الفضاءات الثقافيّة البديلة: مرحلة الإنحسار وعودة الثقافة الإنتقائيّة

espaces-culturels-underground

الطفرة الثقافيّة التي شهدتها البلاد بعد 14 جانفي 2011، وترسيخ ما اصطلح على تسميته بالثقافة البديلة كانت تعبيرا حقيقيّا عن إرادة شبابيّة في كسر السائد والنمطي على صعيد الحياة الثقافيّة بعد عقود من الجمود والقولبة الفكريّة والفنيّة. ولكنّ هذا التمرّد الثقافيّ يشهد منذ أشهر حالة من الجزر والمحاصرة توّجت بإغلاق فضاء مسار صبيحة يوم السبت 04 أفريل والذّي كان من الفضاءات التي احتضنت تلك الموجة الثقافيّة الجديدة وخلق الاستثناء عبر التركيز على الأحياء الشعبيّة التي حرمت طويلا من حقّها في التكافؤ الثقافيّ والمعرفيّ.

الثقافة البديلة خلقت الفضاءات البديلة…

مفهوم الثقافة البديلة نشأ من رحم مجموعات شبابيّة تطوّعت وتجنّدت لخدمة الحياة الثقافيّة بوسائل ذاتيّة محدودة ومتواضعة متحرّرة من العوائق البيروقراطيّة ومسألة التراخيص والإرتباط بالتمويل العموميّ للفرق والجمعيّات، ولكّنها كانت ذات تأثير كبير على المشهد الثقافيّ في البلاد. فقد استطاعت أن تكسر النمطيّة المعهودة في النشاط الثقافيّ عبر السعي إلى ترسيخ ما حاول النظام السابق قمعه وتغييبه انطلاقا من فكرة ثقافة المقاومة والالتزام بمشاغل وهموم الشارع والمواطن والعمل على استهداف فئة الشباب ونقل الإنتاج الثقافي من الفضاءات الكلاسيكيّة في المسارح ودور الثقافة إلى المقاهي والأحياء الشعبيّة.

هذا التغيير الجذريّ في التعاطي مع العمل الثقافيّ خلق بدوره فضاءات جديدة تستهدف شرائح أكبر وفئات متعدّدة، فتحوّلت العديد من المقاهي إلى ما يشبه المراكز الثقافية كفضاء مسار الكائن في منطقة باب العسل الشعبيّة، والذي أقام العديد من التظاهرات الثقافيّة على غرار “ليالي مسار الرمضانيّة” سنة 2012، بالإضافة إلى عشرات العروض المسرحيّة والغنائيّة الموجّهة لأطفال وورشات تنشيط وتكوين مسرحي وغنائيّ علاوة على احتضان “أيّام سينما الحقوق والحريّات” في مارس 2013 واستضافة العديد من النقاشات الثقافيّة والسياسيّة.

فضاء مسار لم يكن الوحيد الذّي انخرط في دعم موجة الثقافة البديلة، بل شهدت السنوات الأربع الماضية ظهور العديد من الفضاءات كمقهى « Liber’thé » في لافييات، الذي احتضن العديد من التظاهرات السينمائيّة كتظاهرة “سينما الحريّة” التي نظّمتها حركة شباب تونس طيلة شهر نوفمبر 2013، أو أمسيات « Slam » الأسبوعيّة التي تتيح للشباب التعبير عن مواقفهم وأفكارهم وأحلامهم بشكل بسيط وفنيّ في آن واحد، وغيرها من الساحات والفضاءات الخاصّة والعمومية كفضاء لارتيستو والحمراء وقهوة اللوح وتياترو وداون تاون في قفصة وبعض المقاهي الصغيرة في القصرين وسيدي بوزيد، والتي أفسحت المجال أمام الطاقات الشبابيّة لتجد لها موقعا في الساحة الثقافيّة أو على الأقلّ لتترجم رؤاها عبر العمل الثقافيّ والفنيّ.

مرحلة الجزر وعودة الثقافة الفئويّة

القوى الشبابيّة والمجموعات الفنيّة والثقافيّة التي استطاعت أن تفتكّ الساحة الثقافيّة وتؤثّر بشكل جديّ في المشهد الفنيّ العامّ، تجد نفسها اليوم تعيش حالة من الانحسار وتضييق الخناق على مساحات نشاطها المعهودة.

خسارة معركة الحفاظ على فضاء مسار لم تكن حالة منفردة أو معزولة، بل مثّلت ناقوس خطر للتنبيه إلى وضعيّة ما اصطلح على تسميته بالفضاءات البديلة والتي دخلت في ما يشبه مرحلة الجزر لعدّة عوامل سياسيّة واقتصاديّة بالأساس.

فخلال التحقيق الذّي أنجزته نواة حول فضاء مسار والتهديدات بغلقه، تعرّضت إلى بعض من العوائق اليوميّة التي يصطدم بها العمل الثقافيّ البديل في تونس خصوصا في المناطق الشعبيّة على غرار التضييق الأمنيّ والبيروقراطيّة وتعمّد المماطلة في منح التراخيص. كما تعرّض التحقيق إلى العوائق الماديّة التي تعترض أصحاب هذه الفضاءات في ظلّ تجاهل وزارة الثقافة لضرورة الدعم الماديّ لمثل هذه التجارب التي استطاعت نقل النشاط الثقافيّ بأدنى التكاليف إلى عمق الأحياء الشعبيّة للعاصمة ومدن الداخل، بالإضافة إلى عزوف سلطة الإشراف عن تقديم الغطاء القانوني لهذه الفضاءات وحمايتها على أساس نشاطها الثقافيّ.

في ذات السياق، تتجاوز المسألة البعد الإداريّ والماديّ لتشمل مجال التعاطي مع الأمنيّين، إذ تتعرّض العديد من الفضاءات إلى استعمال الأساليب المعتادة من التضييق كطلب الرخص التي تُرفض في معظم الحالات أو شنّ حملات أمنية وهميّة على المقاهي لترهيب الحاضرين وتنفيرهم.

liberthe-tunis

كما أنّ المعطى السياسيّ يلعب دورا كبيرا في تراجع الأنشطة الثقافيّة البديلة، فالزخم المرافق للانتخابات، وانخراط العديد من روّاد الموجة الثقافيّة الجديدة في الدعاية السياسيّة لطرف أو لآخر بالإضافة إلى سعي الأحزاب لوضع يدها على هذا المجال وتسخيره لخدمة حساباتها الخاصّة، ضرب الطابع التلقائيّ والنقيّ لهذه الأنشطة وطغى عليها أكثر فأكثر الجانب التجاريّ على حساب الجودة والمضمون.

مثال آخر على الأزمة التي تعيشها تلك الفضاءات تمثّلت في مشكلة مجموعة “بلاش حسّ” الموسيقيّة التي عملت خلال السنوات الماضية على تشجيع المجموعات الشبابيّة حديثة العهد وتقديم مقرّها وتجهيزاتها كفضاء للتمارين واحتضان الطاقات الشبابيّة في هذا المجال. هذه المجموعة تجد نفسها اليوم دون مقرّ بعد تهالك المبنى الذّي تستعمله منذ سنوات وفي ظلّ تجاهل وزارة الثقافيّة لوضعيتهم المزرية. وهو ما دفع هؤلاء إلى التظاهر خلال المنتدى الاجتماعي العالمي عبر لفت النظر إلى قضيّتهم.

هذه الأزمة التي تعيشها الفضاءات الثقافيّة البديلة، تتميّز في جانب منها بالانتقائيّة، فمعظم الحالات التي تعرّضنا لها في مقالات سابقة في نواة كانت في المناطق الشعبيّة من تونس العاصمة أو في مدن الداخل التونسيّ، في حين تمارس فضاءات أخرى في المناطق الراقية من العاصمة نشاطاتها في ظلّ أريحيّة ماديّة وإداريّة. فضاء “منزل الصورة” في ميتويال فيل أو مدار قرطاج أو فضاء الزفير في المرسى، حيث تقطن الفئات الميسّرة من الشعب التونسيّ تبدو بعيدة تماما عن هذه المشاكل وهو ما عاينته نواة خلال تحقيق سابق حول “منزل الصورة”.

إنّ حالة الانحسار واختناق النشاط الثقافيّ في المناطق الشعبيّة والمهمّشة في مقابل ازدهار نظيرتها في الأحياء الفخمة في العاصمة يلعب دورا خطيرا في تعميق ظاهرة الإدراك اللا متكافئ والاختلال الثقافيّ ويفسح المجال أمام تنامي حالة الجهل والفقر الثقافيّ في مناطق دون غيرها لتتحوّل هذه الأخيرة لبؤرة لمختلف الآفات الاجتماعيّة من إجرام وإرهاب وانحراف أخلاقي.

Culture

Inscrivez-vous

à notre newsletter

pour ne rien rater de nawaat

2Comments

Add yours
  1. 1
    kerim

    مقال ذو أهمية بالغة ، من حيث الحالة التي يعاني منها المشهد الثقافي التونسي ، لا سـيما في المناطق المحرومة.

    لــكن لــدي اقـتـناع بــأن هـــذا الشباب الذي يطالب الآن بحقه في ممارسة
    البديل الثقافي ، إنما يريد حصد ما لم بزرع ، حيث أن 60 بالمائة من هذا الشباب لم يقم بواجبه الإنتخابي ، وبذلك يفتح الباب على مصراعيه للمنظومة القديمة ، وها هي الآن تحكم البلاد و كأن شيئا لم يكن ، فبـــقيت المنظومة الأمنية على حالها ، بوليسية بــحـتـة ، تــعـشق القـمع ولا تــعرف البـديل وليس لديها طموح في تغيير هذه العقلية المريضة التي يتربّى عليها رجال أمـنــنا

    الـــعبرة في الدرس . إن أنت أهملـت حــقك في انتخاب من يـحكمك ، فليس لديك حق في البكاء بعد ذلك ، و تحـمّـل العاقبة

  2. 2
    ورود الشتاء

    L’état capitaliste mondialisé aime ceux qui, à la base, produisent la richesse des nantis. Il les aime… en broche et bien saignants.
    Pourquoi donc s’étonner, dès lors que la seule culture qu’il promeut et impose soit la rentable, celle qui marche au pas, qui distrait et renouvelle les forces de travail, afin que le lundi les énergies renouvelées à minima produisent le plus possible, et en silence ?

    La culture est, en ce sens, une sorte de salaire minimum, subventionné et payant à la fois, pour que la gloire et la puissance des puissants demeure. Sa noble mission est de tirer vers le bas tout ce qui peut l’être : les solidarités, les fantaisies, la création, la gratuité… Bref, ce qui donne à la vie quelques saveurs et couleurs.

    La culture sous nos latitudes a ses son ministère, ses commissaires, ses flics, ses entrepreneurs, ses business-plans… Son maître-mot est distraire, amuser sans relâche. Ecoutez donc toute une journée, nos radios dites nationales, si vous en avez le loisir, et comparez les contenus avec ceux des radios appelées pudiquement commerciales. Relevez l’espace qu’en occupent les chansons…
    Je l’ai fait -sans chronomètre, il est vrai- pour le fleuron de nos nationales, Ath-Thaqâfiyya, un jour de passage pluvieux, il y a quelque temps : la chanson m’y a semblé prépondérante. Si on ajoute à cela, les infos et analyses, quasi-identiques que sur les autres stations, le coran le matin, le soir ? l’hymne national…. les flashs d’auto-promotion, la spécificité se réduit comme peau de chagrin.
    Et puis Ath-Thaqâfiyya est une station de culture cultivée. Quand elle se hasarde hors des sentiers tracées et des autoroutes officielles, elle “folklorise” pour faire couleur locale et nous présente quelques poèmes “malhûn”…
    C’est pourtant la radio qui, chez nous, donne le plus à penser, la vraie mission de tout acte de culture ! Le problème c’est que son périmètre est des plus restreints. Un exemple : c’est bien de consacrer une plage à la musique internationale -souvent européenne d’ailleurs- mais quid des musiques qui se font dans les rues de Tunis, d’Alger, du Caire et d’ailleurs ?

    On aura remarqué que j’ai évité soigneusement de parler de télévision. C’est que, voyez-vous, il faudra parler de notre culture dominante : celle des stades et des cafés.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *