bsaies-battikh

اتخذ الحراك الاجتماعي في نظر حكومات ما بعد الثورة صورة الحرائق المشتعلة هنا وهناك، التي يجتهد المسؤولون في إطفاءها. هذه الصورة أنتجت سياسات تراوحت بين الترويض والعنف. وبرزت الدعاية الإعلامية، واحدة من أبرز وسائل التحكّم في الحراك الاحتجاجي، لأنها تعيد تشكيل الواقع الاجتماعي في هيئة تقارير أمنية-صحفية وحوارات تلفزية، متكيّفة مع مصالح السلطة. خلال الأسبوع  الفارط تكثفت الدعاية المناهضة للحراك الاحتجاجي –في ملفي بتروفاك قرقنة والأراضي الدولية بجمنة- لتكشف عن جملة من الاستراتيجيات المُجرّبة في وحدات البروباغاندا العالمية: فبركة الأحداث، التشكيك في أهداف الحراك، التستر وراء المصالح العامة، تقزيم قادة الاحتجاجات…

التحق بجوقة الدعاية مفتي الجمهورية، عثمان بطيخ. لتنخرط بذلك المؤسّسة الدينية الرسمية في مناهضة الحراك الاحتجاجي، موظّفة المُعطى الديني في الصراع الاجتماعي والسياسي. وهو ما ينبؤ بأن الحكومة بصدد حشد كل الوسائل المتاحة للسيطرة على الحراك، ولو تطلب الأمر استخدام وسائل ”قروسطية“ تتعارض مع الخطاب الفكري والسياسي لجزء من الأحزاب  الحاكمة.

استراتيجيات الفبركة

يقول عالم الألسنيات الأمريكي، نعوم تشومسكي، ”إن الدّعاية في النظام الديمقراطي بمثابة الهراوات في الدولة الشمولية“. ولئن كان الاستنتاج التشومسكي -المأخوذ من مؤلفه ”السيطرة على الإعلام“- يعكس نموذج هيمنة سائد في المجتمعات الغربية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية. فإن السياق التونسي، رغم عدم مطابقته للتجربة الغربية، ترتبط فيه الدعاية الرسمية بفشل الحلول الأمنية، فالهدف الذي عجزت عنه هراوات البوليس في جزيرة قرقنة بإمكان الدعاية النشيطة الوصول إليه.

تصدّرت واجهة البروباغاندا المناهضة للحراك الاجتماعي، العديد من وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة. ولعل القنوات التلفزية تعد الأكثر تأثيرا، خصوصا قناتي الحوار التونسي ونسمة، التي تتصدر نسب المشاهدة. في هذا السياق يمكن الرجوع لبرنامج ”هنا الآن“، عدد 21 سبتمبر 2016، الذي يديره رجل دعاية النظام السابق برهان بسيس. استُهِل البرنامج بتقرير صحفي حول شركة بتروفاك، يبدأ الصحفي حديثه بجملة تقريرية: ”مؤسسة بتروفاك بقرقنة تقرر المغادرة نهائيا بعد مسلسل من التهديدات وموجة تكاد تكون غير منقطعة من الاحتجاجات“، ثم يواصل تفصيل الأسباب، ليؤكد دون أن يتسرب إليه أدنى شك ”تعطل الانتاج على خلفية تعمّد 4 أشخاص اقتحام مقر الشركة للمطالبة بمواصلة الانتفاع برواتب دون مقابل“. ثم يختم تقريره، مطمئن البال لمقدماته: ”إذن غادرت بتروفاك نهائيا في وقت انتظار إعادة عجلة النمو للدوران مجددا، خصوصا وأن تونس تستعد لاستضافة الحدث الأبرز، المؤتمر الدولي للاستثمار“.

نهض التقرير أساسا على استراتيجيا الفبركة، التي تُوهم بوقوع أحداث في الواقع، في حين أنها من صنع العقل الدعائي. صاحب التقرير يجزم أن الشركة غادرت، غير أن ذلك لم يحصل فعلا ومازالت المفاوضات متواصلة آنذاك. ثم يُرجع السبب إلى اقتحام مقر الشركة من قبل 4 أشخاص مطالبين برواتب مجانية، في حين أن الاعتصام خاضَه عمال منظومة العمل البيئي البالغ عددهم 266 ويساندهم الأهالي والبحارة، كان مطلبهم التزام الحكومة بتنفيذ محضر سابق أمضته معهم، يقضي بتسوية وضعياتهم. وفي الأثناء يُسقط من تقريره التدخل الأمني العنيف الذي شهدته الجزيرة شهر أفريل الفارط. كان الهدف من الفبركة تقزيم الفاعلين الاجتماعيين وإظهارهم في صورة قطاع الطرق“، غايتهم الربح دون جهد، وهكذا يسهل تأليب الرأي العام ضدهم. ثم ينتهي التقرير إلى مشكلة التنمية والاستثمار، ودون ربط سببي بين الظواهر يتحمل المحتجون مسؤولية تعطل الاقتصاد، في حين أنهم أكبر ضحايا السياسة الاقتصادية السائدة.

الإسقاط والتستر وراء المصلحة العامة

تقارير البرامج التلفزية تشكل الإطار الناظم لمحاور النقاش، علاوة على أنها تتحكم في الاستعداد الذهني للجمهور من خلال الصور والمعطيات والأرقام التي تبثها بإيجاز، مما يجعلها أكثر قابلية للرسوخ. في هذا السياق عَرض برنامج ”ناس نسمة نيوز“ تقريرا حول قضية الأراضي الدولية وبالأساس تجربة هنشير ”ستيل“ بمنطقة جمنة (قبلي). يبدأ التقرير بإسقاط  تاريخي من خلال المزج بين تجربة التعاضد -التي لا يمكن تقييمها إلا في سياقاتها التاريخية والاقتصادية والسياسية- وبين تجربة جمنة وليدة السياق الثوري. ولقد كان الهدف من هذا الإسقاط الوصول إلى نتائج واحدة لكلا التجربتين، إذ أن الفشل القسري الذي آلت إليه تجربة التعاضد نهاية الستينات يجب أن يتحول إلى حالة تاريخية ثابتة، تنطبق على جمنة ومن يحذو حذوها. ولتبرير هذا الإسقاط اكتفى التقرير ببث صور لمحتجين يغلقون الطريق في جمنة، لإثبات حالة التعطل التي آلت إليها التجربة. بالمقابل طُمِست النقاط المضيئة التي تشهدها جمنة تنمويا واجتماعيا.

في برامج إذاعية مماثلة، تمت إثارة ملف الأراضي الدولية وبالتحديد تجربة جمنة، التي وقع التسويق بأنها تتعارض مع المصلحة العامة وضد قوانين الدولة، وقد بلغ الحماس بصحفي إذاعة موزاييك، بوبكر عكاشة، أن توَسّل من كاتب الدولة المكلف بأملاك الدولة والشؤون العقارية مبروك كورشيد ”تطبيق القانون على هؤلاء لأنهم استولوا على أراضي الدولة دون وجه حق“. ولعل التستر بالدفاع عن المصلحة العامة يحجب الدفاع عن سياسة الحكومة الجديدة التي تهدف إلى إعادة التفويت في الأراضي الدولية للمستثمرين الخواص، على حساب صغار الفلاحين والعمال الفلاحيين.

الفتوى الشرعية في خدمة رأس المال الأجنبي

بالتوازي مع الدعاية الإعلامية، نشطت المؤسسة الدينية الرسمية، لتُصدر على لسان مفتي الجمهورية عثمان بطيخ فتوى شرعية تحرّم الاحتجاجات، وقد سبق أن عبر المفتي عن نفس الموقف في إطلالة رمضانية. وقد انسجم مضمون الفتوى مع خطاب السلطة ودعاتها، إذ ربط المفتي تراجع الاستثمار الأجنبي بتحركات المعطلين عن العمل. وطالما أن رتبة الإفتاء تستوجب تعاليا عن الوضع البشري لأنها ناطقة باسم المقدس، فقد تقمص المفتي صفة ”وزير الله“ -اقتباسا من الفيلسوف الألماني نيتشة- ليؤكد بكل وثوقية ”ربّي يكره العبد البطال“، وهكذا أرسل بأكثر من 800 ألف معطل عن العمل إلى جحيم السخط الإلهي. ودون أن ينتبه المفتي إلى منزلقات التأويل لجأ إلى المعجم القرآني ليبيّن عقاب هذه الفئة الضالة، مستعملا عبارة ”هؤلاء المفسدين ويجب الضرب على أيديهم“ وهكذا يحيل على أكثر الآيات القرآنية جدلا (الآية 33 من سورة المائدة)، التي ارتبط فيها الإفساد بالتقطيع والتقتيل والتصليب والنفي. وقد استُعملت في سياقات مشابهة من طرف النائب السابق بالمجلس التأسيسي عن حركة النهضة الصادق شورو، الذي دعى إلى تطبيق أحكام الآية المذكورة على المشاركين في الإضرابات والاعتصامات.

بغض النظر أن هذه الفتوى صدرت عن صاحب العمامة، فإنها عموما تعكس روح السلطة التي يديرها رجال متأنقين ببدلات عصرية، ولكنهم يتعاملون مع مواطنيهم المطالبين بحقوقهم المشروعة بأساليب قديمة، موروثة عن أزمنة الإقطاع. تلك الأزمنة التي يُنظر فيها إلى الأفراد المتمردين على الوضع القائم حفنة من الصعاليك وفئة ضالة، خارجة عن جادة الصواب. ما تغير أن هؤلاء أصبحوا يُنعتون في المعجم السياسي المعاصر بالمخربين و”الخارجين عن القانون“.