أمام ارتفاع عدد حوادث وقضايا التعذيب في السجون التونسية نجد المجتمع يتساءل إذا ما كانت القوانين تسمح بمثل هذه الإعتداءات وتبيحها، و إذا كانت السلطة تخول لصاحبها تعذيب السجين والتسبب له في عاهات جسدية وأحيانا الموت . وإذا توفرت القوانين والأطر التي تحمي المساجين والموقوفين، ماهو الضامن للحرمة الجسدية للإنسان وعدم افلات المعتدي من العقاب؟
لم تختلف المعايير الدولية واتفاقيات مناهضة التعذيب و القوانين الجزائية في تعريف التعذيب، وكان التعريف بنفس ما جاء باتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة الصادرة في عام 1984 والتي صادقت عليها تونس في 23/9/1988 والتي تذكر أنه:
يقصد بالتعذيب أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديا كان أو عقليا، يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه، هو أو شخص ثالث ، أو عندما يُلحِق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أيا كان نوعه، أو يحرّض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية. ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها.
و قد أكدت اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب على أن التعذيب لا مبرر له ولا يمكن التذرع بأي ظروف استثنائية بما في ذلك الحرب.
و خصص القانون الجزائي التونسي للتعذيب قسما كاملا اسمه ” في تجاوز حدّ السلطة وفي عدم القيام بواجبات وظيفة عمومية”: حيث أكد في الفصول من 101 إلى 105 وفي فصول أخرى متفرقة أن التعذيب جريمة يعاب عليها القانون ومدة العقوبة بين الخمس سنوات و السجن مدى الحياة. حيث ينص الفصل 101 مكرر في فقرته الأولى على أنه :
يعاقب بالسجن مدة ثمانية أعوام الموظف العمومي أو شبهه الذي يخضع شخصا للتعذيب وذلك حال مباشرته لوظيفه أو بمناسبة مباشرته له.
إلا أن السؤال المتداول والمطروح دائما هو هل هناك فعلا من يطبق القانون وما يجبره على تطبيق القانون ؟ أم أن المنظومة الجزائية هي مجرد صورة نواري بها عورات الأنظمة لنصنع دعاية مزيفة بين الدول المتقدمة،دعاية حماية الحرمة الجسدية وحقوق الإنسان؟
مسألة تطبيق القانون و التحقيق في هذه القضايا والبت فيها موكولة إلى القضاء وحده والذي يعتبر سلطة مستقلة بذاتها ولا تخضع إلى أي سلطة أخرى قد تلزمها بتطبيق أوامر خارجة عن القانون. ويبقى الأمر مرتبطا بإرادة حقيقية في الرقي بالمجتمع و تحقيق ما يرنو إليه من عيش محترم واحترام لمؤسسات الدولة من خلال احترام المواطن وحرمته وحقه في تقصي الحقيقة ومعاقبة الجناة.
ولعل من بين أهم ركائز ودعائم التحقيق و التقصي في جرائم التعذيب بروتوكول إسطنبول وهو دليل التقصي والتوثيق الفعالين للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.
وجاء في هذا البروتوكول مجموعة من التوصيات والدعائم حيث تناول مهمة القاضي والمحامي في البحث في ملفات التعذيب و تقصي المعلومة و التحقيق. فقد جاء في المادة 49 في قسم آداب مهنة القانون أنه:
يقع على القضاة بوصفهم أصحاب القول الفصل في إقامة العدل دور خاص في حماية حقوق المواطنين والمعايير الدولية تلقي واجبا أخلاقيا على القضاة يملي عليهم ضمان حماية حقوق الأفراد… ويقع على أعضاء النيابة العامة بالمثل واجب أخلاقي يملي عليهم التحقيق في جريمة التعذيب التي يرتكبها موظفون عموميون والملاحقة القضائية لمرتكبيها.
ثم تأتي مهمة الطبيب الشرعي في إثبات جريمة التعذيب و القواعد والمعايير الأخلاقية لمهنة الطب في التعامل مع ضحايا التعذيب و الإجراءات التي يجب القيام بها لتوثيق جريمة التعذيب.
وقد أكد دستور 2015 في فصله الثالث والعشرون على ضرورة حماية الحرمة الجسدية للأفراد وعلى منع وتجريم التعذيب سواء كان ماديا أو معنويا.
ورغم تعدد القوانين و المعاهدات التي تمنع التعذيب وتجرمه إلا أن عدد ضحايا التعذيب في إرتفاع متواصل و تبريرات الجرائم صارت مضحكة بداية من الطبيب الشرعي إلا وزارة الداخلية.
ولعل سبب ذلك يعود إلي عقلية تطبيق القانون على المواطن ولكن قانون العصا، وتمثيل القانون في شخص الموظف العمومي وكأنه هو من سَنَّه أو سُنَّ لأجله وتناسي أن القانون وجد ليكون في خدمة المجتمعات وتنظيمها و تسليط العقوبة على من يستحقها و تحميل المسؤولية الجزائية لكل من ثبت تورطه في جرائم التعذيب والإعتداء على المواطنين.
فالسكوت عن جريمة التعذيب هو تكريس لمنظومة كاملة من الفساد و يعتبر هو الآخر جريمة في حق الضحية وحق المجتمع وتكريس للإفلات من العقاب الذي كاد يصير مبدءا.
هذه القوانين والإجراءات جعلت لأجل إحترام حقوق الإنسان وتكريس مبدأ الحرمة الجسدية له حتى يكون القانون فوق الجميع وليس تحت أقدام الجميع.
قبل هروب بن علي كانت آلة التعذيب محمية من طرف الدكتاتورية ، دكتاتورية الحزب الواحد . بعد هروب بن علي كنا نظن أنه يمكن (بقليل من الجهد ) أن تدخل الممارسات الأمنية و العمل الأمني في جملته دار حقوق الانسان ، لكن مع الأسف الأمر يظهر فيه كثرة تعقيد (على مستوى الثقافة الأمنية ، كما على مستوى نفسية الامنيين الذين يباشرون عمليات الاستنطاق ) رغم أنه يوجد طرق أكثر نجاعة من التعذيب الجسدي و النفسي للوصول إلى الحقيقة . على ماذا يدل هذا الاستمرار في التعذيب ؟ على كثير من الأشياء … لكن هناك أمر معقد ، القوات الأمنية ( إلى يومنا هذا ) هي غير مستعدة عن التخلي عبه ، وهو حمل مشروع سياسي ذاتي ، المؤسسة الأمنية هي ذاتها دولة في وسط دولة . و المشرع يمكن أن يصدر قوانين جديدة ، لكن تبقى حبر على ورق .
الخطير في الأمر أن التعذيب اليوم يجد نفسه محمي من طرف احزاب تقول أنها ديمقراطية و ليس من طرف دكتاتورية حزب واحد . فدكتاتورية الدولة مستمرة في قالبها المتوحش .
مع الأسف .