beji-caid-essebsi

كان خطاب رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي خلال الذكرى الستّين لعيد الاستقلال استثنائيّا، بالنظر لمحتواه الذّي عكس رؤية هذا الأخير للعديد من القضايا السياسيّة والاقتصاديّة السابقة والراهنة. الرئيس الذّي غاص في الأسماء والتواريخ، مستنجدا بالقلّة المرضيّ عنهم ممن عاصروا تلك الحقبة ، لم يفوّت الفرصة ليمرّر رسائل في جميع الاتجاهات ولكلّ مكونات المشهد السياسيّ والاقتصاديّ في الداخل والخارج.

بين التلعثم في استحضار أسماء ما تزال دماؤها دينا في رقاب من تعهدّوا بكشف القتلة، وخلط رهيب للمفاهيم، وإصرار على مصادرة التاريخ، تنقّل رئيس الجمهوريّة من موضوع لآخر طيلة ساعة تقريبا، محاولا حسم بعض القضايا، وليثير الجدل من جديد حول أخرى.

الكلّ تحت راية ”الدستوري“

إن صحّ اختيار عنوان لخطاب الرئيس الباجي قايد السبسي في الذكري الستّين لعيد الاستقلال، فسيتضمّن بلا ريب الحزب الدستوري الذّي استحوذ على أكثر من 70% من حديثه. بعد استعراض بعض التواريخ والشخصيات التي شاركت في توقيع الوثيقة التي انهت رسميّا الاحتلال الفرنسي لتونس، تطرّق رئيس الجمهوريّة لعدّة مواضيع متصّلة بما أسماه ”شؤون العائلة الدستوريّة“. بدأ بإرجاع تمثال الحبيب بورقيبة، ورمزيّة هذه الخطوة وحقّ الرئيس في اتخاذها، مرورا بردّ الاعتبار للدستوري المغضوب عليه الطاهر بن عمّار، وصولا إلى قضيّة صالح بن يوسف الذّي شدّد على انتماءه للحزب الحر الدستوري، وأنّ الخلاف مع بورقيبة الذّي أدّى إلى اغتياله ليس سوى شأنا ”داخليّا“ بالحزب.

اعتبر السبسي اغلاق قضيّة صالح بن يوسف خطوة ضروريّة لتجنّب توريث هذا الصراع للأجيال القادمة ، مصادر حقّ هذا الأخير في الاختلاف مرتّين؛ الأولى حين اختلف وإياهم لتُصادر منه حياته، والثانية حين صُودرت ذكراه لتظلّ تفاصيل ذلك الصراع، وحقّ الكشف عن الجريمة كاملة والتي ما زال بعض شهودها أحياء، محرّمة على الغير الدستوريّين، أو من سمّاهم الرئيس ”الصائدين في المياه العكرة“.

الزعيم النقابي فرحات حشّاد، لم يغب عن كلمة الباجي قايد السبسي، ليس استحضارا لدوره النضاليّ في حركة التحرّر الوطنيّ، بل للتأكيد على انتماءه هو الآخر للعائلة الدستوريّة وعضويته في الديوان السياسي للحزب عقب حظر نشاطه واندلاع المقاومة المسلّحة.

لم يتعسّف الرئيس على التاريخ، فهؤلاء كانوا يوما ما أعضاء وقيادات في الحزب الحرّ الدستوري الذّي تصدّر العمل السياسيّ والعسكريّ في مرحلة لاحقة لنيل الاستقلال. ولكنّ اشعاعهم ودورهم وصراعاتهم الداخليّة انعكست على البلاد ككلّ، وصاروا ملكا للذاكرة الجماعيّة للشعب التونسيّ. فلا فرحات حشّاد أو صالح بن يوسف وربّما الحبيب بورقيبة كانوا سيوافقون على هذه ”السكتاريّة“ المفرطة التي احتوتها كلمة رئيس الجمهوريّة، وكأنّه يختزل وطنا وتاريخا في حزب، ويجبر الكلّ على الدخول تحت عباءة ”الأب المؤسّس“.

مفهوم الوحدة الوطنية لدى رئيس الجمهوريّة

الدعوة إلى الوحدة الوطنيّة، كانت من أكثر المصطلحات تكرار في خطاب الباجي قايد السبسي يوم الأحد الفارط، وهو بذلك لم يشذّ عن دعوات سابقة من رئيس الحكومة وعدد من المسؤولين الذّين نادوا بضرورة القفز على الخلافات السياسيّة وتوحيد الجهود لمحاربة الإرهاب. الفرق الذّي بان جليّا هذه المرّة هو طبيعة هذه الوحدة ومفهومها الخاصّ لدى رئيس الجمهوريّة.

منذ بداية الخطاب أشار هذا الأخير إلى حكومة الوحدة الوطنيّة التّي تأسّست عقب الاستقلال برئاسة الطاهر بن عمّار الذي عوّضه الحبيب بورقيبة بعد ذلك بأسبوع، وعدد من أعضاء الديوان السياسي للحزب الدستوري. هذه الحكومة اعتبرها الباجي قايد السبسي مثالا على حكومة الوحدة الوطنيّة المطلوبة لا لشيء إلا لضمّها محمود الماطري المستقيل من نفس الحزب منذ سنة 1938!

هذا من التاريخ، أمّا حكومة الوحدة الوطنيّة المطلوبة اليوم، فبدت بحسب ما جاء في خطاب الرئيس حكومة مفصّلة على قياس مفهوم خاّص للدولة وللنظام وللوحدة. فبعد استثناءه للصائدين في الماء العكر، وهجومه الضمنيّ على الجبهة الشعبيّة ومشروع البديل الذّي تطرحه، واحتكار كلّ الرموز الوطنيّة، والإصرار على حقّه في طيّ صفحة الصراع البورقيبي اليوسفي والقفز على جريمة اغتياله دون تحميل للمسؤوليات، وتمرير رؤيته لمشروع المصالحة الوطنية والاقتصاديّة وتحديد سقف الوطنيّة وفق رؤيته الخاصّة، لن يبقى للرئيس خيارات أفضل من الحكومة الحاليّة التّي تلبّي مقاييسه وشروطه.

التماهي بين الدولة والنظام

منذ تولّيه رئاسة الحكومة الانتقاليّة في مارس 2011، أعلن السبسي أنّ أهمّ أولويّاته إعادة هيبة الدولة ووضع حدّ للإنفلات الأمنيّ وما اسماه عجز الدولة أمام الفوضى الناجمة عن موجة التحرّكات الاجتماعيّة. بعد خمس سنوات، يبدو أنّ رئيس الجمهوريّة لم يغيّر ترتيب أولوياته، حيث اعتبر في خطابه انّ الدولة ما تزال عاجزة أو بالأحرى مفسلة أمام تواصل الحراك الاجتماعيّ. لكنّه لم يتساءل عن أسباب الاحتجاجات أو العمل على معالجتها، كما بدا من كلامه أنّ هيبة الدولة تقتصر على فئات دون غيرها، تستهدف تحرّكاتها النظام الذّي يرعى المنظومة الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تكرّس التفاوت الطبقيّ والجهويّ. في حين يبدو النظام متسامحا إلى حدّ التواطؤ مع ممارسات أنهكت الدولة اقتصاديّا على غرار التهرّب الضريبيّ، والتهريب وقوانين الشغل وقوانين الاستثمار وملفّات الفساد الاقتصاديّ.

ما جاء في كلمة الرئيس السبسي من إصرار على الخلط بين مفهوم الدولة (الأرض – الشعب – الإدارة) والنظام كمسيّر للشأن العام يكشف تواصل المفهوم البورقيبيّ الأبوي للحكم القائم على دمج النظام المتحوّل بمؤسسات الدولة الثابتة. وما استمراريّة الدولة وفق مفهوم الرئيس إلاّ استمرارا للخيارات السابقة للنظام على الصعيد السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ. فحتّى عهد الرئيس السابق زين العابدين بن عليّ لم يكن بالنسبة للباجي قائد السبسي سوى تفصيلا وجب تجاوزه والتصالح معه للمضيّ قدما.

التحديّات الكبرى ووصفات الرئيس الطبيّة

الملّف الأمني، الملّف الاجتماعي، الوضع الاقتصاديّ ومستقبل المسار الديمقراطيّ في تونس، اعتبرها رئيس الجمهوريّة الباجي قايد السبسي التحدّيات الكبرى والرئيسيّة في المرحلة القادمة.

الصدارة كانت للملفّ الأمني الذّي اعتبره الرئيس مفتاح حلّ مختلف القضايا. حيث تأتي الأولويّة للتصدّي للخطر الارهابيّ على الساحة الداخليّة والخارجيّة. ومن هذا المنطلق، لم يغفل السبسي عن الإشارة إلى ليبيا. في البداية، انبرى يدافع عن خياراته في تمرير الأسلحة والمقاتلين واستقبال اللاجئين الليبيين سنة 2011. مصرّا على استمراره في نفس السياسة إذا ما أعيد سيناريو الحرب الشاملة هناك. وقد استهزأ خلال تناوله حيثيات الوضع الليبيّ بما اعتبره تحليلات واهية حول ارتباط مساعدة تونس للشعب الليبي وفتح المعابر لتمرير السلاح منذ خمس سنوات وتنامي الخطر الإرهابي من جهة الحدود الليبيّة التونسيّة.

النقطة المفصليّة في خطاب الرئيس أثناء تناوله هذا الموضوع، كان استطراده بأنّ الوضع في  ليبيا يجبر تونس على الدفاع عن نفسها، دون أيّ توضيحات حول طبيعة الخطر وخطط الحكومة للدفاع عن البلاد.

الحراك الاجتماعي المتواصل منذ خمس سنوات، كان التحدّي الثاني الذّي تضمّنه خطاب رئيس الجمهوريّة، حيث اقرّ بتواصل المظلمة التي تعاني منها الجهات المهمّشة، وتفاقم معضلة البطالة واشتداد الاحتقان الاجتماعيّ تجاه انعدام الحلول.

خطاب الرئيس المعترف بالمظلمة الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تطال معظم جهات البلاد وأكثر من 15% من فقرائه، و700 ألف عاطل عن العمل لم يشذّ عن التعاطي الرسميّ مع هذه المشاكل، والقائم على الوعود والتعهّدات والاعتراف بالمشكلة دون السعي لحلّها. فبينما كان السبسي يلقي خطابه في قصر قرطاج، كان المعتصمون في القصرين وغار دماء والدهماني والقطار يواصلون للشهر الثاني تحرّكاتهم رافعين نفس المطالب. وحين أنهى الرئيس خطابه، كان مئات آخرون ممن يئسوا من الاعتصام وغادروا الساحات يزدادون قناعة بانسداد أي افق للحلّ.

إيجاد حلّ للوضع الاجتماعي المتأزّم، مرتبط بإيقاف تدهور الوضع الاقتصاديّ. وقد أقرّ الباجي قايد السبسي بترابط الملفيّن وضرورة تنشيط الدورة الاقتصاديّة للتخفيف من الاحتقان الاجتماعيّ. أمّا الحلّ الذّي ارتأى إليه رئيس الجمهوريّة فهو إعادة طرح مشروع قانون المصالحة الوطنيّة والاقتصاديّة. فدون استثمار ودون ترضية الفاسدين وتطمينهم على أموالهم وافلاتهم من المحاسبة والعقاب، فلن يتمكّن الاقتصاد التونسي من النهوض مجدّدا.

السبسي لم ييأس بعد من تمرير مشروع قانون المصالحة حيث أعلن السبسي صراحة خلال خطابه انتظاره الفرصة المواتية لإعادة طرح المبادرة وفرضها. على الرغم من الرفض الشعبي لمبادرته التّي طرحها في شهر جويليّة الفارط، لتسقطها لاحقا الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين بعد محاولة الحكومة الالتفاف على رغبة الشارع وتمريرها في شكل فصل في الميزانيّة نهاية شهر ديسمبر 2015.

أخيرا، تذيّل ملفّ مستقبل المسار الديمقراطيّ كلمة رئيس الجمهوريّة. وقد بدا خلال حديثه عن هذه النقطة بالذات واعيا بالتغيّرات التي شهدتها تونس وبأنّ حريّة التعبير والرأي صارت أمرا واقعا، خصوصا مع عودة الحياة للمجتمع المدنيّ وحالة التعدديّة السياسيّة. لكنّ السبسي لم يستثني هذه القضيّة ليطرح رؤيته الخاصّة حولها؛ فإمّا أن تقبل الأطراف المقابلة بالعمل المشترك وفق المقاييس التّي تحدّث عنها سابقا، أو أن تلتزم الصمت.

وفق ما سبق من اختلاط المفاهيم والتصورات الخاصّة برئيس الجمهوريّة حول القضايا المطروحة التي تناولها في خطابه، يبدو أنّ المسار الديمقراطيّ في تونس سيكون استثنائيّا هو الآخر؛ فلا بديل خارج الأطر المرسومة سابقا، ولا خطوات مناقضة للخيارات السياسيّة والاقتصاديّة المعمول بها منذ عقود.