جاء في كلمة رئيس الحكومة المكلف يوسف الشاهد أن حكومته المرتقبة ستركّز على خمس أولويات من أبرزها كسب الحرب على الإرهاب وإعلان الحرب على الفساد والفاسدين والعمل على التحكم في التوازنات المالية أمام المخاطر الحقيقية التي تتهددها.
هذه المحاور واردة ضمن الأولويات المنصوص عليها في وثيقة قرطاج التي حددت أولويات حكومة الوحدة الوطنية المرتقبة كما يلي:
كسب الحرب على الإرهاب – تسريع النمو والتشغيل – مقاومة الفساد وإرساء مقوّمات الحوكمة الرشيدة – التحكّم في التوازنات المالية وتنفيذ سياسة اجتماعية ناجعة – إرساء سياسة خاصة بالمدن والجماعات المحلية – دعم نجاعة العمل الحكومي واستكمال تركيز المؤسسات.
وثيقة قرطاج تبدو في مجملها أقرب إلى إعلان نوايا أكثر من كونها برنامج عمل متناسق و لعل ذلك يعزى إلى أن الأطراف السياسية من المنظمات والأحزاب المساهمة في صياغتها تحمل رؤى غير منسجمة وحتى متضاربة أحيانها فيما يتعلّق بمضامين السياسات الاقتصادية والاجتماعية وسبل معالجة الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة وسلم الأولويات الواجب إتباعها بالنسبة للمرحلة القادمة.
ومهما يكن من أمر فإن الحكومة القادمة ستكون مدعوة، اذا كانت جادة فعلا في تجسيد اولوياتها المعلنة على ارض الواقع، إلى إدخال مراجعات كبرى على السياسات الاقتصادية التي اتبعتها الحكومات السابقة وهو ما يتطلّب إعداد تشخيص للوضع الاقتصادي الحالي المتردي لتحديد أسباب انهيار كافة المؤشرات المالية والاقتصادية تمهيدا لإدخال التعديلات الضرورية على المخطط التنموي وفقا للأولويات والتوجهات المتفق عليها كما ورد بوثيقة قرطاج التي تنص أيضا على إعداد برنامج لدفع وتسريع نسق النمو الاقتصادي بمساهمة القطاع العمومي خاصة في مجال البنية الأساسية والمشاريع الكبرى.
وفي انتظار تقديم برنامج عمل الحكومة المقبلة بعد تشكيلها فإننا سنحاول تسليط الأضواء على مدى قدرة رئيس الحكومة الجديد على إنجاز ما تعهّد به بخصوص إعلان الحرب على الفساد والعمل على استعادة التوازنات المالية الكبرى المنهارة درءا للمخاطر المحدقة بتونس جراء تفاقم أزمة المديونية إلى مستويات غير مسبوقة وتجاوزها لكافة الخطوط الحمر.
وفي حقيقة الأمر، فإن المهام المطلوب تحقيقها في وثيقة قرطاج لمقاومة الفساد وإرساء مقومات الحوكمة الرشيدة، وكذلك التحكم في التوازنات المالية، تبدو متناقضة كليا مع السياسات المتبعة إلى حد الآن التي ساهمت على العكس في تفشي ظاهرة الفساد واستفحال معضلة المديونية وهو السبب الأساسي لانهيار التوازنات المالية الكبرى الذي حذّر منه الخبراء منذ سنوات باعتبار أنه نتيجة حتميّة للجوء المفرط للتداين الخارجي منهذ الثورة من كافة الحكومات المتعاقبة.
و قد أدّى ذلك إلى فقدان تونس لمصدقتيها المالية بتدني أرقامها السيادية واضطرارها للخضوع مجددا منذ 2013 للقروض والبرامج المشروطة لصندوق النقد الدولي وهو ما أفقدها استقلالية قرارها السيادي في تحديد خياراتها الاقتصادية والتوجهات الدبلوماسية ذات الصلة بما يخدم مصالحها ويقيها من التبعية المالية إزاء الخارج.
و رغم انتهاء البرنامج الاول المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي دون تحقيق اي من النتائج الموعود بها، في مجال اعادة نسبة النمو الى معدلاتها الطبيعية و تقليص العجز…. و رغم ما سجل على العكس من تفاقم انهيار كافة المؤشرات الاقتصادية فقد تم تجديد برنامج العمل مع الصندوق المرتبط بشروط قاسية غير مسبوقة وهو مرشح لزيادة تعميق معضلة المديونية و مزيد الاضرار بالتوازنات المالية الكبرى للبلاد.
كما تصر رئاسة الجمهورية على تمرير قانون ما يسمى بالمصالحة الاقتصادية المثير للجدل الموصوف من قبل معارضيه بكونه قانون تبييض الفساد و الفاسدين و هو يهدف ايضا الى اجهاض مسار العدالة الانتقالية.
و في ظل هذه الظروف يجدر التساؤل حول مدى قدرة الحكومة القادمة على الالتزام فعلا بشن الحرب على الفساد و اصلاح التوازنات المالية الكبرى المختلة.
هل ستكون الحكومة القادمة قادرة على مقاومة الفساد والتحكم في التوازنات المالية؟
في حقيقة الأمر يبدو مستبعدا أن تتوفر لدى الحكومة القادمة الإرادة الضرورية للقطع مع سياسة التراخي في مقاومة الفساد واستسهال اللجوء إلى التداين الخارجي خاصة وأنها تستند إلى قاعدة حزبية مكونة من أحزاب ليبرالية مرتبطة مصلحيا بأوساط المال والأعمال الداخلية والخارجية المسيطرة على التوجهات الاقتصادية والمالية للدولة وهي تعارض بشدّة أي مراجعة لهذه الخيارات لأن ذلك سيؤدي حتما إلى المساس بمصالحها.
وللأسف فإن هذه الدوائر الموروثة عن النظام السابق تمتد خيوطها إلى داخل أجهزة الدولة والحكومات والأحزاب الحاكمة، وهي تتحكم في جانب هام من الدورة الاقتصادية والمالية عبر شبكات التهريب والاقتصاد والتجارة الموازية على نحو يجعلها قادرة علي عرقلة اي سياسات مضرة بها كما حصل بالنسبة لملف مقاومة الفساد الذي عجزت كافة الحكومات عن معالجته رغم التزامها بذلك في برامجها الرسمية.
وهكذا يتضح أن هناك تداخل واضح بين معضلة الفساد المستشري والعجز عن التعاطي معه بنجاعة من ناحية، ومن ناحية أخرى استمرار السلطات الحاكمة بعد الثورة في تبني الخيارات الاقتصادية للنظام السابق القائمة على التوسيع في منظومة اقتصاد السوق والتبادل الحر والاعتماد على التداين الخارجي لتغطية العجز المتفاقم في المالية العمومية وفي ميزان المدفوعات نتيجة فقدان الدولة لموارد هامة كانت تجنيها من المعالم الديوانية والضرائب بسبب انخراطها القصري غير المدروس وغير المتكافئ في اتفاقيات التبادل الحر مع أوروبا وتركيا.
هذا فضلا عن خضوع تونس منذ 2013 إلى شروط وإملاءات صندوق النقد الدولي الخاضع لسيطرة مجموعة السبع للدول الصناعية الكبرى التي فرضت على تونس إعطاء الأولوية المطلقة لتسديد القروض الخارجية في توزيع مصاريف الميزانية مما يفسّر الارتفاع الصاروخي لكتلة الديون التي تضاعفت لتتجاوز 50 مليار دينار إلى غاية 2015، وقد ازداد نسق هذا الارتفاع الجنوني في ظل حكومة الحبيب الصيد التي أمضت على أكثر من 20 قرض جديد بما قيمته 15 مليار دينار إضافية.
وهذا ما يفسّر انهيار التوازنات المالية والصعوبات الجمّة التي تواجهها الدولة لتغطية العجز المتفاقم في الميزانية وتأمين الاعتمادات الضرورية لمصاريف الاستهلاك ودفع الأجور وتسديد الأقساط المستحقة للمديونية الخارجية.
النتائج الوخيمة لسياسة التداين المفرط
وهكذا فإن تونس انجرت بسبب هذه السياسات إلى التداين القذر والمتفاقم بسرعة البرق على نحو جردها من حرية تحديد توجهاتها الاقتصادية والتصرف في مواردها مما اضطرها إلى الاستمرار في سياسات مد مرة لمصالحها من خلال الانخراط مجددا في ما يسمى ببرنامج الإصلاحات الهيكلية المفروض من صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية ولاسيما البرنامج المعلن عنه بتاريخ 2/5/2016 الذي سيفضي بدون مبالغة إلى مصادرة القرار السيادي الوطني وإخضاع تونس إلى شكل من أشكال الوصاية الاقتصادية والمالية الدائمة.
وفي ظل هذه الظروف والالتزامات الداخلية والدولية المكبلة لسيادة تونس، كيف يمكن لنا أن نتصور أن تتوفر للحكومة القادمة القدرة على استعادة التوازنات المالية ومقاومة الفساد فضلا عن تحقيق الأهداف الاقتصادية والخطوات العملية الوارد ذكرها بوثيقة إعلان قرطاج ومن بينها تسريع نسق النمو لتحقيق أهداف التنمية والتشغيل ووضع خطة وطنية لمقاومة الفساد والإسراع بسن القوانين الضرورية لذلك إلى غير ذلك من التدابير الضرورية المتعارضة كليا مع السياسات الاقتصادية والمالية المتبعة إلى حد الآن.
هذا فضلا عن الأهداف الإستراتيجية ذات الصلة بالشأن الاقتصادي التي حددتها وثيقة قرطاج ومنها خاصة مجابهة التحديات الكبرى على أساس مشروع المخطط التنموي بعد تعديله وتحيينه وفقا للأولويات والتوجهات المتفق عليها تفعيلا لبنود الدستور وخدمة لأهداف الثورة.
الشروط المطلوبة توفرها لإنجاز أهداف وثيقة قرطاج
وهكذا يتبيّن أن نجاح الحكومة القادمة في تجسيد بنود وثيقة قرطاج سيكون مستحيلا إذا تم الحفاظ على الخيارات والتوجهات السياسية والاقتصادية المتوخاة بعد الثورة التي تحتاج إلى إعادة نظر كلية باعتبار أنها المسؤولة عن حالة الانهيار الاقتصادي الذي بلغته تونس.
وكذلك الشأن بالنسبة لعلاقات تونس الخارجية وعلاقات التعاون والشراكة مع الشركاء الاستراتجيين لتونس من دول كبري ومؤسسات مالية دولية، التي تحتاج إلى مراجعة إستراتيجية باتجاه إدخال التحويرات والتوازنات الضرورية عليها بما يتماشى مع المصلحة العليا لتونس وبما يؤدي إلى استعادة تونس لمقومات سيادتها الوطنية واستقلالية قرارها في تحديد خياراتها الإستراتيجية المستقبلية.
وينطبق هذا الأمر بصفة خاصة على إتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق مع الاتحاد الأوروبي الجاري التفاوض بشأنه وكذلك برنامج ما يسمى بالإصلاحات الهيكليّة المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي بما في ذلك قوانين والتشريعات التي تم أو يقع التخطيط لإقرارها تحت ضغط الحاجة للحصول على التمويلات الخارجية التي تدفع السلطات الحاكمة للقبول بشروط مضرة بمصالح تونس الحيويّة فضلا عن كونها غير قادرة عن احترامها والتقيد بها دون تهديد الاستقرار والسلم الاجتماعي بتونس.
وخلاصة القول أن تونس تواجه اليوم وضعا اقتصاديا شبه منهار بإقرار رئيس الجمهورية الذي وصفه بالكارثي مما دفعه إلى تقديم مبادرة حكومة الوحدة الوطنية التي يخشى أن تفضي إلى مأزق سياسي ومؤسساتي واقتصادي لا يمكن التنبؤ بتبعاته إذا لم يقع الاقرار بالمسؤولية الجماعية للسلطات الحاكمة المتعاقبة بعد الثورة في ما آلت اليه الأوضاع بتونس من تدهور وما يحيط بها من مخاطر تهدد أمنها واستقرارها وحتى كيان الدولة التونسية المستهدف من الداخل ومن الخارج.
كما يتطلّب هذا الوضع التحلي بالشجاعة الكافية لمصارحة الشعب التونسي بحقيقة الأوضاع مع توخي الحزم في الدفاع عن مصالح تونس الحيوية وفي مواجهة الأطراف الداخلية و الدولية، وخاصة الاتحاد الاوروبي و مجموعة السبع و صندوق النقد الدولي، التي تسعى لفرض السياسات التي تخدم مصالحها دون الاكتراث بتبعاتها الكارثية على مستقبل الدول وأمنها واستقرارها.
iThere are no comments
Add yours