حظي ملف الأراضي الدولية -في الآونة الأخيرة- باهتمام كبير في الأوساط الإعلامية والسياسية، ذكّاه النزاع حول مصير الأراضي الفلاحية، التي أشارت كتابة الدولة لأملاك الدولة والشؤون العقارية إلى أنه تم الاستيلاء عليها دون  وجه حق قانوني منذ سنة 2011. وحسب المصادر الرسمية تبلغ مساحتها حوالي 68 ألف هكتار.

معظم هذه الأراضي تم التفويت فيها لمستثمرين خواص منذ بداية التسعينات، في سياق تفكيك بقايا التجربة التعاضدية وتدعيم برنامج الخوصصة الاقتصادية. وقد كان لهذه السياسة انعكاسات اجتماعية وخيمة على حياة صغار الفلاحين والعمال الفلاحيين، ساهمت الثورة في إبرازها إلى العلن، لتنتظم في شكل حركات احتجاجية مُطالبة بسحب الأراضي من المستثمرين.

خلال الـ5 سنوات الماضية لم تتبلور سياسة فلاحية جديدة مُساوقة لمطالب الفلاحين. وظل ملف الأراضي الدولية نائما على رفوف وزراء أملاك الدولة المتعاقبين، وفي الأثناء نشأت بعض التجارب الذاتية الناجحة، المُنفلتة من عقال الدولة على غرار تجربة جمنة. وفي مناطق أخرى نشب نزاع بين الأهالي والمستثمرين، ليجد العديد من العمال الفلاحيين وصغار الفلاحين أنفسهم أمام المحاكم، يواجهون تهما بالاستيلاء على أملاك الغير.

غياب استراتيجيا هيكلة عادلة للأراضي الدولية

إصرار كتابة أملاك الدولة على تسوية وضعية هذه الأراضي، على قاعدة إعادتها للدولة و”احترام القانون”، يقود إلى التساؤل عن المقاربة السياسية الجديدة. وهل أن إعادة الهيكلة التي يبشر بها كاتب الدولة الجديد تندرج في إطار سياسة  تنموية اجتماعية أم تشكل فصلا آخر من مسار الخوصصة؟ مضمون المفاوضات التي شرعت فيها كتابة الدولة مع لجان التسيير المواطنية التي تشرف على هذه الأراضي يكشف عن بعض ملامح السياسة المرتقبة:

-أصدرت كتابة أملاك الدولة بلاغا على صفحتها الرسمية يوم 15 سبتمبر 2016 إثر تسلّم ضيعة الطرفاية بمنطقة زعفران (ولاية قبلي)، ورد فيه “كما يمكن للجنة التسيير بعد تغيير شكلها القانوني إلى شركة إحياء وتنمية فلاحية المشاركة في إعلان طلب العروض المتعلق بإعادة توظيف العقار وفقا لمبادئ المنافسة والإجراءات القانونية المعمول بها في الغرض”. يُفهم من هذا الكلام أن الدولة لن تغير الإطار القانوني لتسويغ الأراضي الدولية وإنما ستواصل التفويت فيها للمستثمرين تحت يافطة “شركات الإحياء والتنمية الفلاحية”، في إطار طلب العروض و”وفقا لمبادئ المنافسة” مثلما ورد في البلاغ. ولعل التمسك بتطبيق القانون يشكّل الحجة الأبرز في الخطاب الرسمي، في حين أنه في تجارب مماثلة لجأت وزارة أملاك الدولة إلى التقدم بمشاريع قوانين جديدة، على غرار “قانون تسوية وضعيات الاستغلال غير القانوني لمقاطع الحجارة الرخامية التابعة لملك الدولة الخاص”. هذا القانون أثار جدلا في مجلس  النواب أثناء المصادقة عليه شهر جوان الفارط، إذ كشف عن تقاطع مصالح لوبيات الفساد مع بعض الماسكين بالسلطة. وقد طعنت في دستوريته الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين.

– استرجاع الأراضي الدولية لا ينتظم داخل مقاربة تنموية استراتيجية، تراعي الأوضاع التنموية والاجتماعية للقرى والمدن الحاضنة لهذه الأراضي. بل تنطلق السياسة الجديدة من هاجس جلب الأموال لسد العجز الحالي في ميزانية الدولة. وفي هذا السياق أشار نبيل العبيدي، المكلّف بمأمورية بديوان أملاك الدولة والشؤون العقارية، إلى أن المقاربة الجديدة تهدف إلى “إعادة تنظيم الأراضي والتصرف فيها بما يضمن أكثر موارد للدولة”. و هذه السياسة المتجاهلة للواقع الاقتصادي والاجتماعي للمناطق الفلاحية، ستحرم صغار الفلاحين والعمال الفلاحيين من حقهم في استغلال الأرض و ستعيد بالمقابل تكريس تجربة الاستثمار الفلاحي الخاص، التي راكمت حصيلة سيئة في طرق استغلال الأرض.

الاستثمار: إثراء فاحش ونهب عشوائي للأراضي

عادة ما تبرّر السلطات التونسية خيار الخوصصة الفلاحية بتشجيع المردودية وتطوير طرائق الاستغلال العصري للأرض. ولكن واقع الحال بيّن في الكثير من التجارب أن الاستثمار الخاص أطلق العنان لرغبة الإثراء الفاحش على حساب الأرض والعمال الفلاحيين. إذ سوُّيت آلاف الهكتارات من الأشجار المثمرة بالأرض، وتحوّلت إلى حقول لزراعة الحبوب، لأن هذه الزراعة البعلية لا تستحق طاقة تشغيلية وتدر أرباحا سريعة. هذا وقد بزغت تجربة الاستثمار من تفقير المئات من صغار الفلاحين والعملة الفلاحيين، الذين وجدوا أنفسهم على هامش الهكتارات الشاسعة، التي تم التفويت فيها للمستثمرين. ومن الأمثلة الدالة على هذه الحصيلة:

-ضيعة هنشير عياد بمنطقة قربة (ولاية نابل) تبلغ مساحتها 166 هكتار، تم التفويت فيها سنة 1998 لمستثمرة فلاحية. أثناء سنوات الاستثمار الخاص تم اقتلاع مساحات شاسعة من الأشجار المثمرة تبلغ مساحتها 100 هكتار (العنب واللوز والعوينة)، وردم خمس آبار سطحية وتسريح أغلب العمال الفلاحيين، والاكتفاء باستغلال 5 هكتارات في زراعة الحبوب بالاستعانة بعاملين وجرار فلاحي. بالمقابل كانت الضيعة أفضل حالا قبل التفويت فيها، إذ كانت تنتج سنويا حوالي 1800 طن من العنب المصنف من أجود الأنواع، وأكثر من 45 ألف طن زيت زيتون، وكان يشتغل فيها حوالي 200 عامل موسمي و70 عامل قار.

-هنشير الشويقي بطبربة (ولاية منوبة)، تم التفويت سنة 1990 في مساحته الأكبر ( 670 هكتار) لمستثمر خاص. وقد سبق لموقع نواة أن أنجز تحقيقا حول وضعية الهنشير، إذ أكد الأهالي تدهور مردوديته مقارنة بحالته السابقة -عندما كان يخضع لإدارة التعاضدية- لأن المستثمر استغنى عن زراعة العنب ولم يلتزم بغراسة الخوخ المنصوص عليه في عقد الكراء لأن هذا النشاط يتطلب يد عاملة، كما أهمل مساحات شاسعة من أشجار الزيتون، وبالمقابل اقتصر الاستثمار على زراعة الحبوب.

إن ضيعتي الشويقي وقربة لا تشكل سوى أمثلة على سياسة الاستثمار الفلاحي الموجهة للربح الخاص العشوائي على حساب مصلحة الاقتصاد الفلاحي، وعلى حساب التشغيل والتنمية. وقد ساهمت التوجهات الاقتصادية العامة للدولة والأطر التشريعية في تدعيم هذه السياسة، إذ تم التفويت في الأراضي الدولية لمستثمرين خواص بعقود كراء تتراوح مدتها من ضيعة إلى أخرى، وبمعلوم رمزي لا يتجاوز الـ9 آلاف دينار في السنة. فعلى سبيل الذكر اكترى أحد المستثمرين السابقين جزء من واحات جمنة (مساحتها 111 هكتار) بمبلغ سنوي قيمته 9734 دينار، في حين أنه يجني سنويا حوالي 450 ألف دينار.

رغم الحصيلة السلبية التي راكمها واقع الخوصصة، فإنه مازال يقف على رأس رهانات الحكومة الجديدة. وهو يندرج ضمن السياسة الاقتصادية الشاملة التي تقوم على خيار الانفتاح على السوق، وإفراغ الاقتصاد من أدواره الاجتماعية والتنموية ليصبح أداة للربح الخاص. ولعل الإصرار على هذا الخيار سيصطدم بالحراك الاحتجاجي المطالب عموما بتغيير سياسة توزيع الأراضي، وقد تطور هذا الحراك في بعض المناطق لينشئ نمط تسيير اقتصادي موجه لخدمة الأغلبية الاجتماعية (جمنة أنموذجا). ومن المنتظر أن يؤدي تمسك الحكومة الجديدة بالسياسة القديمة –تحت يافطات هيبة الدولة وحماية القانون- إلى إعادة إنتاج الحيف الاجتماعي، وإعدام أفق تطور مغاير كان بالامكان أن يمضي فيه الاقتصاد الفلاحي في تونس.