لم يشكّل مؤتمر سوسة لحظة قطيعة من شأنها أن تضع حدّا للهستيريا الانشطارية التي أصابت حزب نداء تونس منذ صعوده إلى سدة الحكم في 26 أكتوبر 2014، بل كان أشبه برش الحرائق بالمواد القابلة للاشتعال.

بالرغم من أن أزمة الحزب الأول في الحكم اتخذت طابعا استعراضيا في المنابر الإعلامية، فإن الحالة الانقسامية التي يعيشها حزب نداء تونس ترتبط أساسا بعدم استقرار تركيبته القيادية. ويُمثِّل التنازع حول هذه التركيبة المبدأ الناظم لمختلف المسارات والتوجهات داخل الحزب. ومن هذا المنطلق يمكن تفكيك هذه الظاهرة الحزبية العجيبة من خلال رصد تطور مواقع القادة الأفراد انطلاقا من النواة الحزبية المؤسِّسة مرورا بالمكتب التنفيذي وصولا إلى مؤسسات الحكم.

مُؤسِّسون في الشتات

عندما تشكّلت مجموعة التأسيس وأعلنت عن نفسها في 16 جوان 2012 لم تكن حزبا كلاسيكيا قائما على وحدة تاريخية وفكرية وسياسية، وإنما كانت أشبه بالتقاء عدد من الفاعلين السياسيين من ذوي التجارب التاريخية والسياسية والعقائدية المختلفة، جَمَعتهم الحرب المقدسة على المشروع الإسلامي الصاعد آنذاك. وقد نجح المؤسّسون –بفضل العديد من العوامل الداخلية والخارجية- في معركة الحشد الانتخابي بداية من سنة 2013 وصولا إلى أواخر سنة 2014 التي انتهت بصعود الحزب إلى سدة الحكم وفوز رئيسه الباجي قايد السبسي بمنصب الرئاسة. حِينَها اتضح أن الحزب الفائز الأول بالانتخابات التشريعية والرئاسية دخل في مرحلة قطف الثمار ليستيقظ بذلك شيطان المواقع ويتوزع المؤسسون على بيوت السلطة، بين قرطاج والقصبة وباردو.

ظهر في أول الأمر صراع حول هندسة القرار والتأثير في سياسات الدولة بين مستشاري قصر قرطاج وهم أساسا رضا بالحاج ومحسن مرزوق وبين وزراء القصبة خصوصا وزير الخارجية الطيب البكوش ولزهر العكرمي الوزير المكلف بالعلاقات مع مجلس النواب، ولكن هذا الصراع بين مجموعة التأسيس لم يذهب إلى أقصاه نظرا للدور التعديلي الذي لعبته الشخصية الأبوية للباجي قايد السبسي.

ومع قدوم زائر الفجر الغريب، قايد السبسي الإبن، الذي عيّنه والده في 8 ماي 2014 مديرا للهياكل الجهوية للحزب، بدأت محاور الصراع تأخذ منحا جديدا وأصبحت السيطرة على جهاز الحزب أبرز عناوينه. وقد سعى حافظ قايد السبسي إلى المسك بالأداة التي صنعت الانتصار الانتخابي من خلال خلق شبكة من الولاءات الجديدة صلب الهياكل الجهوية والمحلية وداخل المكتب التنفيذي، وتزعّم ما يسمى بتيار تصحيح المسار الذي كان الهدف منه تحجيم دور الهيئة التأسيسية وخلق إطار تنظيمي جديد يسحب منها مقبض القيادة. ونجح ابن الرئيس من خلال وضع أسس جديدة للصراع في اختراق نواة التأسيس واستمالة عدد كبير منها إلى صفِّه من بينهم رضا بالحاج، الرفيق القديم لمحسن مرزوق، وسلوى اللّومي الرقيق وأنيس غديرة وسليم شاكر ولزهر القروي الشابي. وقد لعب حب التقرب من الرئيس دورا كبيرا في صناعة هذا التموقع. وفي الأثناء نشِطت حملة مضادة لحافظ قايد السبسي تزَعّمها محسن مرزوق، ورغم تقاطعها مع مواقف العديد من المؤسّسين على غرار لزهر العكرمي وبوجمعة الرميلي والطيب البكوش، فإنها لم تنجح في خلق تحالف متماسك داخل نواة التأسيس نظرا للتوجس من المطامح الشخصية لمحسن مرزوق، علاوة على حالة الترقب التي تحصّن بها بعض القادة الهامشيين على غرار سماح دمّق ووفاء مخلوف.

كتلة برلمانية تغص برجال المال ومُحترِفي السياحة الحزبية

لم ينحصر الصراع داخل الهيئة التأسيسية وإنما تسرّب إلى الكتلة البرلمانية التي تضم عددا من أعضاء المكتب التنفيذي وبعض المنسّقين الجهويين. وقد استفاد حافظ قايد السبسي من توسيع دوائر الصراع ليغنم مناصرين جدد، وهم في الأساس مجموعة من القادمين من تجارب حزبية قديمة التحقوا بنداء تونس تزامنا مع بداية المد الانتخابي أواخر سنة 2013 وبعضهم امتهن السياحة الحزبية على غرار خالد شوكات وخميس قسيلة وعبد العزيز القطي. وقد استشعرت هذه المجموعة نوعا من الإقصاء داخل الهياكل القيادية للحزب وفي مراكز القرار، ووجدت في حافظ قايد السبسي ضالتها حتى تضمن مواقع تليق بطموحاتها. ونالت في نهاية المطاف جزاءها سواء في الحكم على غرار خالد شوكات الذي أصبح وزيرا مكلفا بالعلاقات مع مجلس النواب، أو في الحزب على غرار خميس قسيلة وعبد العزيز القطي حيث عُيِّن الأول أمينا وطنيا مكلفا بالشؤون السياسية والثاني أمينا وطنيا وناطقا رسميا باسم الحزب. وفي هذا السياق تشير آخر المعطيات إلى أن عبد العزيز القطي أعلن تخلّيه عن المسؤولية التي مُنِحت له في مؤتمر سوسة الأخير نظرا لضعف الموقف الحزبي للمجموعة الداعمة لابن الرئيس خصوصا في ظل موجة الاستقالات المتتالية.

نجح قايد السبسي الإبن أيضا في كسب دعم رجال الأعمال المنضوين في كتلة نداء تونس، والذين عُرٍفوا بنشاطهم القيادي في حزب التجمع المنحل، على غرار بشير بن عمر رئيس قائمة ولاية مدنين وكمال الحمزاوي رئيس قائمة ولاية القصرين، علاوة على بعض المنسّقين الجهويين الذين لعبوا دورا بارزا في الصراع مثل المنسّقة الجهوية بالقيروان النائبة أنس الحطاب. وبالمقابل لم ينجح غريمه محسن مرزوق أول الأمر إلا في استمالة بعض الغاضبين الذين تعزّز عددهم بعد مؤتمر سوسة الأخير، وفي هذا السياق لعب رضا بالحاج الداعم الأبرز لابن الرئيس دورا كبيرا في استمالة بعض النواب الذين تربطهم وشائج فكرية وسياسية بمحسن مرزوق على غرار بشرى بالحاج حميدة وسعيدة قرّاش وبوجمعة الرميلي.

أثَّر تصدير الصراع إلى الكتلة البرلمانية في تركيبتها التي أصبحت تشهد انقساما ثلاثي الأضلاع، إذ تضم كتلة من المستقيلين بلغ عددها إلى حد الآن 22 نائبا أعلنوا تأسيس كتلة جديدة أطلقوا عليها “الحرة”، وطيف آخر استقال من هياكل الحزب بعد مؤتمر سوسة ولم يغادر الكتلة وقد بلغ عددهم 6 نواب، بينما البقية مازالت متمسكة بالكتلة وبالحزب ويبلغ عددهم 58 نائبا.

وزراء القصر

الدور الذي لعبه القصر في الصراع -من خلال الانحياز لابن الرئيس- أثَّر على اختيار الحقائب الوزارية لنداء تونس في التحوير الأخير. ومن هذا المنطلق تمت إزاحة بعض الوزراء غير المنحازين لجناح حافظ قايد السبسي على غرار وزير الخارجية الطيب البكوش ومحمود بن رمضان الذي تم نقله من وزارة النقل إلى وزارة الشؤون الاجتماعية وقد قدم مؤخرا استقالته من اللجنة الاجتماعية والاقتصادية للحزب احتجاجا على هذه الحركة، والبعض الآخر استشرف خيار التصفية فقدَّم استقالته قبل الأوان على غرار لزهر العكرمي الوزير السابق المكلف بالعلاقات مع مجلس النواب، الذي يعد من أبرز المعارضين لقايد السبسي الابن. وبالمقابل حَظيت المجموعة الدّاعمة لابن الرئيس بحقائب وزارية جديدة على غرار يوسف الشاهد رئيس لجنة الـ13 الذي أصبح وزيرا للشؤون المحلية وأنيس غديرة وزيرا للنقل وخالد شوكات وزيرا مكلفا بالعلاقات مع مجلس النواب.

مؤتمر سوسة: مقدمة لتصدّع جديد

مثَّلت المشاركة في مؤتمر سوسة مِحرارًا لقياس التوجهات الكبرى داخل نداء تونس، ليظهر التشتت ذو طابع ثلاثي في أول الأمر، إذ أن هناك مجموعة رئيسية تدعم خيار إنجاز المؤتمر وفقا للخارطة التي رسمتها لجنة الـ13 وهي المجموعة الداعمة لتوجه قايد السبسي الابن، بينما هناك مجموعة التحقت بمبادرة محسن مرزوق التي تهدف إلى فك الارتباط بالحزب الأم وتأسيس حزب جديد، أما التوجه الثالث فقد رفض المشاركة في المؤتمر وفي نفس الوقت لم يلتحق بمبادرة الأمين العام السابق محسن مرزوق على غرار الطيب البكوش ولزهر العكرمي.

وبمجرد الإعلان عن التركيبة القيادية الجديدة للحزب يوم 10 جانفي 2016 انفرط عقد المجموعة التي شاركت في أشغال المؤتمر، لينفتح الحزب على مشهد انقسامي جديد تبرز فيه على الأقل ثلاث توجهات، التوجه الأول السائد بزعامة ابن الرئيس والذي يدعو إلى عدم التراجع عن التركيبة الحالية التي أفرزها المؤتمر، بينما يدافع التوجه الثاني على مبدأ مواصلة الإصلاح من الداخل وإلغاء التركيبة الجديدة وانتخاب تركيبة أخرى أكثر توافقا بعيدا عما اعتبروه تصفية عرقية ويتزعم هذا التوجه بعض المؤسسين مثل بوجمعة الرميلي وسماح دمق ووفاء مخلوف وبعض الغاضبين عن عدم منحهم مناصب قيادية على غرار بشرى بالحاج حميدة وحسونة الناصفي ومنصف السلامي وسعيد العايدي. أما التوجه الثالث، والذي يبدو الأكثر طرافة، فيدعو إلى تأسيس تيار جديد من داخل الوحدة الحزبية “تيار الأمل” الذي أطلقه رجل الأعمال فوزي اللومي.