المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

في الخطاب الذي ألقاه رئيس الحكومة الجديد يوسف الشاهد بمناسبة جلسة منح الثقة بمجلس نواب الشعب، كشف أن نسبة التداين الخارجي ارتفعت لأول مرّة إلى 62٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وجاء ذلك في سياق تعهداته بمصارحة الشعب التونسي بخطورة ودقّة الأوضاع المالية والاقتصادية وتحذيره من مغبة اضطرار الدولة للجوء إلى تدابير تقشفية «موجعة» لتدارك هذا الوضع قد تصل إلى حد تسريح آلاف الموظفين وغير ذلك من التدابير الهادفة للضغط على المصاريف والحد من عجز الميزانية.

وتجدر الإشارة في نفس السياق إلى تصريحات رئيس المجلس نواب الشعب بتاريخ 22 أوت 2016 في أعقاب منح الثقة للحكومة الجديدة، ومفادها أنه يتعيّن إجراء تدقيق في المالية العمومية كما دعا إلى تحديد سقف أعلى للمديونية الخارجية لا يجوز تجاوزه وإلى إيجاد مصادر بديلة عن التداين الخارجي لتمويل ميزانية الدولة.

الأرقام المفزعة للمديونية التونسية

وعلى صعيد متصل تنبأ صندوق النقد الدولي بمزيد تدهور التوازنات المالية مع ارتفاع المديونية الخارجية التونسية الى  29, 3 مليار دولار هذا العام أي ما يعادل 69٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وسيستمر هذا المنحى التصاعدي خلال سنة 2017 حيث يتوقع أن تصل كتلة الديون الخارجية إلى  30,7 مليار دولار. وبذلك ستقفز نسبة التداين إلى   71,4٪ من الناتج المحلي الإجمالي.

وبالتوازي مع ذلك تكشف الأرقام عن تدهور الموارد الذاتية للدولة جراء ارتفاع المصاريف مقابل تدني عائدات الضرائب مما أدّى إلى ارتفاع عجز الميزانية من 1885 مليون دينار خلال شهر جوان 2015 إلى  2190,7 مليون دينار خلال نفس الشهر من السنة الجارية.ويثير هذا الخلل المفزع والمتنامي في المالية العمومية انشغال المختصين خاصة وأن 79٪ من مصاريف الميزانية ترصد لنفقات التسيير ولا تتجاوز بذلك نفقات التنمية  21٪ من جملة مصاريف الدولة.ويجدر التذكير بأن رئيس الحكومة الجديد كشف في خطابه المشار إليه عن ارتفاع جديد في عجز الميزانية الذي بلغ 2900 مليون دينار تونسي بتاريخ منح الثقة لحكومته كما كشف عن قرب إعداد ميزانية تكميلية بعنوان 2016.

واللافت للانتباه أن المسؤولين التونسيين الذين يدّعون مصارحة الشعب بحقائق الوضع الاقتصادي المتدهور وأسباب انهيار كافة المؤشرات المالية والاقتصادية، يتعمّدون إخفاء أحد الأسباب الرئيسية لاستفحال العجز في المالية العمومية إلى هذه المعدلات الخطيرة وغير المسبوقة في تاريخ تونس الا وهو الاعتمادات الضخمة و المتزايدة منذ 2011 المخصصة سنويا لخدمة المديونية الخارجية أصلا وفائدة. هذا فضلا عن الخلل في هيكلة المديونية   نتيجة تضخّم كتلة التحويلات الصافية السلبية التي تدفعها تونس سنويا لفائدة مقرضيها الرئيسيين على الصعيد الثنائي والمتعدد الأطراف. والملاحظ أن التحويلات السلبية الصافية ناجمة عن تجاوز ما تدفعه تونس سنويا بعنوان تسديد الدين اصلا و فائدة  ما تتحصل عليه سنويا من أموال بعنوان القروض الجديدة مع الاشارة الى ان هذا الوضع الذي يعود الى اواخر الثمانينات استفحل بعد الثورة بسبب اللجؤ المفرط للتداين الخارجي. غير ان هذه الحقائق ظلت مغيبة عن الرأي العام.

الارتفاع الجنوني للتحويلات الصافية السلبية هو السبب الرئيسي لانهيار التوازنات المالية للدولة

يجدر التذكير بأن الحكومة تعهدت في رسالة النوايا الموجهة إلى صندوق النقد الدولي  بتاريخ  2 ماي   2016 بالحد من ارتفاع نسبة العجز من خلال الضغط على كتلة التأجير في الوظيفة العمومية وترشيد نفقات الدعم لحصرها في الطبقات المعوزة دون غيرها إلى غير ذلك من الإجراءات «الموجعة» بما فيها الالتزام بخوصصة خمس مؤسسات عمومية بحجة أنها تشكو من العجز مما ينعكس سلبا على الموازين العامة للدولة التي لا يمكنها وفقا لهذا الطرح الاستمرار في دعم هذه المرافق العمومية ويتعيّن بالتالي التفريط فيها للقطاع الخاص «لإنقاذها» من الإفلاس وضمان استمراريتها على أسس مالية سليمة.

إلاّ أن الحكومة لم تفكر على ما يبدو في مراجعة سياسة إعطاء الأولويّة المطلقة لتسديد الأقساط المستحقة للديون المتراكمة وذلك رغم أن الثقل المتزايد لأعباء المديونية هو السبب الرئيسي للخلل الخطير في التوازنات المالية للدولة خاصة بعد أن تحولت تونس كما اسلفنا منذ أواخر الثمانينات إلى مصدر صافي للأموال لفائدة المقرضين، وظلت التحويلات السلبية الصافية تنخر أسس الاقتصاد الوطني طيلة فترة حكم النظام السابق فيما بين 1988 و2010 وذلك في ظل تكتم تام عن هذه الحقيقة المرة التي  تظل الى اليوم  غير معلومة و غير منتشرة اعلاميا .

وفي هذا الصدد تشير الأرقام الرسمية الصادرة عن البنك المركزي التونسي و البنك العالمي إلى أن التحويلات السلبية الصافية خلال الفترة المذكورة بلغت   6534,6- مليون دينار أي بمعدل سنوي قدره  284,1- مليون دينار يقع دفعها من الموارد الذاتية أو اقتطاعها من القروض الجديدة. والملاحظ أن هذه التحويلات السلبية تدفع أساسا للدول الدائنة الرئيسية كما تبينه الأرقام المتعلقة بالفترة الممتدة من 1994 إلى 2010 حيث تبيّن أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكبر المستفيدين من التحويلات الصافية بمبلغ قدره 1340- مليون دينار متبوعة بألمانيا (1030- مليون دينار) ثم فرنسا (516- مليون دينار)، اليابان (506- مليون دينار) وإيطاليا ( 459,8- مليون دينار.(

والملاحظ أن الدول المذكورة هي عضوة في مجموعة السبع للدول الصناعية الكبرى التي فرضت على تونس بعد الثورة الاستمرار في دفع مديونية النظام السابق مقابل وعود كاذبة بمدها بمساعدات مالية ضخمة بشروط تفاضلية وتمكينها من استرداد الأموال المنهوبة المهربة إلى الخارج في ظل النظام السابق. إلاّ أن هذه الدول لم تلتزم بوعودها بل أنها أغرقت تونس بالقروض المشروطة حتى تضمن استمرارها في تسديد الديون مما أدّى إلى مضاعفة المديونية التونسية وارتفاعها بشكل جنوني حيث قفزت من 25 مليار دينار سنة 2011 ( 11,2 مليار أورو) إلى  50,3 مليار دينار ( 22,6 مليار أورو) سنة 2015.

لكن النصيب الأ .وفر من هذه المبالغ رصد لخدمة الدين الخارجي بنسبة تجاوزت  80٪ حسب تقارير موثوقة صادرة مطلع هذه السنة عن منظمة غير حكومية تناضل من أجل إلغاء الديون الموصوفة بالكريهة Comité pour l’annulation des dettes illégitimes .

ويجدر التذكير بأن خدمة الدين الخارجي تتصدر منذ سنوات مصاريف الدولة في الميزانية وقد بلغت هذه السنة وكذلك العام الماضي  5,13 مليار دينار متجاوزة ما هو مرصود لميزانية ثمانية وزارات رئيسية. وهي وزارات الصحة والتشغيل والتكوين المهني،و التنمية والتعاون الدولي، والنقل، والثقافة، والشؤون الخارجية والسياحة. وسيرتفع هذا المبلغ انطلاقا من العام القادم ليناهز 8 مليار دينار إذا لم تقرر الحكومة الجديدة مراجعة توجهاتها في توزيع الميزانية وفقا للأولويات الجديدة الواردة في وثيقة قرطاج ومن بينها استعادة التوازنات المالية الكبرى للدولة.

وهكذا يتبيّن أن إعطاء حكومات ما بعد الثورة الأولوية المطلقة لخدمة أعباء المديونية  باللجوؤ الى الاقتراض الخارجي هو السبب الرئيسي لانهيار التوازنات المالية العامة واستفحال الأزمة الاقتصادية وما ترتب عن ذلك من تبعيّة إزاء الخارج وارتهان للقرار السيادي الوطني للمقرضين وللمؤسسات المالية الدولية على حساب المصلحة الوطنية العليا.

وبالتالي، فإن الحكومة الجديدة مدعوة، انسجاما مع ما تضمنته وثيقة قرطاج في الجانب الاقتصادي والاجتماعي- وخاصة في ما يتصل بإعادة النظر في المخططات التنموية وفقا لمقتضيات الدستور، ومقاومة الفساد واستعادة التوازنات المالية – لإدخال تغييرات جذرية على سلم أولوياتها والدخول في مفاوضات جديدة مع مجموعة السبع و الاتحاد الاوروبي  باعتبارانهم المقرضين الرئيسيين لتونس على الصعيدين الثنائي والمتعدد الأطراف للنظر في الصيغ الممكنة لإيقاف نزيف المديونية الخارجية واستعادة التوازنات المالية للدولة كشرط ضروري وأساسي للشروع في خطة وطنية لإصلاح وإنقاذ الاقتصاد الوطني وإعادة ترتيب علاقاتنا الدولية بما يقي تونس من الضغوط والإملاءات الخارجية وبما يسمح لها باسترداد قرارها السيادي في رسم سياستها الخارجية والاقتصادية بما يتماشى مع المصلحة الوطنية العليا لتونس في الحاضر والمستقبل.