شكّل التدقيق في المديونية العمومية منطقة حمراء بالنسبة للحكومات التي تعاقبت على حكم البلاد منذ 14 جانفي 2011، وقد سبق أن تقدمت حكومة حمادي الجبالي سنة 2012 بمشروع قانون إلى المجلس التأسيسي لإجراء تدقيق في المديونية ثم تراجعت عنه دون توضيح أسباب ذلك، وفي نفس الاتجاه أكدت مصادر مطلعة لموقع نواة أن الباجي قائد السبسي، عندما كان رئيسا للوزراء سنة 2011، رفض الحديث حول مسألة المديونية أثناء لقاء خاص جمعه بأحد الخبراء السويسريين. هذا ولقيت بعض المبادرات التشريعية الأخرى حتفها على غرار تلك التي تقدمت بها سنة 2012 النائبة السابقة بالمجلس التأسيسي عن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، مبروكة مبارك، وتهدف هذه المبادرة إلى مساءلة الديون التي تراكمت في ظل النظام السابق.

عادت مسألة التدقيق في المديونية لتطفو على السطح مجددا بعد مشروع القانون الذي تقدمت به كتلة الجبهة الشعبية بمجلس النواب، وقد أمضى عليه 73 نائبا من مختلف الكتل البرلمانية باستثناء حركة النهضة التي برّرت هذا الرفض بعدم اطلاعها على مشروع القانون وتفضيلها مناقشته داخل اللجنة، حسب ما أكده لموقع نواة رئيس كتلة حركة النهضة نور الدين البحيري. وبالمقابل أفادنا النائب عن الجبهة الشعبية فتحي الشامخي أنه قدّم نسخة من مشروع القانون لرئيس كتلة النهضة قبل 10 أيام من إيداعه، وقد لمِس عدم استجابة للتفاعل معه أو الموافقة عليه من قبل الحركة.

80 بالمائة من القروض الجديدة تُسخّر لسداد الديون القديمة

اشتركت اتجاهات الحكم التي سادت بعد 14 جانفي 2011 في انتهاج سياسة التداين، في سياق المحافظة على روابط الارتهان القديمة للدوائر الدولية وللتغطية على العجز الاقتصادي الذي خلفته التحولات السياسية، وكانت المحصّلة أن ارتفعت نسبة خدمة الدين العمومي من 3616,1 مليون دينار سنة 2010 إلى 5130,01 مليون دينار سنة 2016. ولتبرير هذه السياسات عادة ما تتذرع الحكومات المتعاقبة بأنها تلجأ للاقتراض لدفع عجلة التنمية، في حين يذهب البعض الآخر إلى أن الاقتراض يأتي لسد العجز على تسديد الأجور، إذ أشار رئيس الحكومة الأسبق مهدي جمعة إلى أن تونس اقترضت في شهر أفريل 2014 مبلغا قيمته 350 مليار لتسديد الأجور.

هذه التصريحات لقيت انتقادات واسعة من قبل العديد من المتابعين، خصوصا وأن إجراء مقارنة بسيطة بين موارد الاقتراض ونسبة خدمة الدين العمومي تكشف أن حوالي 80 بالمائة من القروض الجديدة يتم تسخيرها لسداد الديون القديمة، إذ بلغت موارد الاقتراض سنة 2016 حوالي 6594,0 مليون دينار بينما قُدّرت قيمة تسديد الدين بـ 5130,01 مليون دينار. وفي هذا السياق أكّد الخبير الاقتصادي والنائب عن الجبهة الشعبية فتحي الشامخي أن الحديث عن صرف الأجور بالتعويل على الاقتراض يعد من قبيل المغالطات لأن الرواتب وميزانيات التنمية يتم صرفها من الموارد الجبائية. وأضاف الشامخي أن النسبة الكبيرة من موارد الاقتراض يتم صرفها في تسديد ديون حقبة الاستبداد، بينما يُصرف جزءها المتبقي في تزويد احتياطي العملة الصعبة وفي تحويل مرابيح الشركات الخارجية المنتصبة في تونس.

التدقيق في الديون ومعركة الإثبات

يشكّل البحث عن حجج وبراهين قانونية تؤيد عدم شرعية قسط من الديون المقصد الأساسي من مشروع القانون المتعلق بالتدقيق في المديونية العمومية، وتُعرّف آلية التدقيق في هذا المشروع بـ”العمل المتمثل في فحص شامل ومعمّق لكافة الديون العمومية التونسية الخارجية والداخلية والمضمونة من قبل الدولة“، وتمتد فترة التدقيق من سنة 1986 لتشمل جميع اتفاقات القروض المبرمة من قبل الدولة التونسية وذلك لتحديد  القسط الذي يمكن اعتباره كريها أو غير قانوني أو غير شرعي أو غير قابل للتحمل.

ينص الفصل السادس من مشروع القانون على بعث لجنة تتولىّ التدقيق في الديون العمومية التونسية تُدعى ”لجنة الحقيقة حول المديونية العمومية التونسية“، وتتركب اللجنة من 21 عضوا، من بينهم 5 أعضاء من مجلس النواب ينتمي 3 منهم وجوبا للمعارضة البرلمانية، وممثّل واحد عن كل من دائرة المحاسبات والمحكمة الإدارية والهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد و8 أعضاء من المنظمات الاجتماعية والحقوقية، و4 أعضاء أجانب من ذوي الكفاءة والمشهود لهم بالنزاهة والخبرة.

ورغم أن مشروع القانون أمضى عليه 73 نائبا من بينهم نواب من الائتلاف الحاكم، فإن ترسيخ آلية التدقيق يتطلب إرادة حكومية لأن نجاح عمل اللجنة المذكورة مرهون بمدى استجابة مؤسسات الدولة المعنية بالملف لعملية المساءلة والتمحيص. علاوة على هذا فإن مصير هذا القانون مربوط بمسار النقاشات داخل لجنة المالية والتخطيط والتنمية، وبالدور الذي ستلعبه الأغلبية البرلمانية خصوصا وأنها لم تبد –داخل مراكز الحكم- رغبة في انتهاج سياسة التدقيق في المديونية. وفي هذا السياق لم يخف فتحي الشامخي تخوفه من تشويه هذا المشروع وإفراغه من مضامينه الأساسية.

التضحية بالاقتصاد من أجل تسديد الديون

تتمثل المعضلة البنيوية لسياسة التداين التونسية في إنهاكها الكبير للخزينة العمومية حيث بلغت نسبة التداين العمومي 53,4 بالمائة من الناتج الداخلي الخام سنة 2016، وذلك على حساب استحقاقات اقتصادية واجتماعية ضرورية مثل التنمية وتأمين الخدمات الاجتماعية، ويتجلى هذا الاختلال في التطابق الكبير بين قيمة تسديد الدين العمومي ومجموع ميزانية تسع وزارات مثلما يظهر في الرسم البياني المُصاحب. وتضطلع بعض هذه الوزارات بقيمة اجتماعية واقتصادية مركزية من بينها وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية و وزارة التنمية والاستثمار والتعاون الدولي و وزارة السياحة.

تنسجم هذه السياسة المحلية مع المصالح الاقتصادية للجهات الدائنة، ولعل النسبة الأهم من القروض التونسية مصدرها صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية، وهي قروض مشروطة على غرار القرض الأخير لصندوق الدولي الذي بلغت قيمته 2,8 مليار دولار، وقد ارتبطت موافقة الصندوق على هذا المبلغ باستجابة الحكومة التونسية لحزمة ”الإصلاحات الاقتصادية“ من بينها رسملة البنوك العمومية وقانون الشراكة بين القطاعين الخاص والعام ومراجعة منظومة الدعم وتدعيم استقلالية البنك المركزي، ولفرض هذه الشروط التي ستعزز ارتهان الاقتصادي التونسي لدوائر النفوذ العالمية هدد الصندوق الحكومة التونسية برفضه منح القرض المذكور لإجبار الأغلبية البرلمانية الحاكمة على الخضوع لشروطه، وهو ما حصل بالفعل. أما سلوك الاتحاد الأوروبي لا يختلف كثيرا عن صندوق النقد الدولي حيث صّوت البرلمان الأوروبي في شهر مارس 2014 بالأغلبية ضد مشروع قرار يطالب بإلغاء المديونية التونسية.

تتواصل سياسة الارتهان لصندوق النقد الدولي وكبرى الدوائر المالية العالمية من خلال الحفاظ على الشكل القديم للتداين، في الوقت الذي يحذّر فيه العديد من المتابعين في تونس وخارجها من خطورة هذا التوجه، وفي هذا السياق أكدت الشبكة الدولية للجنة من أجل إلغاء الديون غير الشرعية ”سِيَادِتِيَامْ” في بيان لها:

إنّ هذه المديُونيّة، التّي تمثّل سلاح حقيقي للهيمنة الاستعماريّة الجديدة، هي عبارة على حبل حول عُنق الشّعب التُّونسي. لذلك فإنّ إلغاء جزئها الكريه وغير الشّرعي وغير القانوني وغير القابل للتحمّل من شأنه أن يسمح بإعادة توجيه استعمال الأموال العُمُوميّة نحو النفقات التّي تهدف إلى تحسين ظروف عيش التُّونسيّات والتُّونسيّين.

بالمقابل كان بإمكان حكومات ما بعد 14 جانفي الشروع في مراجعة استراتيجية لسياسة التداين على غرار تجارب مقارنة عرفتها بعض الدول مثل الأرجنتين والإكوادور، وفي هذا الاتجاه أشار مارك ويسبروت، مدير مركز البحوث الاقتصادية والسياسية بواشنطن في حوار سابق أجراه معه موقع نواة إلى أن ”هناك العديد من الحلول التي يمكن للحكومات إيجادها. فقد تمكن الأرجنتين مثلا من تعليق تسديد الديون منذ 11 سنة ولم يكن باستطاعة البلد التداين مجددا في السوق العالمية منذ ذلك الوقت، إلا أنهم نجحوا في تحقيق نسبة نمو أكبر من بقية بلدان العالم و نجحوا أيضا في تقليص الفقر بشكل ملفت للإنتباه. فقد سجلوا كل هذا النجاح دون اللجوء إلى سوق رأس المال العالمي“.

وتلوح تجربة الإكوادور الأكثر نجاحا في مجال الاستفادة من إخضاع ديونها لإجراء التدقيق، حيث تمكنت بعد مفاوضات أجرتها مع صندوق النقد الدولي سنة 2008 من إلغاء جانب كبير من ديونها الكريهة بنسبة بلغت حوالي 70 بالمائة.