rached-ghannouchi

لا يمكن الحديث عن التمشي السياسي لحزب حركة النهضة دون الحديث عن فكر مهندس هذا التمشي، زعيم الحركة راشد الغنوشي. الإنقسام الحاصل داخل الحزب والذي أدّى إلى استقالة بعض أهم مؤسسيها مثل حمّادي الجبالي، هو أكبر دليل على أن البقاء في هذا الحزب ليس للأقوى، بل للأكثر قدرة على هضم قرارات “الشيخ” المتغيرة بتغير طبيعة علاقاته وصداقاته مع بقية القوى السياسية في البلاد والرضوخ لها دون شروط أو بعنوان البراغماتية التي أسس لها الشيخ نظرياته في الإسلام السياسي.

منذ حصولها سنة 2011 على تأشيرة العمل السياسي، رسمت حركة النهضة أهم استراتيجياتها السياسية على إثر قرارات منفردة أو شبه لزعيمها راشد الغنوشي. هذه القرارات جاءت أغلبها على إثر لقاءات تشاور جمعت الغنوشي بقيادات من أحزاب تقدمية أو ليبيرالية، كما أن أغلب الخلافات التي شقت مجلس الشورى كانت تحلحل بعد تدخله الشيخ شخصيا بما يسرّع في حل الأزمات التي مرت بها الحركة لصالح الشق التابع له في أغلب الحالات. توجيهات الغنوشي التي أثرت على توجه الحركة، حاولت في أغلبها إظهار تخلّص الحزب من عُقدة شبهة التوجه الديني المنغلق بهدف طمأنة الرأي العام، المحلي و الدولي، بسلوكه مسلك الإعتدال والإنفتاح والتسامح، لغايات سياسية ربما أو انتخابية.

الإنضباط الحزبي وسياسة التنازلات

اعتماد الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي من مصادر الدستور كان من أهم معارك حركة النهضة بالمجلس التأسيسي. غير أن راشد الغنوشي، وإثر تصاعد موجة الإحتجاجات ضد هذا المقترح الذي حظي بدعم أنصار الحركة، أنهى فجأة هذا الصراع من خلال تصريح مقتضب أعلن فيه تخلي الحركة عن هذا المقترح، ليجد أعضاء كتلة حزبه النيابية أنفسهم مجبرين على تغيير مواقفهم والتراجع عن مقترحهم. هذا التدخل من الغنوشي لم يكن الأول أو الأخير مما أدخل الحركة في جملة من التنازلات السياسية بالتوازي مع حدوث تغييرات جذرية في الرؤى الفكرية لزعيمها بخصوص عدد من المسائل السياسية والإجتماعية.

كان لسقوط حزب الإخوان بقيادة محمد مرسي في مصر أثرا كبيرا في تراجع حركة النهضة وحليفيها في الحكم سنة 2013 عن التشبث بما أسمته شرعيتها في الحكم. فبعد رفع قياديي حركة النهضة لشعار رابعة ومطالبتهم بمواصلة الحكم، خير راشد الغنوشي الذي قبل المشاركة في الحوار الوطني جنبا إلى جنب مع معارضي حزبه والرباعي الراعي للحوار، التخلي عن الحكم لصالح حكومة التكنوقراط متجنبا بذلك تصاعد موجة الإحتجاجات الشعبية وإمكانية تحولها إلى انقلاب دموي. هذا التنازل الذي قوبل بالرفض من أنصار أحزاب الترويكا، اعتبره بعض قياديي الحركة تهاونا وتنازلا غير أنه لم يسعهم سوى قبوله على مضض، إذ لا مجال لمعارضة قرارات “الشيخ”.

مشروع قانون إقصاء التجمعيين الذي أعده نواب من حزبي المؤتمر والنهضة بالمجلس التأسيسي سقط أيضا بعد اجتماعات سرية بين راشد الغنوشي ورئيس حزب نداء تونس آنذاك الباجي قائد السبسي. فبعد الشروع فعليا في مناقشة هذا القانون الذي يحرم رموز النظام السابق بموجبه من المشاركة في الإنتخابات لمدة عشرة سنوات، أعلن الغنوشي في تصريح إذاعي عن عدم دعم حزبه لهذا القانون الذي اعتبره إقصائيا مطالبا التونسيين بعزل التجمعيين عن طريق صناديق الإقتراع. الإنضباط الحزبي لأوامر وقرارات الشيخ كان فاعلا بخصوص التصويت على هذا القانون مما أدى إلى التخلي عنه وسط تذمر من أنصار الحركة وانجر عنه مشاركة مكثفة للتجمعيين في الإنتخابات وفوز وجوه عديدة منهم بمقاعد في مجلس نواب الشعب وبمناصب في الحكومة الجديدة.

انضباط نواب الحركة بالتأسيسي لقرارات زعيمهم تجلى أيضا في الإنصياع لقراره بخصوص استعمال أغلبيتهم العددية على مضض لمنع بند في الدستور ينص على تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني.

تطبيع راشد الغنوشي السياسي مع القوى السياسية الليبراليّة في تونس ومن أهمها حزب نداء تونس انتهى بحسم الغنوشي لنقاشات مجلس الشورى بخصوص تحالف حزبه مع النداء إثر فوز هذا الأخير في الانتخابات البرلمانية والرئاسية. هذا التحالف المشبوه والذي لم تغنم فيه حركة النهضة سوى منصب وزاري واحد وخطة كاتبي دولة وضعت الحزب الذي سيطر على مجريات الأحداث طيلة السنوات الثلاث الماضية في موضع الطرف الأضعف، وهذه التنازلات السياسية تلتها أيضا تغييرات في مواقف رئيس الحركة الفكرية بخصوص رؤيته للظواهر الإجتماعية التي تتعارض مع بعض النصوص الدينية أو مع بعض تأويلاتها في محاولة منه للظهور بمظهر السياسي المعتدل و المفكر الإصلاحي إزاء الحقوق والحريات. وهذه التغييرات تبلورت من خلال تصريحات، اعتبرها البعض غريبة، واعتبرها آخرون سياسية، لقائد حركة النهضة، أكد من خلالها عدم تجريمه للمثلية الجنسية في الفضاءات الخاصة. جاءت هذه التصريحات أياما قليلة بعد تأكيد بعض قياديي الحزب إمكانية تغيير اسم حركة النهضة في مؤتمرها القادم. فإلى أين ستقود رياح التغيير هذا الحزب الإسلامي؟

المثلية الجنسية وازدواجية الخطاب

أثار تصريح زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في كتيب حوارات مطول صدر مؤخرا للصحفي الفرنسي “اوليفي رافنيلو” بخصوص موقفه من الإجهاض والمثلية الجنسية عديد التعليقات على المواقع الإجتماعية. وتراوحت هذه التعليقات بين التشكيك في صدق الغنوشي في رؤيته لهذه المسائل والسخرية من قدرته على تبني أفكار متعارضة مع مبادئ حزبه رغبة منه في نزع شبهة الإسلام السياسي عنه وعن حزبه خصوصا لدى الدول الأجنبية.

ونقلا عن عدد من وسائل الإعلام التونسية فقد صرّح الغنوشي خلال هذا الحوار المطول بأن « الإسلام يحترم خصوصيات الأشخاص حول موضوع المثلية الجنسية معتبرا أن كل شخص حر في ميولاته ومسؤول أمام ربه». وأكد راشد الغنوشي رفضه لتجريم المثلية الجنسية لأن القانون لا يقوم بتتبع الحياة الخاصة للأفراد ولا ما يعيشونه داخل منازلهم دون أن يخفي رفضه للمثلية الجنسية.

إثر نجاحه في تقديم صورة السياسي الديمقراطي والمعتدل في الداخل والخارج يحاول راشد الغنوشي في هذه الفترة الظهور بمظهر الحقوقي، حتى أن تمشي الحركة في هذا المجال وضع بعض قيادييها في مواجهة مباشرة مع المجتمع المدني التونسي خصوصا أثناء كتابة الدستور. خلال تلك الفترة عمل الحقوقيون في تونس على تنظيم تظاهرات ومسيرات عديدة للتصدي لمقترحات قدمها نواب عن حركة النهضة كالتأكيد على أن المرأة مكملة للرجل لا مساوية له والمطالبة بتجريم الإلحاد وعدم الفصل بين الديني والسياسي. وقد نجحت هذه الحملات في الضغط على هذا الحزب للتراجع عن أغلب مقترحاته ليتضمن دستور تونس الجديد عددا هاما من البنود التي تحفظ الحقوق والحريات. ويبدو أن هذه الضغوطات نجحت أيضا في تغيير فكر راشد الغنوشي بهذا الخصوص بدليل تصريحاته الأخيرة التي أثارت الإستغراب حول قدرته على التخلص من جلباب رجل الدين والدخول في جلباب رجل السياسة مدني التفكير.

ولفهم أبعاد هذه التصريحات خصوصا في ما يتعلق بالجمع بين الدين والسياسة وحدود التعامل مع كل منهما كان لنواة حوار مع رئيس حزب التحرير الإسلامي رضا بالحاج الذي صرح أن :

على راشد الغنوشي أن يعلن صراحة تخلي حزبه عن الدين وانحصاره في العمل السياسي. فأن يكون رجل الدين سياسيا لا يمنحه الحق في تحليل المحرمات أو التهاون مع مرتكبيها وهنا أقصد المثلية الجنسية. النصوص القرآنية تحرم اللواط والسحاق صراحة وديننا يدعو إلى العفة وصون الأعراض والإبتعاد عن الزنا والفاحشة سواء في السر أو في العلن. وراشد الغنوشي اضطر إلى القول بأنه لا يجرم المثلية الجنسية في الأماكن الخاصة للإجابة عن الأسئلة الحارقة التي يوجهها له الغرب ويطالبونه فيها بتأسيس أحكام إسلامية على مقاسهم. وما فعله رئيس حركة النهضة يعتبر محاولة للتطبيع الأخلاقي والعقائدي مع الغرب نزعت عنه مصداقيته الدينية، ولا يسعني هنا أن سوى أن أقول: العمامة لا تصنع الإمامة.

الباحث الجامعي في قسم الحضارة العربية الإسلامية سامي براهم أكد في تصريح لنواة أن:

راشد الغنوشي نجح في هذا التصريح في الفصل بين رجل الدين ورجل السياسة. وملخص قوله هو أنه يرفض المثلية الجنسية التي تحرمها كل الديانات ولكنه يعيد عقوبتها إلى النصوص القانونية لا النصوص الدينية. وبالتالي فإن راشد الغنوشي يرفض تطبيق العقوبات المسجلة في كتب الفقه ضد المثليين ومن بينها الرمي من مكان عال استنادا إلى الآية 82 من سورة هود في ذكرها لأهل لوط ” فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ”.

وأضاف براهم أن تصريح الغنوشي جاء في ثلاثة أقسام هي « اعتبار المثلية الجنسية محرمة، عدم تجريم المثليين إلا بالقانون الذي تضعه المؤسسات التشريعية والتأكيد على أنه لا يوجد في الإسلام ما ينص على ضرورة تتبع الناس في خلواتهم الخاصة. وهنا يجب التذكير بأن معاقبة الزناة في الإسلام تتطلب حضور أربعة شهود على عملية الزنا مما يتناسب مع تصريح الغنوشي الذي أكد على ضرورة احترام خصوصية المواطنين». وحول اتهام الغنوشي من طرف بعض السياسيين بازدواجية الخطاب والتطبيع العقائدي مع الغرب قال براهم أن

الغنوشي تحدث كزعيم سياسي وليس كرجل دين، بصفته ملزما باحترام ما جاء في الدستور الذي ساهم حزبه في صياغته مع تأكيد على حرية الضمير. ويحسب للغنوشي اعتماده خطابا ذكيا يوازن بين الحكم الديني والحكم السياسي مع احترام للقانون، وهذا الخطاب العقلاني غير التقليدي هو ما تحتاجه البلاد في هذه الفترة التي يمر فيها العالم بفوضى تقودها الجماعات المتشددة باسم الدين.

وحول موقف حركة النهضة من هذه التصريحات قال القيادي بالحركة لطفي زيتون لنواة أن تصريحات الغنوشي حول المثلية الجنسية تمثل رؤاه وفكره ولا تمثل الحركة التي لم تناقش بعد هذا الموضوع ولم يتم طرحه للنقاش أساسا لأنه لا يمثل أولوية بل كان فقط مجرد إجابة شخصية عن سؤال صحفي. وأكد زيتون أن تصريحات الغنوشي لم تخالف ما جاء في النصوص الدينية التي تحرم التدخل في الحياة الخاصة للأشخاص، كما أنها كانت متناسقة مع فكره السياسي المرتكز على احترام الحقوق والحريات.

أوصاف كثيرة يتّم اليوم إطلاقها على زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي: رجل الدين، السياسي المعتدل، حليف التقدميين وأخيرا الحقوقي. في انتظار أن يفاجئنا الغنوشي بتصريحات جديدة تحمل في طياتها ترضيات وتنازلات أخرى، يحتفل مثليو تونس ربما بتغاضي راشد الغنوشي ومن ورائه حركة النهضة عن توجهاتهم الجنسية، وينتظرون ربما مساهمة من هذا الحزب في تقنينها.