أمّا عن التّعذيب، فمن أين أبدأ ؟ ربّما من إحساسي الدّاخلي بأنّ الذين مارسوه ضدّنا كانوا يشعرون بأنفسهم في حالة شغل عاديّ تقتضيه وظيفتهم التي عيّنوا لها. وقد يتجرّأ يوما أحد كبار موظّفي الأمن على البوح بأسرار هذه المهنة في طريقة انتداب هؤلاء، وتدريبهم، وتأهيلهم الشّامل لمثل هذه المهام. كيف يتمّ اختيارهم؟ ماذا يدرّسونهم؟ كيف يُروَّضون للرّجوع إلى زوجاتهم وأبنائهم بعد أن يغتسلوا من رذاذ الدّماء الذي قد يصيب ملابسهم وأيديهم؟ (مع المعذرة لما سبّبناه لهم من إزعاج !).
جاءت بعض فرص للتّكشّف على الأمر عندما استبدّت الكرامة والأنفة ببعض مسؤولي الدّولة الكبار من السابقين، ومنهم وزراء داخلية ووزير أوّل، ليكتبوا مذكّراتهم، ففزنا بأشياء على غاية من الأهميّة عن تعديلهم لمزاج بورقيبة في أوقات الشدّة، وسعيهم الخفيّ إلى دفع البلاد باتّجاه الدّيمقراطية وأشياء أخرى لم يكن الشّعب يفقه أبعادها. وقد يكون سقط من ذاكرتهم مثل هذه الأشياء البسيطة من نوع التّعذيب، ومقاييس انتداب البوليس السياسي، ومناهج تكوينه… بعضهم كاد أن يقسم بأغلظ الأيمان أنّه لم يكن يدري من الأمر شيئا، أو سمع عنه كما تسمع عنه أنت وأنا من عباد اللّه المتفرّجين على أحوال البلاد والحكومة في جهاز التّلفاز.
والحقيقة التي لمستها في أعوان بوليسنا السياسي الموقّرين، أنّه كانت لهم من الاستعدادات الفطرية ما وفّر، تأكيدا، على الحكومة كبير مصاريف وطول زمن يتطلّبه التّكوين. فالصّراع الطّبقي، كما كنّا نقول، وفّر لهم من المادّة التّطبيقيّة ما يحسده عليه زملاؤهم في أصقاع أخرى باردة كالنرويج أو السّويد اللتين لم يسعفهما الحظّ بأن تشيّدا إمبراطوريّات استعمارية تصلح كثيرا في هذا الشّأن.
فتعاقب اليوسفيين، ثمّ جماعة المؤامرة، ثمّ يساريّي برسبكتيف والبعثيين والقوميين ومن لا انتماء حزبي لهم، ثمّ الأفواج المتعاقبة من مناضلي ”العامل التّونسي“ وغيرهم، ثمّ الإسلاميين، لم ينفكّ يوفّر المادّة الحيّة للدّروس التّطبيقية لبوليسنا.
شاهدت مرّة على قناة أوروبيّة وثيقة عن تدريب الشرطة السياسية في أوروبا على انتزاع الاعترافات من مناضلي الـ”باسك“ بإسبانيا أو المناضلين الإيرلنديين، لم أعد أذكر. كانوا يتمرّنون على دمى على هيئة بشر لمعرفة جزئيات الجسد والقنوات العصبية التي تتكفّل بوظيفة إيصال الوجع إلى الدّماغ وإعادة بثّه إلى الأعضاء في شكل رسالة تتلقّفها المعنويّات ومفادها : لا حيلة لك، الآن تنهار! كان الهدف إحداث انهيار داخلي معنوي لا يترك الفرصة لطبيب الجسد لمعاينة أيّ أثر لاعتداء مادّي ما.
والحقيقة أنّي لم أفهم هذا التّرف في إضاعة الجهد والمال، وصرت من يومها متفهّما لحكمة دولتنا في ترشيد استهلاك الحكومة، وقدرتها على ترتيب أولوياتها في ميزانية التصرّف بما يترك المجال للتنمية قبل الترّهات، لا سيّما وأنّنا بلد من العالم الثّالث، إضافة إلى أنّ التعلّم على الكائن الحيّ لا يضاهي في شيء التدرّب على دمى، وإن كانت على هيئة بشر… والبشر متوفّر عندنا والحمد للّه.
سبب آخر قد يكون وراء عدم تبسّطي في هذا الأمر غير البسيط، كنت خائفا أن أفتح على نفسي بابا يصعب غلقه، أو أن أضيع في متاهاته، رغم أنّه يشغل بالي مذ زمن. لم أع يوما ذاتي من خلال جسدي قبل تعرّضي إلى الاعتداءات التي تعرّضت لها. نشأت في حيّ تعوّدنا فيه، ونحن صغار على عشق القوّة العضلية، واعتبار الجسد سلاح الرّجولة والفتوّة. كنّا نتخاصم كثيرا وتتحدّد مرتبتنا داخل الجماعة بمدى المعارك التي نخوضها، وحساب الانتصارات والهزائم مع ضبط دقيق لنوعية الخصم. فثلاثة أو أربعة انتصارات على خصم هزيل لا تساوي شيئا أمام تعادل مع منازع صلب، بل يصل الأمر إلى إسناد نقاط أفضل في حالة هزيمة مشرّفة مع صاحب فتوّة له اعتباره.
وكنّا نقيس بطولة هذا البلطجي أو ذاك بعدد آثار الجروح على جسده كدلالة على امتلاء سجلّه الكفاحي وشجاعته. أي أنّ شأن الفرد يرتفع بمدى تشوّه جسده وتشويهه لأجساد أخرى. يكفي الغوص في قاموس الشارع الذّكري بداية من ”شلّط“ ومرادفاتها للوقوف على هذا الأمر.
هذه الثّقافة المعادية للجسد باستخدام الجسد، ليس كحرمة لا تمسّ، وإنّما كوسيلة يكبر شأنها بمدى قدرتها على هتك الحرمة الجسدية للآخر، هي التي جعلت ”فتوة“ من نوع ”علي شورّب“[1] يرتقي إلى مرتبة البطل القومي، ويستأثر، يوم موته، بإحدى أكبر جنازات العاصمة.
وحكاية ثقافة الجسد عندنا طويلة وقديمة، يصعب الإتيان عليها من ألفها إلى يائها. نحن لا نعرف حرمة الجسد إلاّ فيما يخصّ المرأة. ربّما لشهوة دفينة فينا، نحن الرّجال، في أن تأتينا عذراء فنكون المبادرين بإحداث الثّقب… شماتة في الأعداء والحاسدين، والتحاقا بمرتبة الفاعل في جملتنا العربية.
والأسباب لا تقف هنا بل تغوص فيما هو أعمق… وأخطر.
لسنوات خلت جاءتني ابنتي يوم كانت في سنتها الثانية من التعليم الابتدائي، لتقول لي:
– لماذا تكذب عليّ يا أبي ؟
قلت : كيف أكذب عليك ؟
قالت : ألم تقل لي بأنّ اللّه طيّب ويحبّ العباد ولا يصدر منه أيّ سوء.
لم أفهم ما كانت تقصده، فقد كانت تلحّ عليّ، كجميع الأطفال في سنّها، بأسئلتها عن الخلق والخالق، وتعيد عليّ حكايات الجنّة والنّار التي تتلقّفها من أطفال الحيّ، فالتجأت إلى ”بابا نويل“ لأستلف منه، دون إذن، لحيته وهيئته وألبسهما اللّه ثوبا وقتيّا، في انتظار أن أتدبّر أموري مع داروين وما بعد الدّاروينية، وأفهمها بما استطعت إليه سبيلا، وحسب ما يمكن لسنّها تقبّله.
قلت : طبعا، وإنّه ذو لحية بيضاء كثيفة كلحية الإله ”نبتون“ في الصّور المتحرّكة لعروس البحر الصّغيرة.
قالت : أبدا، فآنستي قالت لنا أنّ اللّه يحرق بالنّار، وأنّ رجلا ضرب الرسول محمّدًا فأشعل اللّه فيه النّار وزاد على ذلك بأن حكم على امرأته أن تحمل الحطب وفي عنقها حبل خشن يجرحها كلّما تحرّكت.
بقيت أنظر إليها وأنا منشطر بين البحث عن كلماتي وبين التهليل لمدرّسة ابنتي التي استطاعت أن تفسّر لها الآية بما لا يترك أيّ ريب للتأويل من حيث المعتقد، وبما يؤسّس لعربيّتها منذ الصّغر، إذ لم يفتها معنى الحبل من مسد.
لا أذكر كيف خرجت من المأزق، لكني أذكر أنّها نامت ليلتها في حضني، وأنا أسترجع ذكرياتي عن الّذين باشروا جسدي. أكيد أنّهم درسوا نفس السّورة في صغرهم، وأنّهم تصارعوا في الحيّ للاطمئنان على ذكورتهم، وأنّ حرمة الجسد لم تكن دارجة في قاموسهم، لذا كانوا، كما ذكرت في البدء، أكثر استعدادا ثقافيا من نظرائهم في البلاد الباردة لاختصار مسافة الضّمير في أنفسهم والعودة إلى بيوتهم راضين مرضيين بعد يوم عطاء وكدّ. فهم يشبهوننا كتونسيين إلى حدّ الارتياب. لم يكونوا قادمين من كوكب آخر !
ربّما كان من الأجدر أن أتحدّث عن طبيعة الدّولة التونسية وتداخلها مع الحزب (أو تداخل هذا الأخير معها)، وعن اختلال التّوازن بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وإفراغها جميعا من محتوياتها بفعل صلاحيّات ووزن رئيس الدّولة الذي هو في الآن ذاته رئيس الحزب المهيمن على البلد… لكنّي فضّلت إثارة جوانب أخرى قلّ أن ننتبه إليها في حياتنا إذ أصبحت مسألة الطابع الاستبدادي للدّولة أمرا معروفا في ثقافتنا السياسية المعارضة على الأقلّ.
ما يظلّ غير معروف أو ناقصا معرفة هو فهم المناطق من ذهنيتنا التي تنشأ فيها آليات الاستهتار بالذّات البشرية، جسدا وكيانا، وسهولة لجوئنا إلى العنف المادّي والمعنوي، وصعوبة توليدنا لآليات الحماية ضدّ هذا الهدم اليومي الذي يأخذ بعده المأسوي عندما تعمد الدّولة ذاتها إلى إعادة إنتاجه بشكل منظّم، وواع، ومدروس.
مذ يوم الاستقلال لم يُسجّل تاريخ قضائنا حكما واحدا ضدّ موظّف دولة من وزارة الدّاخلية لاستخدامه العنف ضدّ موقوف سياسيّ أو غير سياسي. وطبيعيّ أن لا يُحاكم العون لأنّه سيقول: تأتيني التّعليمات لأوقف مواطنا ما لأنّه معارض، أو ينتمي إلى جمعية غير مرخّص فيها، أو لأنّه نشر مقالا مسيئا لهيبة الدّولة وصاحبها على الأنترنات. وتقولون: امسكوه ثمّ استخرجوا منه الإثباتات الدّالّة على تورّطه. وعندما نسأل السيّد المحترم يقول : ”لا أعرف وليس لي علم بالموضوع“. أفنحيل إلى القضاء ملفّا فارغا وأنتم تريدونه ”محرقصا“ (مسوّدا) ؟ أنقضّي الأيّام والليالي ونحن نترجّاه ”يعيّشك اعترِف ودعنا نرجع إلى بيوتنا لننام قليلا“ ؟ وعلى أيّة حال فإنّ دينامو الكهرباء، والعصيّ، والحبال، والهراوات لم نأت بها من بيوتنا. هي موجودة بمكاتبنا في الوزارة ومسجّلة كملك دولة وماعون صنعة، أفيكون استعمالها جريمة أم ماذا؟ أمّا عن اللاّفتات المعلّقة داخل مراكز الشّرطة عن حقوق المواطن وقانون الإيقاف وميثاق الشرف للشّرطي فلا أحد يقرؤها لأنّها أوّلا : مكتوبة بحروف صغيرة يعسر تهجّيها، وثانيا: هي غير مشكولة !
بمثل هذا الدّفاع يعسر محاكمة عون لتجاوزه الصلاحيات التي لم تُفَسَّر له بوضوح مقابل مطالبته، كجميع العاملين في الوطن، بالمردوديّة. ولأنّ القضيّة مخسورة من الأساس فالدّولة لم تُحِل عونا واحدا على القضاء رفقا بالوطن في ترتيب أولوياته من حيث التحكّم في الموارد.
وسامح اللّه الصّديقة لطيفة التي فتحت علينا هذا الباب !
هوامش
- أحد ”الباندية“ (البلطجية) في تونس. ذاع صيته منذ السنوات الخمسين إلى حدّ وفاته مقتولا في السبعينات. نُسِجت حوله حكايات كثيرة عن تفنّنه في المعارك والتزامه بميثاق الشّرف في باب الإجرام بعد أن تريّفت المدينة واختلط الحابل بالنّابل. شهدت جنازته خلقا هائلا من كلّ الأوساط الاجتماعية وحتّى من بعض أعيان البلاد، وكتبت بعض الأقلام الصحفية تمجّد سيرته أيّام الاستعمار الفرنسي لتضيف إلى رصيده البلطجي بعدا وطنيا…
iThere are no comments
Add yours