت إلى 49% سنة 2012 ووصلت إلى 55% سنة 2013 مما يدل على عدم التوصل إلى حل هذه الاشكاليات طيلة ثلاث سنوات.
احتل مطلب صرف الأجور وتوابعها المطلب السبب الثاني في الاضرابات بنسبة 43% سنة 2011 و35% سنة 2012 و32% سنة 2013 بينما كانت الاضرابات التي شُنّت للتضامن مع العملة ثالث سبب للاضرابات حيث بلغ نسبة 13% سنة 2011 و7.5% سنة 2012 و4% سنة 2013. وهو ما يبينه الجدول التالي.

conditions-travail-greve-tunisie

إنّ كل هذه الاحصائيات وإن حملت في مضمونها طابعا إيجابيا حول الانخفاض المتواصل في نسبة الاضرابات إلا أنها في نفس الوقت لا تكف عن إطلاق شرارات الإنذار بخطورة المرحلة القادمة من خلال ارتفاع نسبة المطالبة بتحسين ظروف العمل المسبب الرئيسي للإضرابات، ارتفاع مرفوق بعدد من الأسئلة حول مدى امكانية حل هذه الأزمة في ظل عجز الدولة المتواصل من جهة وارتفاع الأسعار بوجه الفئات الشعبية التونسية من جهة أخرى من المتسبب في بلوغ الأمر إلى ما اشارت إليه الاحصائيات؟ الدولة أم الطرف النقابي؟ كلها اسئلة قد يجيبنا عنها الخبير الاقتصادي عبد الرحمان الهذيلي.

إذا لم تتم الاستجابة لمطالب المضربين فإن شهر جانفي القادم سيكون ساخنا
الخبير الاقتصادي عبد الرحمان الهذيلي

بالنظر إلى عدد الاضرابات وتوزيعها خاصة على القطاعات وبالنظر إلى عدد الأيام الضائعة إضافة إلى تصريح وزير المالية والذي قال إنّ تونس مهددة ببلوغ نسبة عجز بـ9.2 % سنة 2014 إذا لم تجد الدولة حلولا عاجلة للوضع العام للبلاد ومع دعوة مهدي جمعة العمال والموظفين إلى الكف عن الاضرابات التي أضعفت ميزانية الدولة كان لنا لقاء مع عبد الرحمان الهذيلي, رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية, للتطرق إلى أسباب بلوغ الاضرابات هذا العدد الكبير طيلة ثلاث سنوات بعيدا عن موقفي طرفي النزاع في هذه المسألة وهما الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومات التونسية المتعاقبة على السلطة.

abdel-rahmen-hthiliيعتبر عبد الرحمان الهذيلي أنّ تواصل الاضرابات منذ الثورة إلى الآن أمر عادي جدا إذا ما عدنا إلى طبيعة ذلك الحراك الاحتجاجي الذي عمّ تراب الجمهورية بين شهري ديسمبر 2010 وجانفي 2011 والذي حسب رأيه كان يكتسي طابعا اجتماعيا من خلال الشعارات التي رفعت أو حتى من خلال العودة إلى المناطق الأولى التي تحركت والتي تعتبر من أكثر المناطق المهمشة في تونس بالأساس وحتى منذ 2008 (أحداث الحوض المنجمي). لذلك اعتبر استمرار الاحتجاجات أمرا طبيعيا جدا لأن المطالب التي ثارت من أجلها الشريحة المفقّرة لم تتحقق مطالبها ولم تجد حتى خارطة طريق واضحة بالنسبة لها ولا آليات جدية لتحقيق مطالبها الاجتماعية البسيطة.

وأضاف رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أنه من المتوقع عودة الحركات الاحتجاجية بعد الانتخابات بقوة مادام لم يتم الاستجابة لهذه المطالب وتحديد ما هو ممكن تحقيقه لها الآن وما هو ممكن على المدى القريب أو المتوسط أو حتى البعيد. كما قال إنه إن لم تصعد إلى السلطة حكومة ذات بعد اجتماعي وتحمل أهدافا ذات عمق اجتماعي وتحمل خارطة طريق واضحة في مسائل التنمية الجهوية والتنمية بصفة أشمل والتشغيل وعديد المسائل الحارقة وما لم تكن تراعي المقدرة الشرائية المتدهورة للمواطن التونسي أيضا فإن هذه الانتخابات لن تكون محطة للاستقرار كما يروج لها الآن بل ستكون مجرد محطة سياسية مثلها مثل انتخابات أكتوبر 2011.

وبالعودة إلى الحديث عن الاحصائيات والأرقام قال السيد عبد الرحمان أنّ كل هذه الأرقام هي مجرد حصيلة لسياسات خاطئة اتبعتها الحكومات المتعاقبة على السلطة بعد الثورة وبالنسبة إليه فإن كل هذه الحركات الاحتجاجية سببها الأول والأخير منوال التنمية الفاشل الذي واصلت الدولة العمل به حتى بعد الثورة والذي كان المتسبب الرئيسي في حراك 17 ديسمبر 2010_14 جانفي 2011 وأنه وقبل السعي إلى طلب هدنة اجتماعية على المسؤولين في الدولة ضبط خطة عمل واضحة في المجالين الاقتصادي والمالي وبمجرد القيام بوضع هذه الخطة سيهدأ الحراك الاجتماعي وستخف وطأة الاضرابات لأنّ أغلبها لم تقم للمطالبة بالزيادة في الأجور بل للمطالبة بتحقيق الاتفاقيات الممضاة سابقا بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة والتي لم يجر تنفيها في الآجال المحددة.

كما أضاف السيد عبد الرحمان الهذيلي أنّه وتاريخيا منذ عهد بورقيبة ثم بن علي كانت الطبقات الشعبية هي التي تتحمل تبعات الأزمات التي تمر بها الدولة من ترفيع في الضرائب واقتطاع للأجور في حين أن رؤوس الأموال التي استفادت من الحكومات السابقة والحالية وكذلك الشريحة التي تتحكم بالثروة في البلاد ترفض التضحية من أجل مصلحة البلاد أو حتى الاستجابة إلى مطلب التحسين في ظروف العمل والذي يعتبر السبب الرئيسي للإضرابات خلال الثلاث سنوات الماضية وعليه فإن المواطن البسيط سواء كان عاملا بالقطاع الخاص أو العمومي ليس مطالبا بتحمل تبعات هذه الأزمات المالية مادام هناك شريحة هي الأخرى ليست مستعدة لوضع يدها في يد الشرائح المهمشة والدولة من أجل إيجاد حلول جذرية للخروج بالبلاد من الأزمة التي تمر بها.

كما أكد أن الجميع يعلم أن الحكومات لم تكن تملك عصا سحرية لتغير الواقع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد بين ليلة وضحاها لكنها لم تسع في المقابل إلى ضبط خطط واضحة لحل هذه المشاكل حتى في المدى البعيد مما زاد من احتقان الطبقات الشعبية التي تعتبر نفسها من آخر اهتمامات الدولة وأضاف أنّه وفي ظل مشروع الميزانية الجديدة وجملة القرارات المتوقع أن تتخذها الحكومة القادمة فإن شهر جانفي القادم سيكون شهرا ساخنا على مستوى الحراك الاجتماعي.