في انتظار استئناف جلسات الاستماع العلنية لضحايا انتهاكات حقوق الانسان، سجّلت الجلسات الأربع السابقة في الذاكرة الجماعية للتونسيّين، مئات الصور لقساوة النظام السابق والمدى الذّي وصل إليه في التعامل الوحشي مع معارضيه من جميع الأطياف السياسيّة. بدأ من مرحلة الإيقاف مرورا بالتحقيق وصولا إلى العقوبة السجنية، سرد الضحايا قصص الإعتداء اللفظيّ والبدني وانتهاك حرمات أجسادهم والتفنّن الذّي مارسته أجهزة النظام في إذلال ضحاياه والمسّ من كرامتهم. عذابات هؤلاء لم تنته بخروجهم بانتهاء مرحلة الإيقاف أو السجن، بل تواصلت في شكل ما كان يعرف بالعقوبة التكميليّة، أو التعذيب الناعم عبر فرض ما اصطلح على تسميته قانونيا بالمراقبة الإداريّة.
المراقبة الإداريّة: استكمال التعذيب النفسي
تقوم “المراقبة الإدارية” على إجبار السجين السياسيّ المسرّح على الحضور الإجباري إلى مركز أمني أو أكثر بقصد الإمضاء في سجلات الحضور وتعميمها دون أن تصدر في حقّ المعنيّين أحكم قضائيّة بالخضوع إلى هذا الإجراء.
محرزية بن العابد، سالم كردون، عبد الله بن صالح أو حميدة العجنقي، وغيرهم ممن لم تتح لهم الفرصة للحديث علنا عن مآسيهم، لم يُسقطوا من ذاكرتهم خلال سنوات المتابعة الأمنية مرحلة المراقبة الإداريّة التّي لم تنل الاهتمام الكافي أسوة بأساليب التعذيب البدني. من جحيم غرف التحقيق والإيقاف، مرورا بالسجون، استمرّت عذابات هؤلاء بعد خروجهم ليخضعوا لحصار انعكست قساوته على تعابير وجوهم وهم يتناولون تلك الفترة. الضرب، والتنكيل والإهانات اللفظيّة وصولا إلى التدخّل في أدقّ شؤون حياتهم اليوميّة، ممارسات تلخّص طبيعة “العقوبة التكميليّة” التي تهدف إلى كسر المعنيّين وإذلالهم وعزلهم تماما عن محيطهم عبر عمليّة ضغط نفسيّ ممنهج ومكثّف.
عقوبة المراقبة الإدارية لم تكن أسلوبا جديدا ابتدعه نظام بن عليّ، بل يعود إلى حقبة الاستعمار الفرنسيّ. حيث كانت السياسة الاستعماريّة تقوم على عزل النشطاء السياسيّين عن محيطهم عبر إخضاعهم إلى المراقبة المتواصلة وتعطيل اختلاطهم بالناس بالترهيب أو بالمتابعة اللصيقة التّي تفرض حصارا خانقا يحول دون استئناف حياتهم العاديّة. أسلوب أثبت نجاعته ليعتمده نظام الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة منذ سنة 1962 عقب ما عُرف بالمحاولة الانقلابيّة، لتشمل فيما بعد عددا من اليساريّين والإسلاميين والقوميّين طيلة سبعينات وثمانينيات القرن الماضي. وبعد وصول بن عليّ إلى الحكم لم يكن هذا الأخير استثناء، إذ عمد بدوره إلى أسلوب المراقبة الإدارية عقب المحاكمات السياسيّة لأعداد كبيرة من الإسلاميين واليساريّين في تسعينات القرن الماضي، وتتوسّع لاحقا لتشمل كلّ من تدور حوله شبهة العمل السياسي عقب سنّ قانون الإرهاب سنة 2003.
إذلال حتّى الموت
ورغم الطابع “المسالم” لهذه العقوبة التي يبدو ظاهرها مرتبطا بتشديد الرقابة وحصر المجال الزمني والمكاني لتحرّكات من هم في موضع اشتباه، إلاّ أنّ ممارسات الأجهزة الأمنيّة خلال تنفيذ هذا الإجراء كانت تحمل الكثير من الإهانة والإذلال. الشهادات التي تمّ استعراضها خلال جلسات الاستماع العلنية لضحايا انتهاكات حقوق الانسان، إضافة إلى التقارير الصادرة عن المنظّمات المعنية بحقوق الانسان والحريات الأساسيّة، نقلت قساوة عقوبة المراقبة الإداريّة وميكانيزمات تنفيذها لدى الدوائر الأمنية في تونس.
في مارس سنة 2010، أصدرت الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيّين، بالتعاون مع موقع “نواة”، تقريرا مفصّلا عن المراقبة الإدارية في تونس بعنوان “مواطنون تحت الحصار”. دراسة تضمّنت شهادات لضحايا هذه العقوبة وأمثلة موثّقة لارتداداتها النفسيّة وانعكاساتها على حياة المساجين السياسيّين عقب تسريحهم من مراكز الإيقاف أو السجون.
التقرير المذكور، رصد من خلال بعض الحالات مدى قسوة هذا الإجراء الذّي دفع عبد الرزاق بربرية من مدينة ينزرت إلى الانتحار. الإهانة اليومية عبر الضرب والشتائم من قبل أعوان الأمن دفعت هذا الأخير إلى الإنتحار شنقا في 12 نوفمبر 1997. عبد الرزّاق بربرية لم يكن حالة استثنائيّة لشخص فقد القدرة على التحمّل تحت وطأة ضغط المراقبة الإداريّة، فمحمد علي فداي، الموظف بالشركة الجهوية للتوريد والتصدير ببنزرت، حوكم سنة 1994 بتهمة الانتماء إلى جمعية غير مرخصة وبعد سجنه سنتين وستة أشهر، أجبر عقب إطلاق سراحه على الخضوع للمراقبة الإدارية ليخضع كما في الحالة السابقة إلى شتّى الممارسات المهينة في مراكز الأمن، وليُصاب بمرض عصبي لم يشفع له لإيقاف التتبع الأمني الذّي حال دون إجراءه الفحوص والعلاجات اللازمة. في ديسمبر من سنة 1996 عمد محمد علي فداي إلى انهاء معاناته بإلقاء نفسه من أعلى سور المدينة.
قائمة تطول من ضحايا “العقوبة الناعمة” التّي تركت في أذهان من سُلّطت عليهم رعبا وذكريات لم يتمكّن بعض من أتيحت له الفرصة ليرووها في العلن من إخفاء آثارها النفسيّة التي جعلت منهم سجناء معزولين في سجن افتراضي أشدّ قساوة من حجرات الإيقاف والزنازين.
المراقبة الإدارية دمرت حياتي