الثورات ألغاز .. مشتبهات وغير متشابهات .. وبما أن التأريخ هو الذي ينطق التاريخ الأبكم تعددت مفاهيمها واختلفت تآويلها.
فهل الثورة التونسية التي أعادت البهجة للنفوس هي انقلاب على الدولة أم تقلب من تقلبات مزاج التاريخ؟ هل هي حيلة من حيله أم ابتسامة من ابتساماته؟ هل هذه الثورة المباغتة هي ”حدث لغوي يصنع التاريخ“ أم حدث افتتاحي ”يطيح بنظام كوني“ ويأتي بنظام جديد يصبح فيه الشعب هو الذي يريد والقدر يستجيب ؟
هذا مذاق أوّلي لما قرأت في صفحات كتاب رجل القانون عياض بن عاشور ”تونس ثورة في ديار الإسلام“ الذي دافع فيه عن الثورة التونسية أمام المشككين والقائلين بأنها مجرد عاطفة عابرة سرعان ما انطفأت شعلتها. قارعهم بالحجة والبيان على مدى أكثر من 350 صفحة ملحا على أن اختلافها عما سبقها من الثورات لا يعطيهم الحق في نزع صفة الثورة عنها.
صحيح أنها ”لا تشبه شيئا“ ولكنها نالت باستحقاق الجائزة الدولية للثورات .
في تتبع قوة دفع موجة الثورة
إذا كان لا يوجد مفهوم تاريخي موحد للثورات فما بالك بوجود وضعيات تجريبية أنموذجية لها
هكذا جاء رد عياض بن عاشور على العديد من المحللين الذين غفلوا، على حد تعبيره، عن هذا المعطى فنفوا أن تكون الثورة التونسية ثورة فعلية كتلك التي أعادت رسم ملامح التاريخ العالمي مثل الثورة الانجليزية أو الفرنسية أو البلشفية أو الصينية..
فالثورة، وفق تصوراته، ليست دوما ثمرة مشروع سبقه تفكير وتخطيط. فقد تندلع أيضا بصفة فجئية عَلى أعقاب أحداث احتجاجية يهب فيها الشعب لهدم قلاع الخوف وكسر حواجز المستحيل بعد أن يكون قد ضاق ذرعا من ظلم الدكتاتورية.
نعم أحداث 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011 هي بالنسبة إليه ثورة بأتم معنى الكلمة ”لأن قوة الطاعة التي أنتجها الاقتصاد السياسي للقمع بلغت حدها الأقصى“ وهي ليست انقلابا على الدولة حاكت خيوطه، في الظل، قوى داخلية ولا مؤامرة خارجية تولى تنفيذها منشقون استعملوا شبكة الانترنت للتأثيرعلى الشباب والفقراء للخروج والتظاهر وكأنهم خرفان بانورج أو أغبياء مفيدين. ثم إن القول بوجود ثورة من عدمه لا يقاس، بالنسبة إليه، بالنتائج والمآلات فالأهم يكمن في تتبع قوة دفع موجة الثورة والأفكار التي ستغذيها.
ثورة دينوقراطية
الثورة التونسية، حسب عياض بن عاشورالمختص في النظريات السياسية في الإسلام، هي أول ثورة ديموقراطية في العالم العربي تطيح بثلاث أفكار راسخة :
1/ أن الديمقراطية مستوردة من الغرب، 2/ أن العالم العربي هو استثناء في عالم سائر نحو الديمقراطية و 3/ أن الشعوب العربية سلبية وعاجزة عن استعادة حقوقها والفوز بها.
هي أسقطت هذه الجدران الثلاث وبقي الجدار الرابع الذي صمد في وجهها لأنه لا توجد في الدنيا، وفق تعبيره، قوة قادرة على تقويض جدار الدين. بل على عكس ذلك فبتحريرها للحريات وللطاقات الكامنة، ساهمت الثورة الديمقراطية في تسييس الرصيد الديني وجعله مطلبيا و ثأريا وانتقاميا وأفضت، علاوة على ذلك، إلى اعتلاء الإسلام السياسي لسدة الحكم.
فكيف سيلوح إذا المشهد السياسي التونسي في ظل تواجد هذين البعدين الديمقراطي والتيوقراطي ؟
نجد في المعسكر الأول : الديمقراطي المقتنع والديمقراطي خبير الاستراتيجيات والديمقراطي بالضرورة، وفي المعسكر الثاني : التيوقراطي الدنيوي والتيوقراطي المناضل والتيوقراطي المسلح.
وبما أن السياسة تقوم بالأساس على التوافقات والحسابات الاستراتيجية، لم يبق أمام الطرفين، حسب الكاتب، سوى خيار الديمقراطية الإجرائية على حساب الديمقراطية الجوهرية. وهكذا أفضت هذه التجربة الفريدة من نوعها إلى المصادقة على ”دستور حسب الطلب“ استوجب تارة توافقات وتنازلات ومقايضات وتارة أخرى اللجوء إلى الحيلة والخدعة وسوء النية.
”الرجل الذي أتت به العناية الإلاهية“
كما أملت (Realpolitik) الواقعية السياسية تقاربا بين ”راديكالية علمانية غريبة عن المكان وراديكالية سلفية غريبة عن الزمان ” لكتابة الدستور استوجبت توافقا تاريخيا بين أعداء الأمس – حلفاء اليوم، الندائيين والنهضاويين، لتجنيب البلاد الفوضى والحرب الأهلية فمن خلال مختلف أبواب الكتاب وفقراته وبفضل تقنية الكتابة بالاستشهادات، يصل عياض بن عاشور بالقارئ إلى هذين الاستنتاجين. لكن حين يتعلق الأمر بالباجي قائد السبسي، سرعان ما يتخلى عن هذا الأسلوب و يترك جانبا صفات الباحث – المؤرخ ورجل القانون شديد التدقيق ووفير العلم والمعرفة ليتقمص دورا جديدا يتأرجح بين دور الملاحظ السياسي الموضوعي ودور المتسيس والمتحزب العاطفي. فيكتب عن ”البجبوج ” قائلا : ”بجملة بسيطة أعلى من الجبال : ”دولة مدنية لشعب مسلم ” ، اختزل الباجي قائد السبسي هوية الشعب التونسي ونمط المجتمع الذي يطمح إليه ” ويضيف ”فهذه الجملة التي بنى عليها الرجل المناسب أو الرجل الذي بعثت به العناية الربانية (تصح الترجمتان للفظ providentiel) حملته للانتخابات الرئاسية، لخصت التحديات العملاقة التي تواجهها البلاد.
وفي موقع آخر من الكتاب وفي عرض حديثه عن ثلاثية العدالة الانتقالية والمصالحة والإفلات من العقاب، يختار عياض بن عاشور فتح هلالين ليفسح المجال واسعا أمام زعيم حزب نداء تونس للإفصاح عن موقفه ”يجب أن نكف عن تصفية الحسابات مع الماضي … ” ثم يغلقهما و يعقب حاسما المسألة بكل برود : ”العدالة الانتقالية فقدت الاتفاق الحاصل حولها .. وبما انها جاءت بمبادرة من الحزب الاسلامي الذي كان الضحية الاساسية للدكتاتورية فإنها جاءت على شاكلة عدالة للرابحين “.
إنها لا جميلة ولا قبيحة
في ظل كل هذه المعطيات كيف يمكن وصفها إذا ؟ فهل هي ثورة مشاريع جديدة ام مخاطر جديدة؟
ويجيب بن عاشور عن الجزء الأول من تساؤله مشددا على أن أهم إيجابياتها هي احترامها للشرعية وللقوانين ومحافظتها على استمرارية الدولة وإنجابها لدستور توافقي ما كان ليكون لولا الدور المحوري الذي لعبته الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي كان يترأسها. هذه المسائل التي صنفها ضمن إيجابيات الثورة هي بالتحديد المسائل التي أثارت الكثير من الانتقادات. صحيح أنه أتى على ذكر البعض منها ولكنه، في المقابل، غض النظر عن أهمها. كتلك القائلة بأن هذه الهيئة نصبت نفسها بنفسها واحتجزت الشرعية تحت مسمى حماية الثورة وبأن الثورة التي استعانت بمؤسسات الدولة القديمة هدمت الدستور القديم عوضا عن تقويض النظام système القديم وبأن الدكتاتورية، مثلها مثل الثورة، استعملت هي أيضا القانون لاغتيال الحق.
أما الإجابة عن الجزء الثاني من سؤاله، فيلخصها الكاتب في جملة الأحداث التي جاءت بإمضاء الإسلام السياسي وزعزعت، على حد تعبيره، كيان المجتمع ومنها الهجوم على قاعة سينما لافريكا وحادثة قناة نسمة والمعرض الفني بقصر العبدللية وحادثة العلم بجامعة منوبة والهجوم على السفارة الأمريكية وعلى أضرحة السيدة المنوبية وسيدي بوسعيد الباجي وغيرها من الأحداث التي يشوبها غموض كبير ولَم يقع إعلام الرأي العام بنتائج التحقيقات التي فتحت بشأنها. والتفصيل الوحيد الذي تناقلته الإذاعات والتلفزات هو أن مرتكبي هذه الجرائم هم من أصحاب الللحي … وعلى عكس الثراء الذي ميز المصادر والمراجع التي اعتمدها رجل القانون في الفقرات والابواب المخصصة للجانب النظري من كتابه والتي مسحت أغلب مكونات الطيف السياسي والفكري محليا وعالميا، اقتصرت مصادر أخباره حول تلك الأحداث التي نسبت لبعض التيارات السلفية على روايات ماكينة الاعلام النوفمبري المهيمن وكليشياتها.
كيف يمكن وصفها إذا ؟ فهل هي ثورة جميلة ام قبيحة؟
- Yadh Ben Achour, Tunisie, une révolution en pays d’Islam. Tunis, Cérès, 2016.
Bravo Zakiyya, ta plume nous manque.