جزء من بورتريه علي الدوعاجي لطلال الناير

شهدت البلاد التونسية في الثلاثينات حراكا أدبيا لافتا وقف سدا منيعا أمام الإستعمار الفرنسي الذي حاول تضييق الخناق على التونسيين ولم يترك لهم أي هامش للحرية. غير أن العديد من المثقفين كجماعة تحت السور قد اتخذوا من الأدب والفن وسيلة لمحاربة هذا القمع. وأقصوصات علي الدوعاجي – التي جمعت بعد وفاته تحت عنوان سهرت منه الليالي – خير دليل على ذلك. فقد تمكن كاتبها، عبر بساطة الأسلوب، من إدخال البهجة على قلوب القراء وكذلك تسليط الضوء على تفاصيل المجتمع التونسي في تلك الحقبة.

أقصوصات مرحة وليدة واقع متأزم

مثل تأزم الأوضاع في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي هاجس المثقفين التونسيين الذين سعوا إلى التعبير عن هذا الواقع كل بطريقته. وقد إختار الأديب العصامي علي الدوعاجي – المولود في 4 جانفي 1909 بالعاصمة – المرح نهجا والهزل ديدنا إذ سعى عبر أقصوصاته إلى تصوير الواقع السياسي المتردي بطريقة هزلية لا تخلو من نقد كما إهتم في أدبه بقضايا المرأة والتابوهات الإجتماعية. وقد ذكر عز الدين المدني في تقديم للمجموعة القصصية أن الدوعاجي ” إحتفل في قصصه بالحب إحتفالا كبيرا، وحلل علاقة الرجل بالمرأة تحليلا قصصيا رائقا، وشرح روابط المرأة بالأسرة المحافظة…” وقد كان للأديب عز الدين المدني  الفضل في جمع هذه الأقصوصات ضمن كتاب واحد كانت طبعته الأولى سنة 1968 تحت عنوان “سهرت منه الليالي” الذي يحيلنا على أغنية محمد عبد الوهاب.

إن المتمعن في أقصوصات “أبو القصة في تونس”، كما سماه الناقد توفيق بكار، يلاحظ أنه جعل نصوصه  مطية لتضمين آرائه في السياسة الاستعمارية وانعكاساتها السلبية على المجتمع التونسي آنذاك. ولعل ما يميزه عن غيره وجعله رائدا من رواد الأدب التونسي هو قدرته على إضفاء بعد هزلي رغم جدية وحساسية المواضيع المطروحة في قصصه فهو لا يفضل الوعظ الثقيل فالقصة “صورة صادقة لمنظر شاذ” على حد تعبيره.

انقطاع الدوعاجي عن الدراسة وانخراطه في الحياة العملية القاسية جعله عليما بأدق تفاصيل مجتمع يرزح تحت الاستعمار بالإضافة إلى اطلاعه على عادات الطبقة الكادحة وهو ما نجح في توظيفه في أدبه فقد كان منتميا إلى عالمين : عالم الأنتلجنسيا بتكتلها وإنكماشها وعالم الكادحين بتشعبه وغزارة نوادره. وهذا ما جعل أقصوصاته ترسم الشخصية التونسية بوصف لأدق تفاصيلها.

لقد كتب الدوعاجي قصصه في جرائد مختلفة، وتجدر الإشارة إلى أن أسلوبه الفكاهي قد أبعد عنه أعين الرقيب فنشر في جريدة “الأسبوع” في 11 مارس 1946 أقصوصته الأشهر “سهرت منه الليالي” كما ظهرت قبلها “جارتي” و”الركن النير” سنة 1936 و”مجرم رغم أنفه” سنة 1945.

عن تقنيات القص في “سهرت منه الليالي”

تمثل هذه المجموعة القصصية – التي تضم 15 أقصوصة – ملامح أسلوب علي الدوعاجي والتقنيات التي يستعملها كقاص. فالدارس لهذه النصوص يلاحظ تمشيا صارما فيما يتعلق بالعنونة، فالقصة القصيرة قائمة أساسا على شد القارئ بعنوان يكون غامضا ومشوقا في آن. وقد نجح مؤلف “جولة بين حانات المتوسط” في ذلك لأن القارئ يجد نفسه، منذ البداية، متشوقا لإكتشاف متن “سهرت منه الليالي”.. كما أبدع الدوعاجي في حبك البنية دون تمطيط ولا إطالة في التمهيدات التي تفقد الاقصوصة طابعها الخاص. إذ يلج بنا الكاتب مباشرة في صلب الأحداث ووضعنا مباشرة أمام حوارات الشخصيات. فالأقصوصة عند الدوعاجي كل لا يتجزأ، يحرص على ترفيع نسق القص لينطلق في خط تصاعدي وصولا إلى النهاية. وهو ما يعكس معرفة الكاتب بنظرية الأقصوصة وتمكنه من تقنياتها. وقد ركز مؤسس جريدة السرور، سنة 1936، على الوصف في العديد من الأقصوصات وهو ما يبرز قدرته على رسم الشخصية ونحت صورتها لتترسخ في ذهن القارئ وذلك بفضل جمل وصفية قصيرة ( أقصوصة “في شاطئ حمام الأنف” نموذجا  ) أو نقل الحالة النفسية للمتحاورين ( أقصوصة “جارتي” نموذجا ).

لقد ساهمت دقة القص عند الدوعاجي وبراعته في نقل ملامح الشخصيات وإنفعالاتها في تحول أقصوصاته “نزهة رائقة”، “المصباح المظلم” و”الزيارة” إلى شريط سينمائي بعنوان “في بلاد الطررني” سنة 1973، من إخراج حمودة بن حليمة، الهادي بن خليفة وفريد بوغدير. كما تجدر الإشارة إلى أن الدوعاجي كان متأثرا بأسلوب طه حسين إذ كتب أقصوصة “أم حواء” بأسلوب عميد الأدب العربي وعلى لسانه.

توفي علي الدوعاجي سنة 1949، إلا “سهرت منه الليالي” تحوّلت من مجرد مجموعة قصصية إلى شهادة تؤرخ وترسخ لفترة مفصلية في تاريخ تونس.