المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

“إنني ألتزم، كإنسان، بمواجهة التهديد بالتصفية على أن تشع بعض الحقائق على هذا العالم”
قَسَمُ فرانز فانون

” نحن لم نقطع مع البؤس لأننا بالغنا في بؤس تمجيد الثورة”
موريس مرلوبنتي

في موفى السنة الفارطة أي في عيد الميلاد، أهدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كل الكوادر العليا في الدولة وحكام المناطق وكذلك كوادر حزب روسيا الموحدة، لا أكثر من كتب فلسفة خاصة بالقرن الماضي والذي يليه. فقط لأن لهذه الدولة عقيدة سياسية وإقليمية وإستراتيجية وعسكرية إسمها العقيدة الأوراسية. وفي مجهود بسيط يتعلق بما يكتبه هؤلاء الناس لم أجدا أبدا أي إهتمام مبالغ فيه أو أي إهتمام أجوف بما يقوله ويكتبه الآخرون بمعنى أن الذين ذكرت أصيلون بكلمة واحدة ويعولون على أنفسهم في كلمة ثانية ولهم مستقبل في كل الحالات. في الواقع، أتابع كتابات بعضهم في المسائل الإستراتيجية بخاصة وألاحظ أنهم لا يحبون التبعية وواقعيون إلى حد الصراع ويُبدعون ما يرونه ضروريا لوطنهم ولشعبهم.

أقول هذا لأن ديارنا من قش وتُجمع فيها أوهام غيرنا ككومة يحترق بها أبناؤنا وهو مجرد لحم. فمن منا لا يُعاين مثلا النتائج الكارثية لما يسمى ” تنمية مستدامة” وهي لا أقل من إستعمار دائم. حتى أن أحدنا، على الطرف الآخر يستطيع أن يخرج علينا بما بعد التنمية المستدامة مقلّدة طبعا. بل أكثر من ذلك، ما الذي يمنع هذا الغريب من أن يستمر في مخادعة الإنتهازيين والسذّج بإدعاء أن موضة التنمية هذه يجب أن تكون مستدامة مسبقا وتنجح مسبقا وتأخذ بعض السنوات مسبقا قبل أن يصبح من واجبنا إنقاذ ما يجب إنقاذه من حياة الشباب ؟

نحن لسنا هنا في مقام صحافة السياحة ولا في مقام سياسة الوكلاء حتى ندفع بالناس إلى رحى نفس الأوهام ونقدم لهم نفس الأعذار ونبدي تعاطفنا الإنساني وتفهمنا العقلاني ونواصل طعننا لهم في الظهر. ولذلك نؤكد كما أكدنا في النص السابق حول كذبة التنمية وكذبة الأزمة، نؤكد على أن كذبة التنمية المستدامة ترافقها أيضا كذبة الديون الحتمية وكذبة أو ” أسطورة الهبات” التي عادة ما تكون رشوة سياسية وإقتصادية مقنّعة لإفشال الدول ونهب الشعوب وتدمير أوطانها وتسمى بصريح الحقيقة ” القاتل الصامت للنمو” أو كاتم النمو بارد الأعصاب وأفضل من يعبر عن ذلك عظماء جمعوا بين النظريات والعمل في البنوك العالمية الكبرى والهيئات الدولية الكبرى مثل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة مثل أوسفالدو دي ريفيرو وجوزيف ستيغليتز وجون زيغلار وسمير أمين وغيرهم كثيرون ويكفي هنا الجادين أن يضعوا أسمائهم على محرك بحث.

هل يسأل أحد مثلا عن قيمة الوقت بلا عمل على مستوى وطني عام يقضيه ملايين البشر العاطلين والمعطّلين ؟ هل يسأل أحد لماذا يتمّ التفنن في إبتكار البطالة وألوانها ودرجاتها وإختصاصاتها ؟ ثم أليس من العار ثقيل العيار على أشباه الدول أو دول الاّتنمية والتعطيل أن لا يتم حتى طرح بعض الحلول التي قدمت في الندوة الدولية الأولى حول البطالة التي جرى تحضيرها منذ سنة 1893 وعقدت عام 1910 ؟ وهل لا يوجد في أذهان الطارئين على شؤون الناس إما كريستين لاغارد وإما ألفريد مارشال وإما العدم؟

لا أبدا أيها الناس، هكذا نصبح “دولة حمقى” ويسخر العالم من أجيالنا القادمة فما يقومون به يسمون بإمتياز وبإنحياز “تنمية مضادة”  وما سيقومون به سيكون “تنمية سلبية” وتنضاف إلى الوهم براميل وهم أخرى وإلى الكذب عناقيد كذب أخرى بينما التنمية معركة تطوير وتحرر وطني تخاض كل يوم كما لو أنها أوكسيجين فالماء والهواء والتراب والقمح كلها معارك جغراسية وجيوستراتيجية ضارية ومدمّرة فما أدراك ما الشغل. ألم يكن بورقيبة مثلا يقول بالعبارة الصريحة في خطاب القاهرة 1964 ” إن مشكلتنا في الإستعمار” و ” وإن مشكلتنا في التنمية” و ” إن النمو الإقتصادي والتقدم الإجتماعي والوحدة هو الحل” و ” إنه علينا مسار نزع للإستعمار” ثم يضيف ” إن نزع الإستعمار لا يمر إلا عبر التنمية” وذلك ما يمكّن شعبا ما من أن يكون مستقلا وواثقا في مصيره الخاص”؟ أين هي هذه التنمية وخاصة التنمية المستدامة؟ لماذ يكبّلنا الإستعمار إلى هذه الدرجة وإلى حد اللحظة بإتفاقات إمتدت على مدار عقود ونحن نرى نتائجها. لذلك كان الكلام مجرد كلام وأما كلام الذين يسمون أنفسهم بورقيبيين وبورقيبيين جدد فعدم على عدم. وهل أصلا أعددنا بيئة إقتصادية وتحتية للتنمية؟ وهل يعيش إقتصادنا في بيئة إقليمية وضمن بيئة إستراتيجية ودولية ما إخترناها وخططنا لها ونتقدم إليها ومن خلالها؟

نحن نعتقد على العكس أننا ننفذ في حق أنفسنا أحكام الإستعمار الإعدامية ونطور البطالة ونبتكرها ونستزيد فيها ونمارس في حق أنفسنا أبشع أنواع ظلم البطون وظلم الأرحام ونبدع في الظلم بالولادة وفي الميز الرّحمي. ذلك اننا لم نجرب ولا مرة واحدة التنمية من تحت ولا التطوير من أسفل وهكذا تدرجا ونحن نعمّق الفساد تحت عناوين إصلاحات عميقة ونخضع للتعجيز التاريخي والإفشال الإستراتيجي ولا شجاعة تذكر لنا على قلب النظام الإقتصادي لبلدنا تدريجيا ومعقوليا ولا حتى نحاول هيكلة علاقاتنا الشراكية الخارجية من جديد وكأن مستقبل بلدنا محتكر ومحتقر وتنين الفساد والعمالة يضربنا في القلب ويكسر كل أجنحتنا نتيجة تبعية الحاكمين وإنعدام أهليتهم وشجاعتهم على القيادة ونتيجة وعي الآخرين بأن تطورهم يعني بالضرورة قتلنا وإستعبادنا بمقابل البقاء الحيواني في أفضل الحالات.

وهنا نضرب مثالا واحدا توصل إليه مقرروا الأمم المتحدة العاملون على تقارير التنمية  المختلفون والمتعاقبون الذين لم يفتهم ولا مرة منذ 1994 وإلى حدود 2006 أن يؤكدوا كل مرة أن مشكلة هذا العالم هي الفقر والتفقير نتاجا طبيعيا لما يسمى تنمية مستدامة حتى أن أغلب هذه التقارير تحمل في تفاصيلها وفي عناوينها كل مرة دابة الفقر السوداء التي تحكم مصيرنا وتفتّت لحمنا وتحطّم آمال أجيال أوسع جماهير الشباب الأكثر توارثا للتحقير والتفقير.