في خضم الصدمة التي هزت تونس عقب عملية باردو الدموية، تتعالى اصوات متعددة “معزّزة” من هنا وهناك، ولكن اغلبها من اعلاميي الحزب الحاكم تدعو اتحاد الشغل هكذا دون مقدمات او توضيبات الى هدنة اجتماعية، تُعلَّق خلالها الاضرابات ومختلف الاحتجاجات المشروعة للشغالين لمدة محددة، تحت مسوّغ تأمين السلم الاجتماعي الضروري للاستثمار المحرك للتنمية والتشغيل.
في المقابل يستمر رجال الاعمال منذ الثورة في وضع “الاعفاء” من كل مستلزم، يتمتعون بـ”هدنة” طويلة من الاعلاميين والحال انهم صاروا من اكبر المستفيدين من الوضع القائم بعد تفجّر اسعار كل المواد تقريبا وتخفيض الضرائب على الشركات وخاصة بعد انسحاق الطرابلسية من المشهد وما لحقه من ارساء لمناخ منافسة تصبغه النزاهة والمساواة والعدالة الى حد ما.
البنك الدولي حدد نسبة تصل الى 21 % من ارباح القطاع الخاص كانت قبل الثورة من نصيب دائرة بن علي واصهاره، عبر الاستيلاء بطرق مختلفة، واليوم تعود في اغلبها للمقاولات والشركات الاخرى، وبالتالي فان عائدات وارقام معاملات معتبرة اصبحت في حسابات بقية رجال الاعمال.
الاستثمار المباشر الداخلي منذ 2011 تجمّد تقريبا برغم استفادة الاعراف من المداخيل الاضافية في التصرف وفي الاستثمار، التي تم استحداثها في ميزانية الدولة بعد رفع كتلة الاجور في الوظيفة العمومية المقدرة بـ 4.4 مليار دينار (ارتفعت بين سنة 2010 و2015 من 6.8 مليار دينار الى 11.2 مليار دينار) ومضاعفة منح العائلات المعوزة ورفع عدد المستفيدين منها، ذهبت اغلبها في الاستهلاك وبالتالي في عائدات رجال الاعمال، وايضا ارتفاع الاستثمار العمومي ، ولم يقابلها تشغيل مناسب في القطاع الخاص ومشاريع استثمارية جديدة وتم الاكتفاء برفع طاقة الانتاج في اغلب الاحيان.
تأتي الدعوات لارساء هدنة اجتماعية في ظل تآكل كبير للمقدرة الشرائية لأغلب فئات الشعب مع التضخم المتصاعد المقدر “رسميا” في حدود 6 % في حين فاق في الواقع سقف الـ 10 % والسلة المعتمدة للقياس من قبل معهد الاحصاء تجاوزها الزمن ولا تعكس الاستهلاك الحقيقي للتونسي، في مقابل عدم تناسب الزيادات في الاجور خاصة وان قرابة الـ 40 % منها تذهب مساهمات اجتماعية وضرائب، واليوم بات جزء كبير من مداخيل الدولة في الميزانية من ضرائب الاجراء في مقابل ارتفاع نسبة التهرب من المهن الحرة والشركات، والانحراف بالامتيازات الجبائية والمالية.
تأتي هذه الدعوات مع توجهات ثابتة من الحكومة بالخضوع لاملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين والاتحاد الاوروبي والدول المانحة وتنفيذ “اصلاحات” مؤلمة بالغاء الدعم ورفع اسعار المواد الاساسية ورفع المساهمات الاجتماعية ورفع سن التقاعد مع العجز المتفاقم للصناديق الاجتماعية والاتجاه صوب خوصصة بعض الشركات العامة العاجزة والمفلسفة وتركيز آليات “الشراكة العامة-الخاصة” “P-P-P” اضافة للخوصصة المقنّعة المتصاعدة في مرافق التعليم والصحّة الحيوية وما صحبها من اثقال كاهل المواطن باعباء متصاعدة.
يأتي ذلك ايضا في ظل اعادة هيكلة البنوك شبه المفلسة بآلاف المليارات دون تدقيق ومحاسبة الفساد الذي نهب مال الشعب، وفي ظل تهاون كبير في استرجاع الاموال المنهوبة المودعة في البنوك الدولية وتغاضي عن الفساد عموما، وفي ظل ضبابية وغموض حول حقيقة وحجم الثروات المنجمية والطاقية للبلد والعقود المتعلقة بها وغياب الحوكمة الرشيدة والشفافية والتقشف في المصاريف العمومية، ومع استمرار سوء ادارة الاراضي الفلاحية الدولية.
اعادة هيكلة وتمويل البنوك والصناديق الاجتماعية العاجزة تحمل كلفتها الباهضة على الاجراء والمواطن عموما في حين ان الاصل في اوضاعها يعود الى الفساد وسوء التصرف والادارة المختلة.
استسهال “حل” الهدنة الاجتماعية المحمول عبؤها على الاجراء مع التغاضي عن الاموال المهدورة عبر عقود الاستثمار في الثروات المنجمية والطاقية ومن البنوك والصناديق المنهوبة والشركات العمومية والصفقات العمومية والتهرب الجبائي والتهريب والديون الكريهة التي ذهبت في حسابات بن علي وحاشيته، ودون اثارة الضرائب على الثروات الطائلة للاثرياء (التي تضاعفت بعد الثروة) والتي حسب دراسات ثابتة يمكن ان تغطي جزء هام من العجز في الميزانية، هذا الاتجاه حقيقة اما ساذج او مغرض ويقارب الامور بطريقة خاطئة او مضللة.
التغاضي عن عجز الحكومة عن ابتكار وابداع الحلول الاستراتيجية في ظل تخبط واضح في قراراتها واضطراب وضبابية في توجهاتها وخياراتها، وتحويل المشكل الى ساحة المتضررين، والقاء العبء على اتحاد الشغالين، هو فعلا انحراف واضح بالقضية، وتهديد حقيقي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية المضمونة في الدستور، وتعمية على حقيقة الاوضاع، وتغطية على قصور الدولة واعفاء خطير لرجال الاعمال من المسؤولية التي اخلوا بها وتعتيم على التجاوزات التي حصلت داخل قطاعهم.
السلطة العاجزة عن خلق الحلول للازمات هي غير جديرة بالحكم، رجال الاعمال الذين لا يهمهم سوى مراكمة الثروات واعلاء المباني دون ادراك لدورهم في العدالة الاجتماعية والمصلحة العامة ودورهم الوطني في التنمية والتشغيل والقضاء على الفقر يحملوننا نحو نظام متوحش ستضيع داخله مصالح الجميع وستسقط فيه الخيمة على الكل.
عندما تقوم الدولة بدورها ووظيفتها في تحقيق السيادة الوطنية على ثروات الوطن واستغلالها الرشيد وارساء الحوكمة الرشيدة والشفافية في التصرف وانجاز العدالة الاجتماعية والجبائية، او على الاقل اظهار الارادة الراسخة في تحقيقها، وعندما يقوم اصحاب الاموال الطائلة بما عليهم من دور وطني، حينها سيستجيب المواطن وتكون تضحيته اعلى واكبر.
حبيبتي، تونس.
أمام مهازل السياسيين، تونس تدفع الثمن غالي ،
– إرهاب ، في عقر الديار ، ديار السيادة ،
– غلاء المعاش ،
– الالتجاء إلى المديونية ، و كأنها الحل الوحيد،
– البخل و الكسل لأغلبية أعوان الوظيفة العمومية ، حتى البعض من أبناء القوات الأمنية ، و الغريب هم يعلمون أننا نحبهم ، نبكي و نحزن لما يصابون ، نتظاهر في الطريق …
ماذا تريدون لتونس ، يا نواب مجلس الشعب ؟ يا حكومة ؟ يا رئيس الدولة ؟ أم أن الدولة العميقة تمنع كل تغير في سياسات الدولة ؟
قمنا بثورة ، فاستوجبت العدالة الانتقالية .
قلنا أننا شعب واحد ، لنا مصير واحد ، فوجب بناء تونس الجديدة مجتمعين .
قلنا أن تونس “أي دولة ” بدون رجال أعمالها ، لا تقوم لها قائمة ، و من البداية طلبنا بعدالة انتقالية “سمحة ، لطيفة ، توافقية ” تنهي في أقل الأوقات أزمة الشركات ، و رجال الأعمال ، شريطة أن يندفعون في بناء بلادهم ، و أن تؤسس الدولة لقانون جباية يجعل منهم مساهمين أساسيين في النهوض بالوطن ، و يمتنعون عن التهرب الجبائي، و عن عرقلة الاقتصاد الوطني ، عبر ما يسمى الاقتصاد الموازي .
ماذا حدث طيلة 4 سنوات ؟ أبت الدولة العميقة بمكوناتها الداخلية و الخارجية ، و تحالفاتها الإستراتجية (الملعونة و الخبيثة )، إلا أن تفشل المسار الديمقراطي ، أن تسيطر على السوق ، أن تدفع بالحكومات بالتجاء إلى المديونية ، أن ترهق القوات الأمنية ،… لكن شعبنا كان واقفا و انجح مساره الديمقراطي و دفع التضحيات (غلاء معيشة ، شهداء أمنيين، جنود بواسل، سياسيين ، مواطنين ).
40000 ألف إضراب في 3 سنوات ! يخلي دار همكم .
أيها التونسي استفق .
تونس لاتحكم إلا بالتوافق، و في إطار التوافق تبنى من جديد ثقافة المصلحة العامة لدى موظفين الدولة، و لدى كافة الشعب. في إطار التوافق ، توضع الإصلاحات اللازمة لكل منظمتنا العمومية (تعليم، صحة ، شركات عمومية ، بحث علمي، إعلام عمومي ،… )، في إطار التوافق يمكن من جديد أن يستأنس المواطن، بحاكمه، و يثق من جديد في السياسي، و يدخل من جديد ميدان جهد جديد، ميدان المساهمة، من أجل تونس العمل و الأمل، من أجل أهداف الثورة (كرامة ، حرية ، عمل،
ديمقراطية ).
يمكن تحقيق هذا الهدف الأسمى ، عبر:
– عدالة انتقالية تدفع إلى المساهمة في بناء الوطن من أجل تطوير جهاتنا الداخلية و كل تونس ، بنية تحتية و نظم . أما قضايا الدم ، فلا بد لها من جلسة شجاعة لكل السياسيين .
– مصالحة وطنية خالصة ، من كل بيعة و شرية خبيثة .
هذا يمكن أن يتحقق إذا توفرت لدينا إرادة الحياة .
إنها صرخة من بعيد ، لكنها من قلب مواطن .