بقلم غسّان بن خليفة1،

تدعم منظمة انترناشيونال آلرت بتونس، بالشراكة مع مؤسّسة روزا لوكسمبورغ والمجتمع المدني المحلّي بحيّ التضامن، مشروعًا للميزانية التشاركيّة ببلديّة التضامن لسنة 2017. وتهدف هذه الورقة إلى تقديم ”تقييم ذاتي“ أوّلي للمرحلة الأولى من المشروع بهدف مشاركة الاستخلاصات وفتح المجال للتفكير جماعيًا حول المسائل والاشكاليات المرتبطة بالميزانية التشاركية خصوصًا، وبمسائل الديمقراطية المحلية واللامركزية عمومًا.

من جلسات المنتديات المواطنية في إطار مشروع الميزانية التشاركية لبلدية التضامن لسنة 2017.

ماهي الميزانية التشاركيّة، تاريخها ونماذجها

تعود جذور المفهوم إلى مدينة بورتو اليقري البرازيليّة التي شهدت سنة 1989 أوّل تجربة للميزانية التشاركية مع تسلّم حزب العمّال اليساري مسؤولية إدارة البلديّة. وأتت هذه التجربة في سياق تنامي الحركات الاجتماعيّة وفي إطار الانتقال للديمقراطية الذي شهدته البلاد نهاية الثمانينات من القرن الماضي. وكانت الغاية من الأمر تشريك المواطنين في تدبير أمور محيطهم المباشر في إطار تبنّي مبدأ الديمقراطيّة التشاركيّة، كإجابة على ما بدا واضحًا من قصور الديمقراطية التمثيليّة في التعبير عن مشاغل الناسّ، خاصّة على المستوى المحلّي. وقد أدّت النتائج الايجابية لهذه التجربة إلى تعميم الآلية في العديد من مدن أمريكا اللاتينيّة في مرحلة أولى، قبل أن تنتشر في بلدان أخرى، بما في ذلك في دول الشمال، ليصل عدد المدن التي تعتمد هذه الآلية اليوم إلى حوالي الألف1.

ورغم تنوّع تجارب الميزانية التشاركيّة حول العالم، تبقى التجربة البرازيلية الأهمّ والمعيار الأساس للمقارنة. ويلاحظ في نموذج بورتو أليقري انتخاب المواطنين مندوبين عنهم، يكوّنون مع ممثلي المجتمع المدني (تحديدًا جمعيّات الأحياء) والسلطة المحلّية والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعين هيئة جماعيّة للاشراف على تنفيذ الميزانية التشاركية في مختلف مراحلها. وإلى جانب المندوبين الذين يتمّ اختيارهم في مجالس الأحياء، انضمّ إلى عضوية الهيئة، منذ سنة 1994، مندوبين عن ”المجالس الموضوعيّة“. وهي مجالس تختصّ في مناقشة ملفّات مثل التربية والصحّة والرعاية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والثقافة والشباب والتهيئة العمرانيّة.

الميزانية التشاركية في تونس وبحيّ التضامن

تُعدّ التضامن من البلديات القليلة بالبلاد التي اختارت فتح جزء من أبواب ميزانيتها لقرار المواطنين. وقد سبقتها إلى ذلك في السنوات الثلاث الماضية منزل بورقيبة، المرسى، قفصة، صفاقس، توزر، قابس ومنوبة. وذلك إضافة الى تجربة الميزانية التشاركية المُجهضة في صيّادة. ويتعلّق الأمر في التضامن بثلاثة أبواب من العنوان الثاني للميزانية (أيْ الخاصّ بنفقات التنمية، فيما يخصّ العنوان الأوّل نفات التصرّف)، خصّصت لها النيابة الخصوصية لبلدية التضامن 600 ألف دينار، ووُزِّعت على النحو التالي: 300 ألف دينار لمشاريع تعبيد الطرقات والأرصفة، 200 ألف دينار لمشاريع التنوير العمومي و100 ألف دينار لمشاريع تجميل المدينة. وباستثناء التجربة المُجهضة في صيّادة، التي فتحت كلّ أبواب نفقات التنمية، فإنّ التضامن تعدّ أوّل بلدية تفتح ثلاث أبواب من ميزانية التنمية لاختيار المواطنين.

وقد جاء قرار إرساء مبدأ الميزانية التشاركية ببلدية التضامن نتيجة لمبادرة من منظمة انترناشيونال آلرت، بالشراكة مع تنسيقيّة ”أنا أغيّر“ الشبابية بحيّ التضامن. إذ دعَمَت المنظّمة، بالتعاون مع مكتب ”لوكال اي قلوبال“ (الحركة الجمعيّاتية)، الحوار الذي حصل بين ممثّلي عدد من مكوّنات المجتمع المدني بالتضامن والنيابة الخصوصيّة للبلديّة مُمثّلة في شخصَيْ رئيسها وكاتبها العامّ. وتمّ تثبيت نتائج هذا الحوار في اتفاقّية أمضى عليها ممثّلو البلدية ومكوّنات المجتمع المدني المحلّي. وقد تضمّنت مبادئ الميزانية التشاركية، ومراحل انجازها ودور كلّ من البلدية والمجتمع المدني في إنجاحها.

ايجابيات التجربة

من أهمّ الايجابيات التي تمّ تسجيلها خلال هذه التجربة:

  • المشاركة الواسعة نسبيًا للمواطنين (معدّل 90 مشاركًا ومشاركة في منتديات المواطنين التي انعقدت خلال شهر رمضان الماضي) في نقاش واختيار المشاريع في انتخاب ممثّلين (رجل، امرأة، شاب أو شابّة) عن منطقتهم السكنيّة. وهو ما يعدّ مدخلا وخطوة أولى هامّة نحو مزيد انخراط الناس في الشأن العامّ، ودعم ثقتهم في أنفسهم وفي قدرتهم على تغيير واقعهم.
  • الدور الأساسي الذي لعبه شباب من الحيّ، من الجنسين، في هذا المسار التشاركي.
  • ساهمت هذه التجربة في بناء علاقة ثقة وتعاون بين المجتمع المدني المحلّي والمسؤولين المحلّيين
  • ساهمت في ترسيخ الممارسات التشاركية لدى المسؤولين المحليين.
  • وهي كذلك مدخل لنشر ثقافة المراقبة والمساءلة والمحاسبة المواطنية.
  • ما لوحظ من حماس لدى المندوبين المنتخبين في منتديات المواطنين للتدخّل في مختلف القضايا المرتبطة بالعمل البلدي، بما يتجاوز الأبواب الثلاث التي تمحورت حولها الميزانية التشاركيّة لهذه السنة.

السلبيّات والحدود

  • لا يشمل النموذج المطبّق حاليا للميزانية التشاركية المشاريع الاقتصادية\التنموية ولا الثقافية، رغم أنّها ضمن مشاريع العنوان الثاني الخاصّ بالتنمية.
  • ملاحظة توجّه لدى بعض الأطراف الفاعلة في مجال الميزانية التشاركية في تونس نحو وضع ”آليات تشاركية“ بالنسبة للمشاريع الاقتصادية والثقافية ترتكز على مشاركة البلدية والمجتمع المدني و”الخبراء“، لكن دون تمثيل المواطنين. وذلك بحجّة أنّ ”عامة المواطنين لا يفهمون في الاقتصاد والثقافة“. ويبدو أنّ خلفيّة هذا التوجّه هي العقليّة النخبويّة الليبراليّة التي تعطي أهمّية كبيرة لـ”الخبراء“ على حساب عامّة الناس وتقصي هؤلاء من مناقشة وتقرير الشأنين الاقتصادي والثقافي المحلّيّين.
  • الأبواب المفتوحة في الميزانية البلدية التشاركية محدودة جدًا. اذ يتعلّق الأمر في أفضل الأحوال بثلاث مجالات تخصّ البنية التحتية الأساسية (صارت تُسمّى مشاريع القرب): التنوير العمومي، الطرقات والأرصفة وتجميل المدينة. فلا يُعقل مثلا أن لا يُسمح للمواطنين بمناقشة مسألة النظافة العموميّة (جمع الفضلات تحديدًا والرسكلة والخ) أو الصحّة العموميّة والنقل العمومي. وهذا يتطلبُّ مزيد توسيع صلاحيات البلديات في مشروع مجلّة الجماعات المحلّية بصدد الانجاز.
  • الاقتصار على مشاريع الاستثمار وعدم فتح الباب لمشاريع الصيانة. إذ يلاحظ أنّ الكثير من المواطنين مهتمّون بنقاش أحوال المشاريع القائمة أكثر من المطالبة بمشاريع جديدة، خاصّة في مجال التنوير العمومي والطرقات. وهذا أمر منطقي ومفهوم. إذ لا يُعقل أن يتمّ التفكير في انشاء أعمدة إنارة أو طرق جديدة بينما القديم منها في حالة غير مرضيّة. وبالتالي، نرى ضرورة أن يُفتح الباب للمواطنين كي يناقشوا ويقرّروا كذلك الأولويات في مجال الصيانة.
  • رغم الحملة التواصلية الميدانية الهامّة التي قام بها شباب المجتمع المدني المحلّي (تحديدًا أعضاء التنسيقيّة الشبابيّة ”أنا أغيّر“) لدعوة المواطنين للمشاركة في منتديات المواطنين الخاصّة بأحيائهم السكنيّة، فقد لوحظ ضعف مشاركة الشباب، وكذلك الشرائح الاجتماعية الأكثر تهميشًا بالحيّ. وهو ما يستدعي النظر مستقبلاً في وسائل أنجع للوصول إلى هذه الفئات الاجتماعيّة.

خاتمة وهواجس أخرى

لا شكّ في أنّ ترسيخ آلية الميزانية التشاركية في حيّ التضامن وغيرها يعدّ خطوة هامّة على طريق الديمقراطيّة المحلّية والتشاركيّة. إلاّ أنّه لا معنى لمثل هذه الآليات اذا اقتصرت على الجانب التقني والشكلي. إذ لا جدوى من مشاركة المواطنين في تقرير ميزانيّة شحيحة الموارد أصلاً. وهذا ما يدعونا إلى التنبّه للجدال الحاصل حول معايير تمويل البلديات مستقبلاً، على ضوء ما نشر بخصوص شروط البنك العالمي التي تصبّ في مصلحة البلديات الكبيرة على حساب الصغيرة منها. كما أنّه لا معنى للامركزيّة إذا مُنعت البلديّات من تركيز مشاريع تساعدها على تنمية مواردها2. وهذا ما يجعلنا نطرح بجدّية مسألة تقسيم حدود المجال الجغرافي للبلديات. إذ لمسنا خلال تجربتنا في الحيّ قلق المجتمع المدني والمسؤولين المحلّيين من التقسيم الأخير، الذي فصل بين بلدتيْ المنيهلة والتضامن، ممّا جعل الأخيرة تفتقد للمساحات الضرورية لاقامة مشاريع صناعيّة أو فلاحية تنتفع منها جبائيًا، فضلاً عن المشاكل المرتبطة بالتوسّع الديمغرافي والعمراني الطبيعي للحيّ.

إلى ذلك، تجدر الإشارة أنّه لا إمكانيّة لترسّخ مبادئ الديمقراطية التشاركيّة إن لم تشمل مختلف مستويات الحكم، بما في ذلك المستويَيْن الجهوي والوطني. كما يجب التساؤل عن آفاق استمرار التجربة ونجاحها على المستوى المحلّي في ظلّ تواصل غياب مجالس بلديّة منتخَبة. وفي انتظار تنظيم الانتخابات البلديّة، هناك مخاوف جدّية بالنظر لنزوع الحكومة المستمرّ إلى حلّ النيابات الخصوصيّة، التي تتميّز عمومًا بتفاعلها الايجابي مع المجتمع المدني المحلّي، ووضع البلديات تحت سلطة المعتمدين الممثّلين المحلّيين للسلطة المركزية.

هوامش

  1. غسّان بن خليفة، منسّق مشروع تعزيز مشاركة الشباب بحيّ التضامن.
  2. كتيّب ”72 سؤلا متكرّرًا عن الموازنة بالمشاركة وإجاباتها“، ص 19، من اصدار برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية.
  3. مثلا ما علمناه عن رفض سلطة الاشراف مقترح النيابة الخصوصية للتضامن التعاقد مع مصنع لتحويل المواد البلاستيكيّة.