لا حديث في الأيام الأخيرة إلا عن قضيّة جمنة 1 التي باتت قضية خلافيّة، وغدا الحوار بشأنها حادّا ومشحونا ومتوترا. و تجند الإعلام المهيمن مستعرضا حججا واهية، في حملة تهدف إلى إدانة استرجاع الفلاحين للأرض. وهي حجج تعبّر عن هوس أصحابها أكثر مما توضّح حقيقة الأمور.
وحتى لاأضم صوتي لهذه الضوضاء ، أريد فقط التذكير ببعض المعطيات الأساسيّة قصد المساعدة على مركزة النقاش في مسائل جوهريّة تتجاوز قضيّة هذه الواحة الجنوبيّة.
الدولة والملكية العقارية للأرض
لنتساءل أوّلا حول وضع الأراضي الدولية التي لا تمثّل فيها ضيعة جمنة سوى مساحة صغيرة، إذ تمتدّ ملكية الدولة على حوالي 800.000 هك تمثل الأراضي الأكثر خصوبة في البلاد. وكان المعمّرون الفرنسيّون أو المرتبطون بهم يسيطرون عليها قبل سنة 1956. ثمّ تمّ تأميمها سنة 1964 عبر قانون الجلاء الزراعي وأوكلت إدارتها لديوان الأراضي الدوليّة ووضعت تحت إشراف وزارة الفلاحة المباشرة .
تكمن الاشكالية المطروحة في معرفة الكيفية التي سارت بها الأمور: لمَاذا احتفظت الدولة بسيطرتها على الأرض؟ هل من صلاحيتها امتلاك الأراضي الفلاحيّة وضمان استغلالها؟ وهل من دورها التحوّل إلى مالك عقاري أو مستغل للضّيعات الفلاحية؟ لقد انتزع المستعمر الأجنبي هذه الأراضي بالقوّة من الأهالي. و كانت استعادتها من المطالب الأساسيّة لحركة التحرّر الوطني.
ألم يكن من الطبيعي ومن العدل والأسلم إعادتها إلى المالكين الأصليين حين استـرجعتها الدولة ؟
كانت الحجّة الرسميّة التي قُدّمت في تلك الفترة -وكرّرتها الحكومات المتعاقبة- أنّ الفلاّحين التونسيين متأخّرون تقنيّا، وتعوزهم الإمكانيّات المالية لاستغلال هذه الأراضي بكيفيّة ناجعة وذات مردودية، في حين أن الاستغلال العموميّ لهذه الأراضي يمكنه المحافظة على مستوى الإنتاج وتحسينه، ومن شأنه خلق القيمة واستغلال فائضها فيي تمويل بقية القطاعات الاقتصادية.
هذه الحجة لم تصمد، إذ أكّدت الممارسة عدم مطابقتها لواقع الحال! نضرب مثلا على ذلك فترة التعاضد القسري القصيرة (1965 – 1969)، التي شهدت انهيار حقيقي للإنتاج الفلاحي، وعرفت خلالها نتائج الاستغلال العمومي للأراضي الدولية عجزا متفاقما. وليس هذا ادعاءا مجانيّا، ومن خلال الحسابات التي ينشرها ديوان الأراضي الدولية سنويا، لم نسجل منذ سنة 1970 فائضا ولو في موسم واحد. وتستمر الفضيحة منذ نصف قرن، إذ يشهد ديوان الأراضي الدولية عجزا مزمنا، يتفاقم سنة بعد أخرى.
عوض تطوير فلاحة عصريّة وناجعة وذات مردودية لم يؤدي استغلال ديوان الأراضي الدولية لهذه المساحات الزراعية سوى للعجز ، محمّلا بذلك ميزانية الدولة أعباء إضافية بدل إنعاشها. والأخطر من ذلك أنّه أفرز منظومة فساد مهيكلة، شملت كل مستويات التراتبية البيروقراطيّة القائمة.
إنّ هذا الفساد المتفشي ليس حادثا عرضيا ناجما عن التصرّف العمومي في الأرض بل هو نتيجته المحتومة، بما أنّه ترعرع في ظل نظام سياسي (خصوصا منذ وصول بن علي إلى السلطة) متواطئ مع وحامٍ لأوليغارشية من المضاربين والمافيوزيين، طغت مصالحهم على مصالح الدولة والبلاد.
و لاشك أنّ هذه الحقيقة المُزعجة تفسر الحملة المسعورة ضدّ استعادة أهالي جمنة لضيعتهم، وعندما تغيرت الأيادي المستغلة راكمت الضيعة أرباحا وغدت إدارتها شفافة، الأمر الذي جعلها استثناءا لا يُحتمل.
حق الفلاحين في الأرض والديمقراطية
منذ سنة 2011 لم يقتصر افتكاك الفلاحين للضيعات الدولية على ضيعة جمنة الجنوبية، بل شمل عشرات المناطق الزراعية الأخرى المنتشرة في كامل أنحاء البلاد. لقد آن الأوان أن نتساءل: لماذا اقتصرت هذه الظاهرة على الأراضي الدولية ولم تشمل إطلاقا أراضي يملكها فلاحون خواصّ مهما كانت مساحة أراضيهم؟ معنى ذلك أنّ الأمر لا يتعلّق بتجاوزات فوضوية قام بها مفتكّو الأراضي أو هجوما على الملكية العقارية الكبيرة في حد ذاتها. وإنّما هي حركة استرجاع ملكية، تستهدف بشكل خاص الأراضي الدولية دون سواها.2
ظن كثيرون أنّ الثورة التي أطاحت ببن علي كانت سياسية صرفة، وأنّها تُختصر في تغيير بسيط للفريق الحاكم، و هذا تحديدا ما ذهبت إليه غالبية أحزاب المعارضة السابقة، ولكنّهم ارتكبوا خطأً فادحا. فالثورات الحقيقية سياسية ولكنّها اقتصادية واجتماعية بالخصوص، إذ تهدف إلى تنظيم جديد للاقتصاد والمجتمع بطريقة تلبّي حاجيات الأغلبية وتشجع على تنمية الثروة الوطنية عبر إلغاء الامتيازات اللاّشرعية والمعطلّة للانتاج، التي احتكرتها الأقليّة.
استندت الانتفاضة التونسية إلى أربع فئات اجتماعية رئيسيّة: المناطق الريفية وسكان الأحياء الشعبية الهامشية والأجراء والطبقات المتوسطة. وبمشاركتها في الانتفاضة عبّرت كل فئة عن مطالب خصوصية. ولعل غياب تشكيلة سياسية تأخذ بعين الاعتبار مجمل هذه المطالب وتُدرجها في برنامج متناسق لا يلغي وجودها في الواقع .3
أما بالنسبة للفلاحين الذين دفعهم النظام القديم إلى العيش في ظروف مزرية، فإنّ أسباب احتقانهم عديدة ومبررة. وأحد هذه الأسباب – بل أهمّها – يتعلق بالنفاذ للأرض وخصوصا استعادة الأراضي التي انتزعها منهم المستعمر، ثم كرّست الدولة الوطنية سلبها عوض إعادتها إلى مستحقّيها الطبيعيين.
يشكل الحق في امتلاك الأرض إشكالا مزمنا في تاريخنا المعاصر، و عادة ما يُطرح في إطار المواجهة مع النظام السّياسي. قبل الاحتلال الفرنسي، في ظل حكم البايات، بلغ الإقصاء حدوده، إذ كان الفلاحون محرومين من امتلاك الأرض التي يعملون بها. وكان ذلك من الأركان القارة لسلطة البايات. فباعتلاء كلّ باي العرش يصبح بمقتضى الأمر الواقع ”مالكا للإيالة التونسية”. كانت البلاد بأسرها ملكه الخاص، بأراضيها وسكانها.
كانت البلاد ملكية للباي يتصرّف فيها كما يشاء، لتحقيق ثروته وتوفير الأساس الاجتماعي لهيمنته في ذات الوقت. إذ كان الباي يستغل عددا من الأراضي الفلاحية لحسابه الخاص ويوزّع البعض الآخر على أتباعه حفاظا على ولائهم له. إنّ هذه الامتيازات الإقطاعية لا تُمنح بصفة نهائية، فما يقدّمه الباي اليوم يمكنه استعادته غدا ويمنحه إلى أتباع آخرين.
أمّا الفلاحون، فلم يكونوا معنيين بهذه الأفعال وظلوا متعلّقين بأراضيهم، إذ لا يتغيّر سوى السادة المشرفون على تلك الأراضي وفقا لحسابات الباي السياسية أو لأهوائه. عمل هؤلاء الفلاحين في الأرض جيلا بعد جيل لم يتح لهم أي حقّ فيها، وخصوصا حقّ امتلاكها.
في مثل هذه الظروف، ظل صاحب العرش المالك الأبرز للأرض والناس، ولم يكن ممكنا أن تظهر الملكية الخاصة أو أن تتطوّر في غير الهامش الذي تسمح به فجوات النظام. وقد سهّل هذا الغموض القانوني على المعمرين سلب الأراضي زمن الاحتلال. وطالما أنه لم تكن للأهالي رسوم مِلكية أرض، تضمن حقوقهم، اعتبرت القوة الاستعمارية أنها أمام وضعية انعدام الملكيّة، وهو ما سمح لها بتوزيع الأراضي على المعمرين، الذين تمكنوا من الحصول على أراض شاسعة، والاستيلاء على ملكيتها.
وبهذا الشكل تعاملت فرنسا مع الفلاحين تماما مثلما فعل الباي، فالبلاد ملك من أملاكها ويمكنها أن توزّع الغنائم كما تشاء. وأحيى بورقيبة نفس الموروث عند تأميم الأراضي التي كانت تحت سيطرة المعمّرين سنة 1964، حتى وإن لم يكن هدفه الثراء الشخصي ولا ثراء المحيطين به، خلافا لأغلب البايات. لقد أراد بورقيبة أن تكون الأراضي للدولة في أفق تعصير سلطوي للاقتصاد والمجتمع. لم يكن استبداده نفعيا بل “مستنيرا”، لكنه يبقى على أيّ حال استبدادا: نظام سياسي تمثل فيه السلطة السياسية كل شيء و المواطنون لا شيء.
إنني أستدعي هذه المعطيات التاريخية لإنارة النقاش الحالي، بإبراز الاختلاف الجوهري الذي يميز الديكتاتورية عن الديمقراطية. فجميعنا يدرك معنى الديكتاتورية لأننا خبرناها. ولكن لا يبدو أنّ الأحزاب التي تحكمنا اليوم تعرف حقا معنى الديمقراطية، التي لا تعني تلاشي دور الدولة، ولكنها تتطلب تحويل هذا الدور على نحو تكون فيه الإدارة في خدمة المجتمع عوضا عن إخضاعه لحكمها المطلق.
ولا يمكن تصور الديمقراطية دون استقلالية الجسد الاجتماعيّ الذي يتحقّق أوّلا باستقلاله اقتصاديّا، وهو ما يفترض تمكين الأغلبية من حق الملكية، فلا تتحقق الديمقراطية دون مجتمع مدني، ولا وجود لمجتمع مدني ما دام المواطنون المكوّنون له – أو جلّهم- ليسوا سادة شروط وجودهم المادي. فالمواطنة لا يمكن أبدا أن تُبنى على الإقصاء.
ولا يحقّ للدولة في الديمقراطية، أن تتدخّل بين الأرض ومن يفلحها مثلما لا يحقّ لها منعه من أن يكون مالكها. وفي الديمقراطية ليس منْ حق الدولة أن تكون المالك العقاري الذي يحتكر أفضل المساحات الزراعية في البلاد أيّا كانت الذرائع القانونية أو الأيديولوجية التي تتعلل بها.
في الديمقراطية، عندما تحول القوانين السائدة دون امتلاك الفلاحين للأرض – وهي حالة مازالت مستمرة في الفترة الانتقالية باعتبار أنّ هذه القوانين موروثة عن النظام القديم – وجب تغيير تلك القوانين، وليس استخدامها في مواصلة قمع من يحتج عليها. فالفلاحون باسترجاعهم الأراضي الدولية لا ينتهكون القانون، وإنّما يؤسسون له.
منظومة فساد
تمرّ تونس بأزمة حادة تتجلّى في مختلف جوانب حياتنا الجماعية. وهي أزمة تعبّر عن إفلاس منوال تنموي، منه الفلاحة في مقام أول. حين نفكر في المسألة يتضح أنّ معظم صعوباتنا الاقتصادية والاجتماعية مرتبطة بتفقير وتهميش الريف، بسبب السياسة الفلاحية الرسمية.
- يتضح ذلك أوّلا في ضعف الإنتاج الفلاحي نفسِه، وخصوصا في انتاج الحبوب باعتبارها أساس الغذاء الشعبي (الخبز والسميد والعجين والدقيق…) إذ يبلغ استهلاكنا السنوي لمشتقات الحبوب 30 مليون قنطارا في حين تتراوح محاصيلنا بين 10 و 20 مليون قنطارا. وهكذا يبلغ عجزنا (حسب المواسم) ثلث احتياجاتنا ويصل أحيانا إلى الثلثيْن. وهو ما يعني أنّنا أبعد ما نكون عن تحقيق اكتفائنا الذاتي الغذائي الذي نعلم جيّدا أنّه الشرط الأوّل لاستقلال بلد ما. ولا يمكن تقديم تفسير أحاديّ لهذه النتائج السيّئة (الجفاف أو نوعية التربة أو الطرق الزراعية أو الاحتكار العمومي لأكثر الأراضي خصوبة الخ) ولكن ذلك يعود إلى عوامل عديدة. و أحد هذه العوامل يلعب دورا رئيسيا في تغذية التداعيات السلبية للعوامل الأخرى: إنّه سياسة الأسعار. فمنذ سنة 1956 تحتكر الدولة تحديد سعر بيع القمح والشعير وظلت هذه الأسعار منخفضة للغاية وهو ما جعل الزراعات الغذائية قليلة الأرباح والمردودية، وهو ما أبّد معاناة الفلاحين و زاد ظروفهم هشاشة. من البداهة أن ترتبط الأمطار بالعوامل المناخية، لكنّ الأسعار عندنا مرتهنة للسياسة الحكومية. فلماذا يتمّ تحديدها بهذا السعر المنخفض للغاية؟ يكمن سبب ذلك في الزبونية السياسية، إذ تمّ تحسين القدرة الشرائية في الفضاء الحضري منذ سنة 1956 على حساب الأوساط الريفية، فليس من محض الصدفة أن يندلع انفجار ديسمبر 2010 من الولايات الفلاحية.
- و مظهر الأزمة الثاني يتمثل في انتشار الاقتصاد الموازي. فتفقير الفلاحين المستمر ترافقه حركة هجرة داخلية دائمة من الريف إلى المدينة. وليس هذا النزوح ــــ كما تزعم الدعاية الرسمية علامة على حيوية الاقتصاد الحضري وجاذبيته ــــ بل هو دليل على عجز الاقتصاد الريفي على استبقاء أبنائه و على توفير لقمة عيشهم. فالفلاحون المُجتَثّون يغادرون الريف، غير أنّ المدينة لا تحتضنهم إذ يعجز أغلبهم عن ضمان السكن والشغل. لذلك يضطرون إلى الإقامة في أحزمة المدن التي سرعان ما تنقلب عشوائيّات غير صحية، ويعملون -ضمانا للبقاء- في دائرة الاقتصاد الموازي: التجارة السرية والتهريب عبر الحدود والاتجار بالمواد غير المشروعة الخ… و يمثّل الاقتصاد اللاّمشروع حوالي 50 % من الناتج الداخلي الخام حاليّا . وإذا كان النزوح في البداية ملاذا للسكان محدودي الدخل، فإنّ تعاظم هذه الظاهرة بات يشكل تهديدا مباشرا للصناعة الوطنية لأن معظم بضائع السوق الموازية متأتية من الخارج (الصين، إيطاليا، تركيا)
- و في مستوى ثالث، تبدو نتائج سياسة الدولة الزراعيّة في مجال حيوي آخر: وهو التأجير في قطاعيْ الصناعة والخدمات وخصوصا الإدارة، فالأجر الزهيد للعمل الفلاحي يسمح لها بالحفاظ على أجور منخفضة جدّا في الاقتصاد غير الفلاحي كذلك. مثال ذلك أنّ الأجر الأدنى الصناعي في تونس اليوم يساوي قرابة نصف مثيله في المغرب أمّا إذا قارناه بمعدّل الأجر الصناعي الأدنى في أوروبا فإنّ النسبة لن تتجاوز 10 %… إنّ سياسة الأسعار في الاقتصاد الزراعي، خصوصا أسعار الحبوب، ترتبط مباشرة بسياسة الأجور في الاقتصاد الحضري. في سياق رؤية زبونية تقتضي المعادلة إطعام أكبر عدد ممكن من أجراء المؤسسات والإدارة بأقلّ تكلفة، دون الأخذ بعين الاعتبار الأساسيات أوالعقلانية الاقتصادية. إنّ نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج، فسياسة الأسعار أدّت في نهاية المطاف إلى تحطيم تطور اقتصادنا الريفي وسياسة الأجور أدّت إلى تحطيم اقتصادنا الحضريّ. إنّ سياسة التأجير الغير لائق ولّدت في القطاعين تراجعا في قيمة العمل وأدى ذلك في كل المجالات إلى انخفاض الإنتاجية والمردود. إنّ هذه السياسة كانت مدخلا لفساد متعدّد الأشكال، لتعويض نقص المداخيل الشرعيّة.
- رابعا، تَظهر نتائج السياسة الزراعيّة أيضا في الضغوط التي تواجهها الأنشطة غير الفلاحية بسبب النتائج المتراكمة للعوامل السابقة. إذ يفترض تطور القطاع الثاني (الصناعة) والثالث (الخدمات) وجود طلب يستند إلى قدرة شرائية حقيقية، ويستتبع ذلك إذن سوقا داخلية فسيحة تتسع لاقتصاديات من الحجم الكبير وتعزز التنمية وتطوّر نمط المؤسسات. لقد ظل الطّلب على المنتجات الصناعيّة والخدماتيّة محدودا لأسباب هيكليّة، ذلك أن قاعدتنا الديموغرافية محدودة بطبعها، إذ لا تتجاوز 12 مليون ساكن، إضافة إلى عدد المعطلين وضآلة عائدات الفلاحين وتهميش سكان أحزمة المدن، وكذلك الكتلة الكبيرة للأجراء (يمثل هؤلاء مجتمعين أكثر من 80 % من السكان). لهذه الأسباب، تضطر مؤسساتنا أن تتنافس في سوق مختنقة، وهو ما يمنعها من أفق التقدّم التكنولوجي والنموّ المطّرد. أمّا المؤسسات المتوجهة نحو التصدير ،هروبا من ضيق السوق المحلية، تعترضها صعوبات أخرى. وقد ينجح بعضها، خصوصا في أنشطة المناولة، لكنها تفشل في التوجه نحو الخارج بشكل دائم دون أن تتوفر على قاعدة تراكم صلبة على الصعيد الوطني.
- خلقت الاخلالات المختلفة للنظام الاقتصادي محيطا ترعرعت في ظله كتلة من المضاربين و المافيوزيين، وليست مخلفاتهم خافية اليوم في مجالات حياتنا الوطنية. فلقد استفادوا من احتضان السلطة السياسية، ومن هشاشة الفئات الاجتماعية: الفلاحون، مهمشو أحزمة المدن، الأجراء وأصحاب المؤسسات المتوسطة والصغرى. حتّى تشعب الفساد تدريجيا فأصبح آفة مستفحلة في مساحات كبيرة من المجتمع ومؤسسات الدولة: الإدارة المركزية والمحلية، العدالة، الدّيوانة، الإعلام والبنوك العمومية.. الخ .ولئن ظهرت هذه الآفة منذ سبعينيات القرن الماضي في ظل حكومة الهادي نويرة فإنها بلغت أوجها مع بن علي عندما انقض جناح الطرابلسية على مقاليد الحكم. ولم تقض الهبّة الشعبية في 2010 – 2011 على الظاهرة، إذ لم تزد عن إرباكها مؤقتا قبل أن يتجدّد هذا الانحراف على نحو أخطر، لتتفاقم الفوضى الاقتصادية ويشوّه حياة الناس اليومية.
الطريق إلى الإصلاح
يقوم أي نظام اقتصادي في بناه القاعدية على مجموعة من العلاقات، فهو بمثابة هيكل مترابط الأجزاء. وسبق أن بيّنّا أنّ السياسة الزراعيّة أدّت إلى الهجرة من الريف وإلى التجارة الموازية ورأينا كيف دفع ذلك إلى سياسة الأجور المنخفضة. ثم أثبتنا أنّ هذه العناصر مجتمعة تساهم في إعاقة تطوير مؤسساتنا و تفسح المجال أمام تكوّن أوليغارشية من المضاربين المافيوزيين.
لقد استعَرت عبارة الهيكل المترابط، وهي صورة تحيل على هيكل خاص، إذ يتعلّق الأمر بحلقة مفرغة، كل سهو أو خطإ يرتكب في نقطة ما من الدائرة من شأنه أن يتمدد في النقاط الأخرى. هذا هو النظام الفاسد الذي استهدفتْه الهبّة الشعبيّة. فسقوط النظام الذي طالب به المتظاهرون يهدف إلى تفكيك هيكل البناء القديم وتعويض الحلقات المفرغة بأخرى فعّالة. ومن هذا المنطلق يتجلى الطابع الاستراتيجي اللمسألة الزراعية. فهي أم المسائل، وهنا تكمن العقدة المستعصية.
إنّ الأساس الاقتصادي للنظام القديم قائم على التفقير الممنهج للفلاحين. ولا بدّ للنظام الديمقراطي أن يقوم على سياسة تعيد للفلاحين حقوقهم وتجعل خدمة الأرض مجدّدا عملا مجزيا ومنتجا لأكبر عدد ممكن منهم. وحين نبدأ بهذه المعالجة، نمنح بلادنا إمكانيات تتيح تفكيك باقي أسس النظام القديم تدريجيا، للنهوض بباقي القطاعات و تذليل الصعوبات.
إنّ المسألة الزراعية هي قلب الثورة الديمقراطية. فعند إلغاء الاحتكارات الاعتباطية مثل احتكار الدولة للأراضي الأكثر خصوبة، واحتكارها تحديد أسعار الحبوب…الخ، لا ندمج فقط المجال الريفي في اقتصاد السوق، بل نمكّنه من القاعدة الدّيموغرافية الضروريّة لاشتغاله. وحين نطور الإنتاج الفلاحي و نحسّن مداخيل الفلاحين، تتوفر لدينا رافعة أساسية لزيادة الإنتاج في باقي القطاعات الاقتصادية ونرفع القدرة الشرائية لكل الفئات الاجتماعية. إنّ الديمقراطية يمكن إحلالها في بلد يهيمن عليه الفقر، ولكن لا يمكن المحافظة عليها بلا مخاطر إذا استمرّ تعميم الفقر.
هكذا يبدو حلّ المسألة الزراعية معبرًا ضروريا لا يمكّن فقط من تجاوز أزمة المنوال الاقتصادي القديم، بل يضمن كذلك استقرارا للنظام السياسي الجديد على المدى الطويل. إنّ العقبات التي يجب تخطّيها كثيرة ومعقّدة، إذ أكّدنا على مسألة الأراضي الدولية خاصة وسياسة أسعار الحبوب، بيْد أنّ هناك تحدّيات أخرى كثيرة .
و من هذه التحدّيات ، يمكن أن نذكر بإيجاز مشكل الموارد المائية الذي أشرنا إليه أو مسالك التوزيع، حيث تعشش مافيا من الوسطاء الذين ينخر ون بلا هوادة المنتجين الفلاحيين وكذلك المستهلكين الحضريين، إذ تهيمن اليوم هذه الشبكات على كلّ أسواق الجملة في الجهات. هذا فضلا عن معضلة البنية التحتية: نقص الطرق البرية والخطوط الحديدية، النقص الحاصل في القدرة على التجميع، محدوديّة طاقة مخازن التبريد ونقص وسائل النقل الملائمة … الخ.
هناك أيضا قضيّة تشتّت الملكية الصغرى، وهذا أمر ذو أهمية كبرى فيما يتعلق بأفق استعادة الأراضي الدولية، إذ يمكن لهذه الاستعادة أن تساهم في الحد من الظاهرة، أو على العكس قد تضخمها.. ففي صورة توزيع لا يقوم على التمييز، سنحتاج إلى التحكيم الأفضل بين ضرورتين ليس من اليسير المصالحة بينهما: ضرورة العدل وضرورة النجاعة. و من المنطقي أن حكومة قوية تحظى بشرعية شعبية وحدها يمكن أن تفرض مثل هذا التحكيم.
من الواضح أنّ استكمال إدماج الريف التونسي في الدورة الاقتصادية يتطلب عملا شاقا، و واضح أيضا أنه يتطلّب استراتيجيا محكمة، مثلما يستوجب إرادة سياسية قوية وقدرة على الإقناع وتعبئة المعنيين بالأمر في المقام الأول. فهل ترتقي السلطة الحالية إلى مستوى إنجاز هذه المهام؟ إنّ ردود فعلها الأولية إزاء قضيّة جمنة تبعث على الشك !
في واقع الأمر نحن أمام إمكانيتين: إمّا أن نبذل الجهد للاستماع إلى المطالب المشروعة للفلاحين وإمّا أن نستمرّ في صم آذاننا عن مطالبهم و نستثير قوانا للمحافظة على الوضع القائم. في الحالة الأولى فإنّ البلاد ستتقدم في إطار الوحدة بمسؤولية وانضباط و تتعزز القواعد المادية للديمقراطية بأقل التكاليف. أما في الحالة الثانية فستنقسم البلاد وسيؤجج القمع وتيرة الفوضى والإخلال بالنظام وستتراكم الخسائر. في النهاية، وفي كلتا الحالتين، فإنّ التغيير سيأتي رغم كل شيء، لأنّ التغيير أصبح في أعماق الجسم الاجتماعي ولا شيء -مثلما لا أحد- بمقدوره مستقبلا أن يوقفه. و لن تفلح المعارك البالية في عرقلة مسيرة التاريخ .
عزيز كريشان
أكتوبر 2016
هوامش
- جمنة هي واحة تقع في ولاية قبلي بالجنوب التونسي. سطا عليها المعمّرون زمن الاستعمار وتمّ تأميمها سنة 1964 مع الجلاء الزراعي، وكان سكان الواحة فاوضوا آنذاك الوالي حول استعادتها مبرزين حقّهم في ملكية أراض انتزِعت منهم. وتمّ آنذاك إمضاء وعد بالبيع وجمع السكان نصف المبلغ المطلوب وهو ما سمح لهم بايداع مبلغ 80 ألف دينار كتسبقة. ثمّ أنكرت السلطات الاتفاق، محوّلة المبلغ المجموع إلى أسهم لا قيمة لها في شركات شبه حكومية. وتمّ إثر ذلك منح الواحة إلى فرع من فروع شركة ستيل (الشركة التونسية لصناعة الحليب) التي اختصت في إنتاج التمور وتصديرها. وفي سنة 2002، وإثر إفلاس هذه الشركة تم تأجير الواحة لمدة 15 سنة لمستثمريين مقربين من عائلة الطرابلسي أصهار بن علي. وبدأ اعتصام الفلاحين بالواحة لاسترجاعها في 12 جانفي 2011، أي يومين فقط قبل فرار بن علي.
- نفس الأمر فيما يخص النهب الذي استهدف الممتلكات، والتي تمّ تسجيلها أثناء انتفاضة ديسمبر 2010 – جانفي 2011، فهي لم تستهدف أبدا الأغنياء باعتبارهم أغنياء بل فقط أولئك الأغنياء المحيطين ببن علي وكانت ثرواتهم متأتية من الابتزاز والمحسوبية التي كان هذا التقرب يسمح بها.
- Aziz Krichen, La promesse du Printemps [وعد الربيع], pp 388-416, Script Edition, Tunis, 2016.2016.
جمنة رمز العزة .. و دون مقاومة إجتماعية و صمود شعبي ضد منوال رأس المال، معركة الكرامة و الديمقراطية ستبقى مختزلة في أشياء بسيطة .. ثورة العقول الحقيقية تمر من جمنة .. لا معنى لثورة العقول دون منوال تنموي جديد يغير السلوكيات على كل المستويات .. المعركة ضد الديكتاتور ربحها الشعب في سيدي بوزيد و تالة و العقارب و القصرين و صفاقس ، … و ثورة العقول بدأت في جمنة . لا كرامة دون ديمقراطية ، و تونس الديمقراطية تكبر و تبنى و تتجذر بتونس الكرامة .
قضية جمنة هي عمق الحرب على الفساد .. فساد التصرف ، فساد المنوال ، فساد توزيع الثروة … الحكومة الحالية لا تحمل هم التغيير المنشود .. على أبناء الجهات أن يستمروا في النضال الدائم من أجل كسب التغيير .. لا مفر من منوال تنموي جديد يضع الكرامة و الديمقراطية و التشاركية في عمق تأسيسه و ترشيده ..