وسط مناخ سياسيّ مضطرب، وفي خضّم حروب التصريحات والتسريبات التي شغلت الساحة السياسية خلال الأسابيع القليلة الماضية، إختار رئيس الحكومة الأسبق مهدي جمعة الإعلان عن تأسيس حزبه السياسي “البديل التونسي” في 29 مارس 2017 من وسط أحد الفنادق الفاخرة سط العاصمة محاطا بعدد من أعضاء فريقه الحكومي على غرار نضال الورفلي ومحمد توفيق الجلاصي.
هذه الخطوة التي أقدم عليها مهدي جمعة كانت منتظرة بعد استقالته في 16 مارس الفارط من رئاسة مركز الدراسات “تونس البدائل” والذّي أسّسه منذ أقّل من سنة. رئيس الحكومة الذّي ولج باب قصر القصبة كبديل “توافقيّ” لحكومة الترويكا إثر الازمة السياسية التي شهدتها البلاد عقب اغتيال النائب محمد الإبراهمي، لم يصمد طويلا أمام إغراءات السلطة ليطرح نفسه من جديد كأحد المراهنين على الحكم مع تصاعد وتيرة المواجهات في حرب الخلافة المنتظرة بعد سنتين.
سنتان من الترقّب واختيار لحظة الانقضاض
بعد الإعلان الرسمي عن تأسيس حزب “البديل التونسي”، بدأت جولة مهدي جمعة على منابر الإعلام المهيمن والتي كان آخرها في قناة التاسعة ليسهب في شرح النقاط الأساسية لبرنامج الحزب ومحاور الحركة في الساحة السياسيّة. “التكنوقراطي” كما يحلو له أن يصف نفسه، والذّي ظلّ حتّى بعد قراره خوض غمار التجربة السياسية من منطلقات حزبيّة، متمسّكا خلال حواراته بنبذه للإيديولوجيا أو “الدغمائيّة” كما وصّفها في أكثر من مناسبة، معتبرا نفسه ومن وراءه حزبه، غير معنيين بالصراعات الفكريّة، وبراغماتيّين باحثين عن المصلحة بغضّ النظر عن مأتاها.
هذه البراغماتيّة، أثّرت بشكل او بآخر في توقيت قرار خوض غمار التجربة الحزبيّة، فمهدي جمعة الذّي انتقد صراحة آداء الائتلاف الحاكم طيلة السنتين الفارطتين، معتبرا أنّها لم تحقّق ولو جزء يسيرا من وعودها والتزاماتها الإقتصاديّة، انتهز تتالي الهزّات التي تعرّض لها الحزب الحاكم نداء تونس ودخوله في دوّامة من الصراعات وحروب التسريبات والفضائح، ليدخل على الخطّ معلنا عن نفسه كبديل لما رآه حالة من الفراغ السياسيّ الذّي يسود المشهد العام وخيارا “ينأى” بنفسه عن التجاذبات الإيديولوجيّة و”ممارسات الصعاليك” كما اسماها.
ضبابيّة المواقف واجترار الخيارات
مهدي جمعة، الذّي أتقن في مرحلة ما السياسة التواصليّة خصوصا في وسائل الإعلام بما راكمه من تجربة في الإدارة في مسيرته المهنيّة خارج البلاد، استطاع أن يكسب تعاطف عدد من التونسيّين بصورة مغايرة لما عهدوه في فترة حكم الترويكا، وهو ما ممكّنه من تهيئة الأرضية التّي استغلّها اليوم للعودة إلى النشاط السياسيّ. هذا الأخير الذّي نُصّب في إطار “توافقي” من الأحزاب الحاكمة والمنظّمات الوطنيّة سنة 2014، حاول طيلة حواراته أن يحافظ على “طابعه التكنوقراطي” وتجنّب الغوص في التفاصيل أو إعطاء إجابات حاسمة للأسئلة التي تناولت العلاقة مع الاتحاد العام التونسي للشغل والعلاقة مع الأحزاب المكوّنة للمشهد السياسي، ليناور بشعارات عامّة تلخّصت في أهمية التعاون مع منظّمة الشغيلة ودورها المحوريّ في تعديل الوضع الاقتصادي وحفظ التوازن السياسي في البلاد، إضافة على انفتاحه للتنسيق والحوار مع الأحزاب “الوسطيّة” التي لخّصها في حزب آفاق تونس ونداء تونس ومشروع تونس، معتبرا حركة النهضة خارج دائرة التحالفات الممكنة لاختلاف الرؤى والمشاريع السياسيّة. أمّا باقي الأطياف السياسيّة الأخرى، فقد سقطت من حسابات “البديل التونسي” المستقبليّة كما سقطت من تجربته السابقة في الحكم.
لا “بديل” يذكر على المستوى الاجتماعي والاقتصادي
عدى بعض الإشارات لمعاناة “الفئات الهشّة” وضرورة التوّجه إلى الجهات المظلومة اقتصاديا وتجنّب الضغط أكثر على الطبقة الوسطى، تجنّب مهدي جمعة الغوص في تفاصيل برنامجه الاقتصاديّ والإجتماعيّ. رئيس الحكومة السابق، الذّي وصل إلى القصبة بمباركة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة، وجد نفسه مكبّلا بخيارات اقتصاديّة واجتماعيّة كان أحد مهندسيها إبّان فترة حكمه، بدأ من الترفيع في الأسعار و”سياسة التسوّل” والدفع نحو تطبيق “برنامج الإصلاح الهيكليّ” لصندوق النقد الدوليّ. كما يراهن هذا الأخير على داعميه السابقين من منظّمة الأعراف الباحثين عن توسيع تواجدهم على الساحة السياسيّة عبر توزيع الأوراق والأسماء والحلفاء على أكثر من جهة. أمّا على مستوى الفساد الاقتصاديّ، فتفاخر مهدي جمعة بحربه على التهريب وتحريكه عدّة ملفات فساد يتحمّل لاحقوه مسؤولية متابعتها، مشدّدا على نظافة عهده من التجاوزات والمخالفات أو شبهات الفساد.
جرد الحساب: بديل أم استمراريّة
تجربة رئيس الحكومة السابق مهدي جمعة في الحكم طيلة 10 أشهر، وخياراته السياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة تضع مصداقيّة مشروعه السياسيّ الجديد “البديل التونسي” محلّ تساؤل حقيقيّ، فالرجل الذّي تمّت تسميته في الدقائق الأخيرة من الحوار الوطني لسدّ فراغ الحكم، يجّر اليوم تركة من السياسات والخيارات الإقتصاديّة التّي كانت أحد عوامل تواصل استمرار الأزمة الاقتصاديّة كما خلّف بخروجه من القصبة العديد من الأسئلة المبهمة حول عدد من التجاوزات وشبهات الفساد المتعلّقة بلزمات التنقيب والترخيص في المجال النفطي ولزمات استغلال الثروات الطبيعيّة.
خلال سنة من حكم مهدي جمعة؛ كانت هذه حصيلة جرد آداء حكومة “التكنوقراط”:
التداين: استمّر رئيس الحكومة السابق في انتهاج سياسة الإقتراض الخارجيّ من أجل تغطية العجز الحاصل في نفقات التصرّف عبر جولات مكّوكيّة تركّزت في الأساس على بلدان الخليج العربيّ والدول الأوروبيّة والولايات المتحّدة الأمريكيّة لتناهز الديون التونسيّة قرابة 25 مليار دينار تونسي، أي ما يقارب 50 % من إجمالي الناتج المحليّ.
نسبة التضخّم وغلاء الأسعار: عرفت هذه النسبة قفزة استثنائيّة خلال سنة 2014، حيث بلغت النسبة العامّة للتضخّم 5,8% مع نهاية شهر ديسمبر، ولكنّ النسب التفصيليّة التي تتعلّق بالموّاد الغذائيّة والمحروقات والتي تستأثر بالنصيب الأكبر من مصاريف المواطنين بلغت ضعف المعدّل العام.
وضعيّة المؤسّسات العموميّة : دافع مهدي جمعة خلال فترة توليه رئاسة الحكومة عن خصخصة القطاع العموميّ ضرورة تقليص حضور الدولة في الدورة الإقتصاديّة، وذلك عبر الدعوة إلى مراجعة وضعية البنوك العموميّة وطرح خيار التفريط أو مراجعة منظومة التغطية الإجتماعيّة إضافة إلى التخفيض من مساهمة الدولة في رأسمال الشركات الوطنيّة وفتح المجال أكثر أمام رؤوس الأموال المحليّة والأجنبية. سياسة تتماهى مع إملاءات هيئات النقد الدوليّة والتمشّي الحكومي الراهن نحو تطبيق توصيات برنامج الإصلاح الهيكلي المفروض من صندوق النقد الدولي. هذا وضغط مهدي جمعة باتجاه حسم الحوار الوطني الاقتصادي لصالح منظّمة الأعراف والدفع نحو إقرار الإصلاحات الهيكلية بعيدا عن القنوات التشريعيّة خصوصا تلك المتعلّقة بمسألة الدعم والإصلاح الجبائي والشراكة بين القطاعين العام والخاصّ.
القطاع الطاقي والثروات الطبيعيّة: لم تتّخذ الحكومة أي قرار بخصوص مراجعة عقود استغلال الثروات الوطنيّة كما وعد بذلك رئيس الحكومة الجديد خلال الجلسة العامة في المجلس التأسيسي للمصادقة على تسميته. بل ترك هذا الأخير عددا من النقاط السوداء المتعلّقة بعقود الاستغلال وامتيازات التنقيب الممنوحة للشركة العامة للملاحات التونسية “كوتوزال” وشركة بوشمّاوي النفطيّة وقضيّة منجم سراورتان. كما عمد مهدي جمعة إلى التعهّد باستمرار أعمال التنقيب عن غاز الشيست رغم تحرّكات المجتمع المدني وتعارض هذا التصريح مع الفصل 13 من الدستور التونسي.
على المستوى الحقوقي، لم يشذّ رئيس حكومة “التوافق الوطني” عن ممارسات سابقيه ولاحقيه ، إذ تواصلت الإنتهاكات والإعتداءات على نشطاء المجتمع المدنيّ كما حدث مع خليفة نعمان وعزيز عمامي وصبري بن ملوكة وصفوان بوعزيز ولينا بن مهنّي وهالة بوجناح، إضافة إلى الإعتداء على اعتصام قدماء اتحاد الطلبة للمطالبة بحقهم في التشغيل وصولا إلى استمرار محاكمة شباب الثورة.
كما شهدت المرحلة الأخيرة من حكم مهدي جمعة تصاعد التعامل اللامسئول والفضّ من قبل الأمنيّين تجاه المجتمع المدنيّ وانتهاك الحقوق الأساسيّة للمواطنين تحت ذريعة محاربة الإرهاب، ولتبقى مقتل الفتاتين أنس وأحلام الدلهومي في مدينة القصرين أحد ابرز الانتهاكات الأمنية التي أدرجها رئيس الحكومة ضمن خانة الأخطاء الغير مقصودة.
مقال قيّم، شكرا صديقي