ثلاثة أحداث مُهمة عرفتها الحياة السياسية نهاية الأسبوع الفارط وبداية الأسبوع الجاري، ستكون محددة في تشكيل التوازنات السياسية والانتخابية المقبلة: حركة المعتمدين التي أعلن عنها رئيس الحكومة يوسف الشاهد يوم الجمعة الفارط، انعقاد مجلس شورى حركة النهضة أواخر الأسبوع، ثم تلتهما المصادقة على مشروع قانون الانتخابات والاستفتاء يوم الثلاثاء المنقضي بأغلبية مريحة بعد تعطله سنة منذ إيداعه بمجلس النواب.

بعيدا عن اعتباطية التزامن تنتظم العلاقة بين هذه الأحداث داخل شبكة من المصالح السياسية والحزبية التي يحكمها منطق التسويات والصراع. من هذا المنطلق ارتبطت حركة المعتمدين بالتسريع في المصادقة على القانون الانتخابي لأنها أوجدت تسوية بين نداء تونس وحركة النهضة حول الصراع المستعر داخل أجهزة الدولة. وهكذا ضمن اللاعبان الكبيران حظوظا شبه متقاربة في خوض الانتخابات البلدية المقبلة التي سيكون لها أثر كبير في تشكيل ملامح سلطة ما بعد 2019.

إرضاء النهضة مقابل إعتاق قانون الانتخابات

في الوقت الذي كانت فيه حركة النهضة تعقد الدورة الثامنة لمجلس شوراها يوم الجمعة 27 جانفي 2017، أعلن رئيس الحكومة يوسف الشاهد في نفس اليوم عن نُقل وتعيينات جديدة في سلك المعتمدين، شملت 114 معتمدية من ضمنهم أكثر من 80 تعيين جديد. كان نصيب حركة النهضة منها حوالي 24 معتمدا مقابل 35  لنداء تونس. القبول بهذه الحصة من التعيينات الجديدة ضمّنته الحركة في بيانها الختامي لمجلس الشورى، الذي ورد مُثقلا بالتأييد السياسي لحكومة يوسف الشاهد بخصوص بعض القضايا من بينها التنمية والاستثمار الاقتصادي و”ملف العائدين من بؤر التوتّر الإقليمية”.

الإشارة السياسية الأكثر دلالة على القبول بهذه الحصة جسّدها موقف الحركة المنفتح بخصوص المصادقة على مشروع قانون الانتخابات والاستفتاء من خلال “التنصيص على مواصلة الحوار والتشاور مع بقية الكتل قصد التوافق حول أفضل الخيارات”، حسب ما ورد في بيان مجلس الشورى. هذا الموقف الجديد يتناقض مع الدور الذي لعبته الحركة في تعطيل مشروع القانون داخل لجنة النظام الداخلي وخلال الجلسة العامة التي التأمت منتصف شهر جوان 2016، من خلال معارضتها للفصل 6 مكرر المتعلق بالسماح للأمنيين والعسكريين بالمشاركة في الانتخابات المحلية والجهوية.

الترجمة العملية لهذا القبول جسدته اتجاهات التصويت حول الفصل المذكور، حيث اختارت كتلة حركة النهضة التصويت لفائدته خلال الجلسة العامة يوم الثلاثاء 31 جانفي 2017. جاء هذا التحول بناءا على الوضوح النسبي للأفق الانتخابي بعد الخوف الكبير الذي كانت تحمله الحركة إزاء نزعة الهيمنة على مفاصل الإدارة وأجهزة الدولة المتضخمة لدى منافسها المباشر، نداء تونس، وقد تبدّد هذا الخوف بعد حركة المعتمدين التي ضمنت للحركة تمثيلية ملائمة بالإمكان توظيفها في الانتخابات البلدية المقبلة. وفي نفس السياق تلقت الحركة تطمينات سياسية من حليفها بخصوص مشاركة الأمنيين والعسكريين، هذا الخزان الانتخابي الجديد الذي إن لم تضمن الحركة السيطرة على جزء منه فإنه في كل الأحوال لن يُستخدم ضدها.

 نداء تونس: تسوية أزمة داخلية تحت مظلة الوحدة الوطنية

النصف الآخر من مساحة المعادلة يشغله حزب نداء تونس، الذي تتجدد فيه أقنية المصالح على ضوء حروب الإزاحة الداخلية التي يشهدها منذ تسلمه مقاليد الحكم. هذا الحزب الذي ورث المنظومة السياسية لحزب الدستور وجزءا من حرسها القديم، يسعى إلى توظيفها كاستراتيجا جديدة للهيمنة على المجال السياسي، ويتجدد القديم بوضوح من خلال المحافظة على مبدأ التماهي بين الدولة والحزب، ومن خلال توظيف إيديولوجيا “الوحدة الوطنية”.

لكن يبدو أن مقولة “الوحدة الوطنية” يتم التخلي عنها كل ما تعلق الأمر بالصراع الانتخابي، إذ يعيد قادة نداء تونس تذكير الرافضين للتعيينات الإدارية في كل مرة بنتائج صناديق الاقتراع لسنة 2014 التي “منحت الأغلبية لهم دون سواهم”، في هذا الاتجاه صرح سفيان طوبال رئيس الكتلة البرلمانية لحزب نداء تونس  “من الطبيعي أن الأحزاب الماسكة بالحكم هي التي تعين وفقا لنتائج الانتخابات”. تتعارض هذه الحجة مع العديد من الوقائع السياسية والحزبية، من بينها أن حكومة يوسف الشاهد التي أشرفت على هذه التعيينات تشكلت من خارج المسار الانتخابي، وضمن مسار جديد أصبح يُطلق عليه في الاصطلاح السياسي التونسي “منظومة التوافق”، هذه المنظومة التي يتم استخدامها من أجل حل أزمات الحكم. هذا إضافة إلى الحالة الانقسامية المزمنة التي بات يعيشها حزب نداء تونس، وجعلت خزانه الانتخابي ورصيده السياسي موزعا بين تنظيمات سياسية ولوبيات مالية مختلفة.

اندراج التعيينات الجديدة ضمن الاستعداد الحَملاتي للانتخابات المقبلة لم ينفه سفيان طوبال، مشيرا في ذات التصريح إلى أن “المعتمدين الجدد من أبناء نداء تونس سيسهرون على نظافة البلديات وتسيير شؤون المواطنين، وإذا اُعتبِر هذا الأمر حملة انتخابية فنحن لا نمانع في إطلاق هذه الصفة طالما أن الأمر فيه مصلحة للمواطنين”. يعكس هذا الكلام صراحة مبالغ فيها من رئيس الكتلة البرلمانية، وينم عن حقيقة الفهم السياسي لدور المعتمد في الأشهر القادمة، إذ سيشكل مدخلا لخلق مزاج انتخابي جديد مُوال لحزب نداء تونس من خلال القيام بأعمال النظافة والتسيير اليومية وتسهيل الإجراءات الإدارية والمواطنية المعطلة. وسيَسهُل على المعتمدين القيام بهذا الدور خصوصا وأن بعضهم يترأس نيابات خصوصية وبعضهم الآخر يستعد لذلك بعد حل النيابات الخصوصية المتبقية في المدة القادمة.

هذا الفهم قاد رئيس الكتلة البرلمانية لحزب نداء تونس إلى التأكيد أن حزبه سيجري اجتماعا بـ”أبنائه” الذين شملتهم حركة المعتمدين من أجل توجيههم وإحاطتهم علما بمهامهم. التداخل المنهجي بين المهام الحزبية والوظائف الإدارية لم يترك مجالا لسفيان طوبال للتأمل في التجاوز القانوني الذي ارتكبه والذي يقع تحت طائلة الفصل السابع من المرسوم عدد 87 لسنة 2011 المتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية، الذي يمنع الولاة والمعتمدين الأول والكتاب العامين للولايات والمعتمدين والعمد من الانخراط في أحزاب سياسية. ولعل المجاهرة بالارتباط بين الحزب وأجهزة الدولة قولا وفعلا يكرس استمرار النهج القديم في توظيف الوسائل والموارد العمومية لفائدة القائمات الانتخابية للحزب، والذي يحجره  الفصل 53 من قانون الانتخابات والاستفتاء.

السلوك الانتخابي لنداء تونس يندرج ضمن المسار الجديد الذي يلعب فيه كل من رئيس الحكومة يوسف الشاهد –المرشح الأبرز لرئاسة النداء- والرئيس الباجي قايد السبسي دورا كبيرا من أجل إعادة الوزن الانتخابي إلى ما تبقى من الحزب، والذهاب بحرب التصفية الداخلية إلى أقصاها من خلال خلق حالة استقرار في المواقع داخل أجهزة الحزب وداخل أجهزة الدولة.