” أعمل في مستشفى الرازي وهذا أمر سيّء للغاية. هنا، لا يوجد مجانين .. في المقابل، فإن هناك الكثير من البؤساء. هناك أناسٌ جائعون، وأناس عراة، ومدمنون، وآخرون فارون من جحيم العمل والعائلة “. في الرازي الذي اقتبسه أيمن الدبوسي ومسرحه، هنالك أدباء وفلاسفة ومفكرون من أمثال دوستويفسكي و بوكوفسكي ودانتي والمعري ونيتشه وفرانتز فانون وتوجد أيضا سحلية ثرثارة لا تكاد تغادر سقف مكتب المحلل النفسي ..” إنني لا أنتظر مما أخطه هنا ( أخبار الرازي ) أن يصير كتابا فليكن شيئا منهوشا، مزقا مكدسا بلا ترتيب..”

في هذا العالم الغريب يصبح قارئ هذا ” الشيء ” كمن يشق طريقه وسط زحام من البشر الحقيقيين قد يتعرف على البعض من الوجوه الرموز وقد يخيل إليه أنه لمح ظله وامضا يرف مع حركة الراوي المنهمك في الولوج والخروج ثم الولوج والخروج .. بسرعة، من أقصوصة إلى أقصوصة.

عودة فرانتز فانون

قصصه الحزينة قد تباغتك وتقتلع من حنجرتك ضحكات وقهقهات، وقد تقول اللامعقول بخطاب معقول. فما العجب إذا في عودة الطبيب النفساني فرانتز فانون إلى الرازي ؟ وأين الغرابة في عودة غريمه سليم عمار، الذي كان أبعده من المستشفى أواخر الخمسينات، إلى المشهد ؟ هذا الأخير يعود بعينيه الزرقاوين ” محنطا ملفوفا كمومياء رفقة زبانيته لتهشيم عظام كل من يلتحق بفانون “. أماالمفكر والمناضل الثائر على الاستعمار فيعود،محملا بمشروع ” الكارتين الذي يهدف إلى تحويل أقسام المستشفى إلى معاهد تجميل ومنتجعات راحة واستجمام “. هو مشروع بديل لضرب لوبيات الأطباء ومخابرالأدوية في الصميم. ويتمادى الأخصائي السريري في هذيانه الأدبي ليشعلها ثورة بالضحك للإطاحة بمضادات الذهان الكلاسيكية وغير التقليدية، مستعملا كل مفردات الثورة : حالة الطرارئ، المقاومة، المندسون، الاعتصام، خيام ست نجوم والثورة المضادة. ففي الرازي، بؤرة تؤوي خصى دكاترة ماتوا ولَم يفنوا يقول الراوي ويذهب إلى حد التذكير بأن لفظ دكاترة هو جمع يشترك فيه الدكتور والدكتاتور. لذا” فجروا الخصيتين تنشف العروق” وكانت هذه النصيحة آخر ما أوصى به فرانتز فانون قبل مغادرة المستشفى.
فهل حاول أيمن الدبوسي، من خلال هذه الأقصوصة، تشخيص مجريات أحداث ما بعد الثورة التونسية بطرح الأسئلة التي لم تطرح وبفتح الأبواب المنسية فيها؟ وهل استنجد بثورة الكارتين ليتخلص من عقدة ثورة الياسمين؟

حمالة الخصى

” أعتقد أن الشىء الوحيد الذي نجحت فيه، أو لنقل نجحت في الحفاظ عليه، بعد أكثر من أربع سنوات من العمل في مستشفى الرازي، هو، بالتأكيد، قدرتي على الاندهاش.” يقول أيمن الراوي في واحدة من شذراته المتجاورة بين دفتي التجليد. فكيف لا يندهش حين تكلمه سحلية تعودت التلصص على ” حصص العلاج السلوكي البورنوغرافي الحامية ” بينه وبين طالبتين متربصتين داخل مكتبه؟ وكيف لا يصيبه الذهول حين تبلغه بأن رئيسة القسم الذي يشتغل فيه ليست سوى ” حمالة خصى “؟ فهي لا تضاجع ذكور الأطباء وتفترس خصاهم وإنما تعتمد اسلوبا اخر للخصي بهدف السيطرة على العناصر الجديدة الواعدة. ويأخذ تشخيص أمراض مستشفى الرازي وعلل هذه المؤسسة الإيهامية الاستشباحية نسقا مجنونا حين يفصح الزاحف العظاء ” لازار “عن هويته: فهو محلل نفسي لاكاني جاء إلى الرازي في نطاق بحث اثنوسيكولوجي للقيام بدراسات في مجال الخصاء المقارن.
وتزيد هذه المعطيات في تعكر علاقة الطبيب الراوي بالمؤسسة ويحتد مرضه المهني الذي أخذ شكل نوبات تقيئ تنتابه قبل أن يذهب إلى مكتبه وأثناءعمله وبعد أن يغادره. فهو يتقيأ لانه يعرف مآل كل من يخرج عن الصف سواء كان طبيبا، ممرضا أو مريضا وهو يتقيأ لأنه يعرف أن لا أحد يشفى في مستشفى يعاقب مرضاه ويعتقلهم.
عن مدمن باركيزول: ” أكرهكم. أكرهكم أنتم الأطباء، ورجال الشرطة. لا تضيعون فرصة لترددوا على مسامعنا أننا مرضى، ومجرمون، تدمروننا بالسجن. تدكوننا بأدوية تسرق منا حيويتنا”.

ذات مصطنعة من ذات أصلية

” أنت أيضا مجنون ” يقول المريض عبد الهاذي مقهقها، مشيرا نحو المعالج النفسي الذي سيخلخل، بدوره، عرش اختصاصه ويقوضه من أصوله. مرة يتهكم على التحليل النفسي اللاكاني الذي” لا يهمه كل ما لا يخضع لمنطق بابا-ماما الأوديبي ” ومرة أخرى يستهزئ قائلا : ” بصقة واحدة من القلب في وجه غريم يمكن ان تغني عن ساعات من الهدر في عيادة المعالج النفسي ” و في ومضة من سبع كلمات يسخر الراوي من الأخصائي النفسي السريري الاستشفائي، أي من نفسه تحديدا، ويصفه بمبولة تفكر.
” انتهى : يكفي هذا القدر من العمل في الرازي، هذه المرة سأغادر نهائيا ” فاضت الكأس وأمسى المداوي، هو أيضا، يشكو من أعراض غريبة يصفها كالآتي : ” لم أكن أتخيل ان التعرض المكثف والنسقي للآلام البشرية يمكن ان يؤدي الى الانتصاب الشديد. كانت تنتابني غلمة مظلمة ورغبة قاهرة في الانقضاض على اول فتاة تعترضني لأغرس فيها شوكتي المسمومة وارتاح” وستتجلى أعراض هذا المرض النفسي الجسدي المخيف، حين يضيع خاتم زواجه في عمق شرج أمينة ” كنت وقتتها مستعدا لان أشقها بسكين وأسحب أحشاءها مثل سمكة لأجل ان استرد خاتمي الجميل” عند هذه اللحظة السردية الضارية، يدخل الأخصائي النفسي في حالة هستيريا تفقده كل مقومات انسانيته. فأي الحالتين أصعب ؟ حالة ذلك الولد المطيع الذي اقتلع عيني شرطي المرور الذي احتجز دراجة أبيه فأتاه بهما في راحتيه ليفقسهما ؟ أم حالة المعالج الذي أصيب بداء مرضاه ؟
ذوات الراوي و”إلاه البكاء” و “الرجل الأخضر” وفرانتز فانون و ميم ولطفي …في ” أخبار الرازي ” هي شخصيات مصطنعة قد يكون أيمن الدبوسي سرقها من ذواتها الأصلية. فبين تركيبة الشخصيات الخيالية وتركيبة الأشخاص الحقيقيين، مصدر إلهام أيمن الدبوسي و غيره ممن كتب عن الأمراض النفسية في تونس وفِي العالم، يلوح، في أغلب الأحيان، خط متقطع واصل لا فاصل.

فن الإصابة في الصميم

” في الرازي، رأيت من القساوة ما يكفي لأن أبكي دهرا، ومع ذلك لم أبك….وهذا الصباح، أبكتني رواية ” تتحدث عن ذلك “الانتماء الفظيع لأحلام الرجال وعذاباتهم أينما كانوا، وهو أيضا وقوفي على الكسر الرائع الذي ننتمي اليه جميعا ”
” لقد هزمتها العزلة الشرسة ” يقولها الدبوسي على لسان نزار الشاب الفصامي الذي صار يأتيه، في كل معايدة، بملخص قصة قصيرة أو رواية . بالأدب فكت العزلة وهزمت وها هو الأخصائي النفسي يبادر هو أيضا، ذات شتاء، بالكتابة عن الأشياء الفظيعة الأعظم من طاقته على الاحتمال. فيفسح المجال واسعا أمام العصابي والانكماشي والفصامي لنثر كلامهم وهذيانهم المملوء حكمة.
روى لنا مآسي أضحكتنا ومهازل أبكتنا. أدخلنا إلى عوالم الكوميديا السوداء وصوب قلمه العار العريان الخبير بالتكثيف نحو المرض والوجع والبؤس والعجز والعبث فأصاب في الصميم، في سطرين أو حتي بكلمتين .
” أخبار الرازي ” كتاب يقص علينا قصص عالم موحش وقبيح يتكون من ثلاثة طوابق يرتع فيه الرمز والخيال والحقيقة ويتداخل فيه الدين والسلطة والجنس. قصص مبعثرة من يوميات جمهورية تتعالى منها روائح المني والظراط والبول، والخراء والقيء واللاكريموجان وغاز الليثيوم.
وحتى لا يذهب خيالنا بعيدا ولا نفتري على أصحاب السيادة من ذوي العيون الزرقاء، نسأل مدونها :”من قصدت بالعينين الزرقاوين اللتين كانتا تشعان ببريق وحشي مخيف يجمد الدم في العروق ؟