من اليمين إلى اليسار: رضا الأحول، وزير التجارة، الحبيب الصيد، رئيس الحكومة، وسيسيليا مالستروم، المفوّضة الأوروبية للتجارة
من اليمين إلى اليسار: رضا الأحول، وزير التجارة، الحبيب الصيد، رئيس الحكومة، وسيسيليا مالستروم، المفوّضة الأوروبية للتجارة

بقلم غسّان بن خليفة،

تجدّد الجدال منذ 13 أكتوبر الماضي، تاريخ إطلاق رضا الأحول، وزير التجارة، وسيسيليا مالستروم، المفوّضة الأوروبية للتجارة، المفاوضات حول اتفاقية التجارة الحرّة الشاملة والمعمّقة بين تونس والاتحاد الأوروبي. وقد سبق لرئيس الحكومة الانتقالية مهدي جمعة أن حاول إطلاق التفاوض حول هذه الاتفاقية في 2014، قبل أن يتراجع أمام الانتقادات. إذ فيما ترى الحكومة وبعض “الخبراء الاقتصاديين” في الاتفاقية خطوة ضرورية لتعزيز “الاندماج في السوق الأوروبية”، يحذّر آخرون من تداعياتها السلبية المتوقّعة. ويستشهد هؤلاء بما لحق القطاع الصناعي التونسي نتيجة التوقيع على اتفاق الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي قبل عشرين عامًا.

تقييم نتائج اتفاق 1995

ويشدّد الخبراء المعارضون للاتفاقية الجديدة على ضرورة البدء بتقييم نتائج اتفاق الشراكة المبرم سنة 1995. وهو الاتفاق الذي نصّ على رفع الحواجز الجمركية على توريد وتصدير المنتجات الصناعية، فيما استُثني قطاعيْ الخدمات والفلاحة. ويقول منتقدو الاتفاقية، أنّه على عكس ما بشّر به المتفائلون لم تتمكّن تونس من تعديل ميزانها التجاري المختلّ مع أوروبا. بل خسرت ميزانية الدولة جرائه 30 % من المداخيل الجبائيّة المعتادة، ودفعها «إلى المزيد من الاقتراض الخارجي»، كما كتب الخبير الاقتصادي محمّد شوقي عبيد. ويضيف عبيد أنّ «أكثر من نصف الشركات الصناعية الصغيرة والمتوسطة اختفت»، أي ما يعادل 55% من النسيج الصناعي، ممّا تسبّب في فقدان حوالي نصف مليون تونسي لعمله.

ويشير الخبراء المعارضون على وجه الخصوص إلى قطاع النسيج. إلاّ أنّ الخبير الاقتصادي عزّ الدين سعيدان قلّل في تصريح لنواة من هذا التقييم السلبي. إذ يرى أنّ سبب تراجع صناعة النسيج في تونس هيكلي ويعود إلى اتفاقية الألياف المتعدّدة (وهي اتفاقية قديمة تحدّد حصصًا لصادرات النسيج لكلّ دولة، وانتهى بها العمل سنة 2005 لصالح اتفاقية “الجات”) وليس لاتفاق 1995 مع أوروبا. الأمر الذي يعارضه الخبير الاقتصادي مصطفى الجويلي، إذ رأى، في تصريح لنواة، أنّ كِلا الاتفاقين يدخلان في منظومة العولمة الاقتصادية، التي تخدم مصالح الدول الغنيّة. وينسحب هذا التباين في التقييمات على الاتفاقية الجديدة كذلك.

قطاعات جديدة ومخاطر عديدة

ستشمل المفاوضات بالأساس قطاعين جديديْن، بقيَا إلى حدّ الآن خارج مجال “التبادل الحرّ”، وهما الفلاحة والخدمات بمختلف تفرّعاتها. وهو ما يعني تمكين الشركات الأوروبية الضخمة من منافسة المؤسسات التونسية في مجالات “استراتيجية” مثل الغذاء والطاقة والصحّة والبنوك والصفقات العمومية.

ويرى الخبير سعيدان أنّ توقيع هذه الاتفاقية سيكون في صالح عدد من القطاعات «على شرط أن نحسن التفاوض». وهو لا يخشى على قطاع الفلاحة الذي تمتّع إلى حدّ الآن بسياسة حمائية «زائدة عن اللزوم»، حسب قوله. إلاّ أنّ مصطفى الجويلي يعتقد أنّ ذلك سيكون في صالح شركات الإنتاج الزراعي الأوربية الكبيرة وعلى حساب الفلاحين التونسيين، لا سيما الصغار منهم.  وقال أنّ المفاوضات الجديدة في قطاع الفلاحة تندرج في سياق توجيهات قديمة للمؤسّسات المالية العالمية. ويشير في هذا الصدد إلى دراسة للبنك العالمي، تعود إلى سنة 2006 ووصفها بـ”الخطيرة”، أوصت بـ«التخلّي عن الزراعات غير الرابحة مثل القمح وتربية الماشية».

ودافع بن سعيدان كذلك عن المنافع الممكنة لهذه الاتفاقية في مجاليْ البنوك والصحّة. إذ سيؤدّي إلى «تنشيط السوق الماليّة»، كما أنّ القطاع الصحّي الخاصّ في تونس له قدرات تنافسية وتشغيلية كبيرة «إذا فُتح للاستثمار الأجنبي». وهو ما ينفيه الجويلي، الذي يرى أنّ فتح القطاع المالي سيؤدّي إلى ابتلاع البنوك التونسية الخاصّة والعمومية من قبل البنوك الأوروبية الكبرى، وهو ما سيعني بالضرورة «فقدان تونس آخر أدوات سيادتها». فاختفاء البنوك العمومية يعني ببساطة، حسب قوله، عدم قدرة الدولة على وضع خطط تنموية ومشاريع استثمارية. وأمّا فتح القطاع الصحّي أمام رأس المال الأوروبي فهو سيكون في صالح الأغنياء، الذين «سيتمتّعون بأجود الخدمات الصحيّة، فيما ستتواصل معاناة الفقراء والطبقة المتوسطة».

أبعد من الحواجز الجمركيّة

ولا يبدو واضحًا للكثيرين أنّ التوقيع على الاتفاقية يتجاوز مجرّد إلغاء المعاليم الجمركيّة على منتجات قطاعيْ الفلاحة والخدمات. إذ أنّه سيشمل أيضا «إلغاء الحماية التعريفية والتدابير الصحية والتدابير المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية وكذلك تلك المتعلقة بقانون المنافسة»، كما ورد في تقرير تحصلت نواة على نسخة منه، أعدّه الخبير الاقتصادي سامي العوّادي. وورد في نفس الورقة، التي تقدّم بها الخبير الاقتصادي خلال مائدة مستديرة لمنظمات المجتمع المدني التي تعترض على المفاوضات، أنّ هذه الاتفاقية الجديدة تمثّل بالنسبة للاتحاد الأوروبي ” محاولة لفكّ خناق الأزمات المتتالية منذ 2008 على اقتصادياته.

وذلك بفتح أسواق جديدة أمام شركاته في القطاعات التي اعتبرتها بلدان جنوب المتوسط حساسة وحيوية، وحافظت على حمايتها من المنافسة العالمية ابّان إنشاء منطقة التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي في التسعينيات واحاطتها بحماية جمركية وغير جمركية في شكل تراخيص مسبقة مثلا. سامي العوّادي

⬇︎ PDF

ومن المسائل التي تثير المخاوف في هذه الاتفاقية ما يتعلّق بـ «حماية حقوق الملكية الفكريّة». إذ يطالب الأوروبيون، ضمن الاتفاقية بالمصادقة على قوانين تحمي براءات اختراع شركاتهم وتمنع “نسخها”، كما ورد في مسودّة المقترح، حصلت نواة على نسخة منه، الذي قدّمه الأوروبيون للتونسيين كقاعدة للتفاوض خلال “الجولة صفر” من المفاوضات التي بدأت منتصف أكتوبر الماضي.

وتكمن الخطورة في أنّ ذلك قد يفضي إلى تهديد حقّ المرضى في استعمال الأدوية الجنيسة، التي تعتمد عليهم منظومة التأمين على المرض في تونس. إذ كشف بيان مشترك لـ الجمعية التونسية لمقاومة الأمراض المعدية والتحالف الدولي من أجل ضمان العلاج في الشرق الأوسط وشمال افريقيا، أنّ : الأوروبيين طالبوا في اتفاقيات مشابهة، أبرموها مؤخّرًا، بالتمديد في مدد حماية براءة الاختراع إلى ما يتجاوز العشرين عامًا، وبأن تشمل هذه الحماية الأدوية الجنيسة. وهو ما سيمثّل ضربة لشركات الأدوية المحلّية وللمصابين بأمراض خطيرة ذات تكلفة علاج باهظة الثمن، مثل نقص المناعة المكتسبة (الإيدز).

يختلف الخبراء الاقتصاديون في تقييمهم للانعكاسات الممكنة لهذه الاتفاقية، فمنهم من يعتبرها «ضروية لإنقاذ الاقتصاد التونسي» وتمكينه من الوصول إلى «سوق أوروبية تضمّ 500 مليون مستهلك»، فيما يرى فيها آخرون «بابًا لعودة الاستعمار المباشر»، كما قال الخبير مصطفى الجويلي.

إلاّ أنّ أغلبهم يجمعون على الأقلّ  على أنّ دخول تونس في هذه المفاوضات “متسرّع”. وأنّه يجب أوّلاً تقييم حصيلة الاتفاقيات السابقة مع الاتحاد الأوروبي، إلى جانب إعداد دراسة شاملة للانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية الممكنة. ويشيرون في هذا الصدد إلى مثال المغرب الأقصى، الذي بادر إلى تأجيل الجولة الخامسة من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي في انتظار استكمال هذه الدراسة.