بعد رحلة دامت نحو ست ساعات انطلاقا من العاصمة تونس ومرورا بتوقف قصير بعاصمة الولاية سيدي بوزيد ، قذفت بنا الحافلة إلى أحضان جمع من المكناسيين ( أولاد المكناسي) أمام قصر البلدية، الذين يواصلون احتجاجاتهم تحت لافتة ”العصيان المدني“ منذ نحو شهر كامل.  وما إن ترجلنا صوب المحتجين ، وهم يصدحون بأغنيات الحقوق الاجتماعية والثورة، حتى أخذتني رائحة البلاد البعيدة وقد صارت قريبة في متناول اليد والأنف والقلب. هي تماما رائحة الفلاحين في بلادي مصر. ذاتها هي رائحة العرق الممزوج بالتعب والمعاناة وبتراب الأرض. ولكن أيضا بالرغبة في التمرد والتغيير والخلاص.

تصوير: جوليا بيت

بعد ست سنوات من الثورة التونسية التي اندلعت من هنا (سيدي بوزيد) يمكنك أن تطالع في المكناسي هذه العبارة مكتوبة باليد و بلون الفحم الأسود على نصب لا يحمل أي معنى أو شكل في ميدان بقلب المدينة : ”تسقط دولة البوليس“. هكذا على بعد نحو 320 كيلو مترا من مقر وزارة الداخلية العملاق المتجهم الخالي من أي جماليات معمارية قرب برج الساعة ”البيج بينية“ (المنقاله) التي ينتهي إليها شارع الحبيب بورقيبة ”الباريزي“ حيث يختلط الشرطيون والشرطيات بكثافة ـ و في ملابسهم السوداء والرمادية الأنيقة جدا ـ بكل مظاهر الحداثة  البراقة. لكن عبارة ”تسقط دولة البوليس“ المشهرَة كسيف يعلن عن ”حالة ثورة“ في مدخل مدينة فلا حية لا يزيد عدد سكانها عن 25 ألفا  هي أيضا على بعد عدة أمتار من مركز الحرس الوطني. وسيكون بإمكان الزائر لنصف يوم إلى المكناسي ـ كما هو حالي وزملائي الصحفيين مع مبادرة تضامن من المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ـ أن يلاحظ غياب أي شرطي بملابس رسمية. لكن من تحدثت إليهم من أهالي المكناسي المشبعين برائحة عرق الفلاحين ابلغوني أن قوات الأمن تظهر بملابسها وسياراتها وعتادها وقنابل غازها (الكريموجان) ليلا. وكما يبدو فإن القوات المُستجلبة من خارج المعتمدية والتي دخلت في مواجهات ليلية مع المحتجين المكناسيين منذ ديسمبر الماضي، مع اقتراب ذكرى إحراق البوعزيزي نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد 17 ديسمبر 2011، تترك النهار للاحتجاج الجماهيري بما في ذلك إغلاق مقرات سلطة الدولة ومحاصرتها وشلّها عن العمل. كما أبلغني المكناسيون أن أبناء المدينة وقُراها من رجال الشرطة حاضرون بملابس مدنية في كل وقت. ووفق ماقاله الناشط النقابي المستقل كمال علوي : ”نحن أهلهم وإخوانهم… وهم حولنا وبيننا لكنهم لا يتدخلون فيما نفعل“.

لا أحد هنا على باب قصر البلدية وحولها ـ  أحد من رموز سلطة الدولة ـ غير الناس، تُنفّس عن غضبها وتنثر أحلامها البسيطة في مواجهة مبنى موصد أصم علقوا عليه لافتاتهم، وأبرزها وفي الواجهة :”عصيان مدني بالمكناسي“. هكذا لا أحد من المسؤولين. وحتى المعتمد نفسه غائب. سألنا عنه كي نلتقي به ونستفهم منه فعلمنا أنه غادر أو بالأصل مغادر. وكما أبلغنا غير مصدر من الأهالي فإن إغلاق البلدية ومعها مختلف المرافق العمومية عدى التعليمية والصحية بدأ مع إعلان الدخول إلى العصيان المدني منذ 30 ديسمبر 2016 وانتشر بحلول 12  جانفي 2017 بعد المواجهات بين شباب المكناسي وقوات الأمن عند مقر ولاية سيدي بوزيد. لكن يجرى فتح هذا المرفق أو ذاك بين يوم وآخر لبضع ساعات كي لا تتضرر مصالح المواطنين .

أمام قصر البلدية

أمام قصر البلدية وبين الغضب والحلم تصدح أغنيات تنشدها فرق راب موسيقية  محلية  شبابية تتجاوب معها الجموع المحتجة فتوحّدها وتخرجها ـ ولو إلى حين ـ عن ضجيج نقاشات جانبية بلا حصر. ويمكن أن تميز بينها أغان التمرد والثورة بالمشرق العربي، بما في ذلك أغنيات الشيخ إمام وأشعار أحمد فؤاد نجم. عندما تنخرط في النقاشات الجارية حين يصمت الغناء أو يأخذ هدنة تكتشف بسهولة الروافد الأربعة لائتلاف الحركات الاجتماعية التي رفعت شعار ”العصيان“، وهي تعلن بدورها عن معاناتها ومساراتها النضالية قبل وبعد أن تتقاطع . تقاطع يحمل إشارات الائتلاف والوحدة . وأيضا المقاطعة والتشويش في البوح بالألم والمعاناة واحتمالات الفراق.

فهنا أولا اعتصام حركة ”هرمنا“ للمعطلين عن العمل من حمَلة الشهادات العليا الذي بدأ قبل نحو عام كامل وتحديدا في 3 فيفري 2016. وثانيا اعتصام المعطلين ممن اجتازوا مناظرة الالتحاق بالعمل في منجم الفسفاط. وثالثا اعتصام عمال وموظفي التشغيل الهش المسمّى بـ”الحظائر“ و رابعا احتجاج الفلاحين الذين يطالبون بالحق في ملكية أراضي الدولة التي زرعوها منذ الستينيات.

المكناسي تسجل وفق الإحصاءات الرسمية أعلى معدل بطالة بين معتمديات ولاية سيدي بوزيد الإثنتي عشر بنسبة 31 في المائة . فيما تسجل سيدي بو زيد بأسرها نسبة 17,7 في المائة متدهورة عن المتوسط الوطني في كل عموم تونس بنحو ثلاث نقاط ( 14,9 في المائة ). ولأنه بعد ست سنوات من الثورة لم تشهد المكناسي افتتاح مشروع إنتاجي واحد يستوعب طاقة العمل المتوافرة هنا، فإن الخريجين لا يجدون سوى سلطة الدولة كي يطلبوا منها حق العمل . ويقول محمد زارعي، 40 عاما، معطل متخرج جامعي دَرس الفنون الجميلة : ”عام كامل في اعتصام هرمنا … استنفذنا كل السبل السلمية في عاصمة الولاية سيدي بوزيد وفي العاصمة تونس دون أن ننال التشغيل في الوظيفة العمومية“. ويُقدر زارعي  أعداد المنخرطين والمعنيين باعتصام ”هرمنا“ بنحو 1500 من شباب المكناسي .


يعلق بالذهن من لقاء أجريته في 16 ديسمبر 2015 مع والي سيدي بوزيد، مراد المحجوبي، بمقر الولاية ما نشرته في حينه بصحيفة الأهرام  وعلى هذا النحو : ”لم تكن أعداد ونسب المعطلين عن العمل حاضرة في ذهن الوالي عندما سألت . لكنه ابلغني بعد أن سأل معاونيه بأن النسبة هي 17,7 في المائة بالولاية. وأضاف أن عدد العاطلين يبلغ 7900 . وعاد واتصل هاتفيا بعد أن غادرت ليقول بأنهم 24 ألفا، من بينهم الرقم السابق من حَملة الشهائد العليا“. لكن هاهو جمال الصغروني، المنسق الجهوي بسيدي بوزيد لاتحاد المعطلين عن العمل، يبلغني خلال زيارة المكناسي أن عدد المعطلين من حَملة الشهائد العليا في الولاية نحو 17 ألفا وبأنه لا يوجد تقدير بإجمالي المعطلين في الولاية ، وإن كانت نسبتهم كما قال تتخطى العشرين في المائة . ويؤكد: ”كما كان الحال قبل الثورة لم تعرف المكناسي بدورها مشروعا واحدا جديدا… وعلى أي حال فإن القطاع الخاص لا ينتدب أصحاب الشهائد حتى لا تترتب عليه التزامات مالية بما في ذلك التأمينات الاجتماعية، وهو يفضل اعتماد التشغيل الهش… أما الدولة فهي غير قادرة على القيام بدورها في التنمية. .. بل لدينا دراسة تكشف أن معظم الإدارات العمومية بها أماكن عمل شاغرة.“

المكناسي جامعة لمفارقات التهميش

وعلى خلاف ما يتمناه الصغروني ورفاقه عندما التقيته في المكناسي يبشر الخطاب الرسمي في العاصمة بتقليص وخفض عدد موظفي الدولة بناء على نصائح صندوق النقد الدولي من نحو 800 ألفا إلى ما دون 700 ألفا حتى عام 2020. وتبدو المكناسي في ذاتها جامعة لمفارقات غياب التنمية وفرص العمل. فالاقتصاد هنا مازال زراعيا فلاحيا بامتياز يكاد يعتمد على محصول واحد هو الزيتون. وناهيك عن هذا فإن الزراعة غير سقوية تعتمد على موسم الأمطار  المتقلب من عام لآخر. لكن الأكثر غرابة أن المكناسي والى حينه بلا مصانع أو حتى معاصر بدائية لتحويل ثمار الزيتون إلى زيوت. وحيث بالجملة لا مصانع و لا طرق ولا مسالك معبدة تُعين على تسويق الإنتاج الفلاحي وتنميته. يتعلق أبناء الفلاحين بحلم الانتداب في وظيفة عمومية، تعينهم على شظف العيش وضيق حظوظه. ولعل الإنقاذ وحبل النجاة هنا كما في أرياف مصر هو أن تصبح نصف فلاح / نصف موظف كي تستطيع أن تعيل نفسك وأسرتك.

وثمة استثناء كالسراب ينفلت من هذا القدر الاقتصادي البائس الخانق. هنا على بعد نحو كيلومترين من المكناسي  يوجد مصنع للجبس. وبالطبع ليس بإمكانه إلا تشغيل أعداد محدودة، تُقدر بنحو ثمانين عاملا. وهنا أيضا وعلى بعد نحو 18 كيلومترا من المدينة، منجم فسفاط مع إيقاف التنفيذ والتشغيل . ولذا فهو هنا وليس هنا بعد. ووفق رواية الصغروني فإن هذا المنجم يتبع شركة فسفاط قفصة وكان يعمل لسنوات زمن الاستعمار الفرنسي، لكنه توقف عن الإنتاج مع الحرب العالمية الثانية وإلى الآن. ويحيط بعودته للإنتاج ـ وفق وعود حكومات مابعد الثورة وكي يشغل نحو ألفا من أبناء المكناسي  ـ تعقيدات بعضها يتعلق بشراء مساحات الأراضي من الأهالي وبخلاف حول أسعارها. لكن على غير الوعود المبذولة بالألف عامل وموظف، دعت الشركة شباب المكناسي الى مناظرة لتشغيل نحو مائة فقط. ويقول سمير قاسم، 40 سنة :

الوعد بتشغيل المنجم جاء بعد عام واحد من الثورة… تقدمت للمناظرة وجرى الإعلان عن اسمي بين قائمة الناجحين في 16 مارس 2016 … لكن حدث تلاعب بالقائمة عدة مرات وتم استبدال أسماء بأخرى وتخفيض لأعداد الناجحين المقبولين بنسبة الثلث… حتى الآن لا منجما يعمل ولا تشغيلا رأينا.

وتحفظ ذاكرة أهالي المكناسي ما رواه يوما لي الأمين بوعزيزي وعبد السلام حيدوري من أبناء سيدي بوزيد. فبحلول يوم 20 ديسمبر 2010 ـ أي ما بعد إحراق محمد البوعزيزي نفسه أمام مقر الولاية هناك في عاصمتها بثلاثة أيام فقط ، أغلق الشباب ـ ومعظمهم من المعطلين ـ الشارع الرئيسي بمدينتهم وأوقفوا الحركة على خط السكك الحديدية بين ولاية قفصة الغنية بالفسفاط وتونس العاصمة مُستخدمين ذات الأسلوب الذي جرى في انتفاضة الحوض المنجمي عام 2008. ببساطة جلسوا فوق قضبان السكك الحديدية واعتصموا على هذا النحو 2. وفي 10 يناير 2017 تحول قاسم مع رفاقه المعطلين الناجحين المستبعدين والحالمين عاما بعد عام بالعمل في منجم الفسفاط بالمكناسي إلى عاصمة الولاية صحبة مشاركين في اعتصام ”هرمنا“ و عمال الحظائر كي يستدعوا شعار ”ديقاج“ (ارحل) ويرفعوه في مواجهة الوالي ويقتحموا مقر  الولاية. بعض وسائل الإعلام من العاصمة استخدمت مصطلح ”أعمال التخريب“، فيما خرج رؤساء تحرير وكتاب رأي بتحذيرات من ”جانفي الصعب“ متخوفين من انتشار الاحتجاجات. وقد أخذوا في عد الأيام واستعجالها لينتهي شهر الانتفاضات. وكما لاحظت نبيهة جوادي، من سكان المكناسي، حين تقول : ”نحن هنا في قلب خريطة تونس … المكناسي في الوسط تماما. وهم يخافون من انتشار الحراك الاحتجاجي الاجتماعي بطول البلاد وعرضها. لذا فإن وسائل الإعلام سعت إلى فرض تعتيم على ما يجرى عندنا … بل و إلى تشويهه واتهامه بانتهاج العنف“. لكن ”العنف“ هو الذي اشتكي منه شباب المكناسي. ويقول الصغروني : ”السلطات المحلية تتعامل بنفس أسلوب بن على … هي لا تملك سوى المعالجة الأمنية … لقد اعتدوا على الشباب يوم 12 جانفي أمام مقر ولاية سيدي بوزيد بالغاز والهراوات … بل وانضم للاعتداء ميلشيات بملابس مدنية تضم منتمين لحزبي نداء تونس والنهضة، الحليفان الرئيسيان في الحكومة.“

ولا تتوقف علامات التوتر في سيدي بوزيد مع سلطة الدولة عند حد الاختلاف مع العاصمة في التأريخ ليوم الثورة : أهو 14 جانفي أم 17 ديسمبر والغضب على عدم الاعتراف بالأخير عيدا وطنيا رسميا. فقد طرد الأهالي ثلاثة ولاة على مدى سنوات ما بعد الثورة. ولذا قد يعد بقاء الوالي الحالي المحجوبي في موقعه لنحو عامين معجزة أو ربما حلقة في مسلسل عناد من رؤساء جمهورية وحكومة وبرلمان لا يذهبون مطلقا إلى هناك ولو في 17 ديسمبر منذ ”الاستقبال الحار“ إلى حد إلقاء الحجارة على رؤساء حكم ”الترويكا“ عام 2012. واللافت أن العديد من المتحدثين على المنصة في مقر اتحاد الشغل بالمكناسي بنهاية يوم زيارتنا الميدانية تبنوا مشروعية اقتحام مقر الولاية. كان منطقهم واضحا بسيطا، ومفاده أن السلطات تنتهك الدستور بتجاهل النص الذي يلزم الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية والتمييز الايجابي للجهات المحرومة والمهمشة تاريخيا وإلى حينه 3. ولذا فإن من حق الأهالي المواطنين ـ في المكناسي وغيرها ـ أن ينتهكوا القانون سواء باقتحام مقر ولاية أو محاصرة المرافق العامة وإغلاقها وبإعلان العصيان المدني. وهكذا ببساطة ووضوح عندهم : سننتهك القانون طالما استمر انتهاككم للدستور. وبلغة النخبة قد يعنى هذا ”سقوط العقد الاجتماعي الذي بشرت به الثورة“.

وعلى أي حال، فقد سارعت الحكومة بإطلاق خمسة شباب بعد سويعات معدودة من احتجازهم في واقعة اقتحام مقر الولاية. واستخدم رئيسها يوسف الشاهد خطابا لينا متفهما بعض الشئ حين اعترف بالحق في الاحتجاج السلمي و بفشل الحكومات المتعاقبة من تجسيد الأهداف الاجتماعية للثورة، وإن تخوفت منظمات حقوقية من انتهاج السلطات التضييق والتجريم ضد الحراك الاجتماعي. وفي كل الأحوال يصعب أن نعزل ما قام به المكناسيون من احتجاجات اجتماعية، تزامن انتشارها في مواقع أخرى بسيدي بوزيد والقصرين وبن قردان وغيرها. وهكذا على مسافة أيام معدودة من ذكرى ”ديقاج“ الموجهة للدكتاتور بن علي في العاصمة وأمام وزارة الداخلية والاحتفال بمرور ست سنوات على الثورة.

عمال الحظائر بدورهم بدءوا اعتصاما جديدا بالمكناسي في 17 ديسمبر 2017 ليذكّروا بهشاشة التشغيل المؤقت في الوظائف العمومية بعد الثورة. وفي تونس تتضارب الأرقام حول أعدادهم. فمنتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كان قد قدرهم بنحو 100 ألفا. وفي مطلع عام 2017 قال وزير الوظيفة العمومية عبيد البريكي أنهم 10 آلاف. وليس كل عمال الحظائر عمال باليد والساعد، بينهم موظفون إداريون من حملة المؤهلات الجامعية. وفي المكناسي على وجه التحديد يجرى حراكهم تحت عنوان ”اعتصام المصير“. وتُقدر سعاد مشي التي تعمل وفق ذات الآلية الهشة بدار الثقافة بالمدينة والمتخرجة منذ عام 2004 عدد عمال الحظائر هنا بنحو خمسمائة. وتقول :”لا يتجاوز مرتبي الشهري 300 دينار (نحو 125 دولارا) بينما أعمل منذ ست سنوات، فيما يحصل زملائي المرسمون على نحو ألف دينار .. ناهيك عن افتقاد أي تغطية اجتماعية“. وتضيف: ”مستمرون في الاعتصام ونتضامن معا حتى تحقيق مطالبنا جميعا“. وعندما سألتها هل يجد إغلاق  المؤسسات العمومية تعاطفا من مختلف سكان المكناسي ،أجابت : ”هم معنا .. لدينا حاضنة شعبية بلا شك“.

الأرض والفلاح والأكفان

في  العاصمة تونس كان المؤرخ عبد الجليل التميمي قد أبلغني في مكتبه بالضاحية الشرقية على طريق مطار تونس -قرطاج وعلى هامش نقاش عما يقال عن زهد الزعيم والرئيس المؤسس للدولة الوطنية بعد الاستقلال الحبيب بورقيبة بأن الرجل كان سخيا مع المقربين منه. قال أنه منحهم مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الخصبة المعطاءة التي خرج منها المستعمرون الفرنسيون عام 1964. وإلى هذا العام تبدأ حكاية الفلاح على القاسمي التي رواها لي أمام قصر البلدية بالمكناسي. يقول : ”في هذا العام بدأت التعاضديات… فأتوا بنا من أطراف المعتمدية وطلبوا منا استصلاح أراضي الدولة … فعملنا على ظهور الإبل وبالفأس لنعالج أرضا جدباء تعاني الجفاف“. ويضيف : ”ولما فشل  التعاضد في عهد أحمد بن صالح  بنهاية الستينيات قاموا بتقسيم الأراضي التي نزرعها هنا الى شركات نعمل بها مقابل 100 مليم يوميا. وفي عهد الزين (بن على) عادوا وقسّموها إلى شركات أخرى لكنها ظلت تخسر لغياب التمويل ومستلزمات الإنتاج، فقمنا باقتسام الأرض بين من يزرعها إلى الآن ومنذ 53 عاما الى مساحات بين 7 و10 هكتارات للعائلة. والآن تطالبنا الدولة بكرائها مع أن هناك قانون يقول بأن من يبقى في الأرض لخمسة عشر عاما له حق امتلاكها“. ويُقدّر القاسمي مساحة تلك الأرض المسماة بـ ”الأراضي الدولية“ هنا في المكناسي بنحو 3500 هكتارا عليها نحو 80 ألف شجرة زيتون. وبنفس العبارة المحفورة في الذاكرة التي سمعتها من فلاحين بدلتا نيل مصر وهم يقاومون قانونا سنه نظام مبارك في منتصف التسعينيات ”يحرر“ العلاقة الإيجارية  للأراضي الزراعية ويجعلهم نهبا للعرض والطلب والعجز عن السداد، فالطرد تحت لافتة ”الليبرالية الجديدة“.  أبلغني المكناسيُّ العجوز :”جهزنا أكفاننا ولن يستطيع أحد إخراجنا من أرضن“.

على منصة قاعة اتحاد الشغل بالمدينة في نهاية زيارتنا يوم الخميس 26 جانفي 2017  كان علي القاسمي حاضرا، يجلس على طرف المائدة ولعله كان آخر المتحدثين . وعلمت بعدها بأيام معدودة بأن المشاركين في مشهد العصيان المدني أمام قصر البلدية من فلاحي الأراضي الدولية  قد غادروا وانفصلوا عن الحراك الجماعي لينصبوا خياما يعتصمون بها على تخوم المكناسي بحلول يوم 31 جانفي 2017. كما علمت أن عمال الحظائر بدورهم حاولوا قطع طريق رئيسي يربط المدينة بخارجها في يوم 2 فيفري 2017. وبالأصل فإن زيارتنا إلى المكناسي جاءت بعد أن راجت بالمدينة قبل ساعات أنباء عن موافقة حكومة الشاهد على مطلب المحتجين عقد مجلس وزاري خاص لمناقشة التنمية والتشغيل في ولاية سيدي بوزيد. لكنني عندما عدت إلى العاصمة وراجعت الصحف لم أجد أثرا للنبأ. ولعل يوم 26 جانفي هذا كان ذروة اهتمام الإعلام والمجتمع المدني على مستوى تونس بأسرها بالمكناسي وبما يجرى فيها. فقد استمعت في الطريق صباحا إلى نبأ الزيارة مقترنا بمنتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من محطة إذاعة في راديو الحافلة. لكنني علمت في اتصال هاتفي بعد أيام من النقابي كمال علوي  أن جهود تشكيل تنسيقية لمساندة حراك المكناسي تعثرت بسبب خلافات بين أحزاب وجمعيات المجتمع المدني في العاصمة. وبالأصل فإن هذه الأحزاب والجمعيات غائبة في المكناسي. فلا مقرات لأي من الأحزاب والجمعيات الكبرى بالمدينة عاصمة المعتمدية، باستثناء حزب حركة النهضة.

وماذا بعد ؟

إلا أن حراك المكناسي الذي أدى إلى إعلان ”عصيان مدني ـ ربما سيؤرخ له“ بين 30 ديسمبر 2016 و 27 جانفي 2017 4 ـ وجمع بين مكونات أربعة روافد له منسق هو عبد الحليم حمدي. وقد أبلغني خلال الزيارة بأن هذا الحراك يرتكز على ماضي تخلله إضرابان عامان في 3 أكتوبر 2012 و 28 أفريل 2013 ، قال :

نحن حتى الآن حركة مطلبية … وانتقلنا إلى أشكال أكثر تنظيما… وتدرّجنا من الاعتصامات والمسيرات وخوض المفاوضات مع السلطات المحلية  والمركزية. وعندما وصلنا إلى طريق مسدود دخلنا في العصيان المدني وخرق القانون .. نحن الأكثر تقدما في تونس على مستوى الحراك الاجتماعي … وإذا لم نصل لحل سننتقل إلى المرحلة الثورية.

لكن عضو تنسيقية الحراك بالمكناسي أحمد الغابري، 30 عاما، المعطل وحامل الشهادة الجامعية في الإعلامية،  طرح  مساء  26  جانفي 2017 السؤال: ماذا بعد وما العمل؟. قال من فوق منصة قاعة اتحاد الشغل بالمدينة وإن جاء ترتيبه في التحدث متأخرا : ”نتمتع الآن بدعم اتحاد الشغل وإعلاميين جاءوا إلينا اليوم …لكن ماذا ستفعل المكناسي في صباح اليوم التالي؟ ما الذي نملك أن نفعل غدا ؟“.  وقال أيضا : ”الشباب المهمش غير المنخرط في الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات هو الذي قام بالثورة في سيدي بوزيد وعملنا على إقناعهم خلال هذا العصيان المدني بتجنب التصادم ليلا مع الشرطة“.

واللافت أن طرح السؤال ”ماذا بعد وما العمل ؟“ جاء قبل اختتام مؤتمر اتحاد الشغل، وبعدما استنفد المتحدثون والحضور الطاقة في الاستماع لآلام وأنين ممثلي الروافد الأربعة لحراك المكناسي. وحتى مقترحات ”الغابري“ بدى وكأنها لا تجد آذانا صاغية أو وقتا للنقاش. وتتلخص في استحداث تنسيقية تساند الحراك من الاتحاد الجهوي للشغل وأحزاب ونقابات وجمعيات. وأيضا في التنظيم الذاتي وتأطير الحراك في لجان أحياء . وكان قد أبلغني الغابري في حوار جانبي قبل المؤتمر أن أدنى ما يجرى هنا هوالمطالبة بالتشغيل والأقصى هو التنمية. وقال أن قدرا من ”التنظم الذاتي“ جرى هنا في المكناسي ليجمع الروافد الأربعة للاحتجاج الاجتماعي معا. لكنه أوضح بأنه ”مازال مجرد حد أدنى من التنسيق ..  والمسألة هي تحول هذا التنظيم القائم على أساس فئوي إلى شكل أرقى من التنظم الذاتي والقدرة على طرح بدائل للحركة“.

بعد أكثر من شهر من إعلان العصيان المدني  في المكناسي لم تتشكل التنسيقية المساندة للحراك بعد. كما تتجلى مظاهر تفكك العمل الموحد بين الروافد الأربعة للاحتجاج الاجتماعي. بل تستانف المرافق العمومية  العمل دون حصار المحتجين. لكن في ذروة الاهتمام الإعلامي والمشهد التضامني مساء 26 جانفي 2017 قال الشاب أحمد الغابري جملتين تستحقان دوام الاهتمام :”حراكنا ليس استثناءا في البلاد ولن يكون“ ..و”المعركة طويلة وتحتاج طول نفس“.

هذا ولو أن تاريخ انتفاضات الفلاحين بتونس الداخل يفيد بأنها لا تبلغ النهايات السعيدة، فإن المكناسيين مازالوا بين التقدم والتراجع في  عصيانهم المدني. فبحلول يوم 3 فيفري 2017 جاءتني أنباء من هناك بالعودة إلى الإغلاق التام للمرافق العامة وبمواجهات مع قوات الأمن لكسر ايقاف الحركة على الطريق الرئيسي المؤدي إلى صفاقس. في اليوم السابق كانت الأنباء تفيد بانتهاء إغلاق قصر البلدية وكافة منشآت الدولة حيث كنا معهم وهم يغضبون ويغنون ومعه كافة منشآت الدولة. وهكذا تعيش المكناسي بولاية سيدي بوزيد وكأن الاحتجاج سيدوم إلى أبد الدهر طالما بقيت أسبابه. قد يهدأ ويختفي لكنه قابل للتجدد والعودة.

هوامش

  1. سيدي بوزيد : حكاية ثورة يرويها أهلها : شهادة الأمين بوعزيزي وعبد السلام حيدوري، ص 43.
  2. تنص المادة 12 من دستور الجمهورية التونسية الصادر في 27 جانفي 2014 على :” تسعى الدولة الى تحقيق العدالة الاجتماعية ، والتنمية المستدامة ، والتوازن بين الجهات ، استنادا الى مؤشرات التنمية واعتمادا على مبدأ التمييز الايجابي.كما تعمل على الاستغلال الرشيد للثروات الوطنية“.
  3. دائما سيواجه من يكتب عن الوقائع بالاستناد إلى رواية مصادر في مجتمعات يغلب عليها الطابع الريفي الفلاحي تضاربا في تحديد تواريخ الأحداث بدقة. وثمة من يصر في المكناسي ـ ككمال علوي ـ بأن العصيان المدني لم يبدأ إلا يوم 12 جانفي 2017 بعد الاعتداء  مباشرة على شبابها بمقر الولاية في سيدي بوزيد وبأنه استمر متواصلا قبل ان يتواتر بين إغلاق المنشآت وفتحها حتى 27 جانفي 2017. لكن العديد من المصادر بما في ذلك الأخبار المنشورة في عدد من الصحف والمواقع الالكترونية تدفع لتأريخ إعلان العصيان المدني بيوم 30 ديسمبر 2016 . بل وتحدد واقعة اقتحام مقر الولاية والإعتداء على الشباب بيوم 10 جانفي 2017.