المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

جاءت مبادرة رئاسة الجمهورية بإقتراح قانون المصالحة الإقتصادية في سنة 2015 في إطار نتائج مرحلة ما بعد التوافق الذي تمت صياغة تفاصيله في 2013 من قبل القوى الأجنبية في تونس بداية من لقاءات السفارات الأمريكية و الفرنسية و الألمانية بشكل أساسي. و لقاء رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي و رئيس حزب نداء تونس في باريس و ما خفي من لقاءات كان أعظم.

إضافة إلى التقارب بين الجبهة الشعبية اليسارية و نداء تونس الذي جمع شتاتًا من حزب التجمع المنحلّ و البورقبيين القدامى منهم و الجدد إضافة ممثلين آخرين لمصالح القوى غير المستفيدة من مسار 17 ديسمبر 2010 سواءً سياسيا و إقتصاديا فيما إصطلح عليه بجبهة الإنقاذ. إن هذا التوافق الذي روُّجَ على أنّه إستثناء تونسي لم يكن كذلك إنّما فرضته السفارات و “رجالاتها” و كانت الجبهة الشعبية الجسر الذي عبره حزب نداء تونس نحو التطبيع معه في المشهد السياسي في مرحلة الإغتيالات السياسية التي شهدتها البلاد تحت وهم أنّ نداء تونس سيثأر من دم المغدورين “شكري بعيد” و” محمد البراهمي”. و كانت فيما بعد نتائج إنتخابات 2014 التشريعية ثمّ الرئاسية لتؤدّي نهاية إلى تحالف حكومي أساسه حزب نداء تونس و حركة النهضة و بعض الأحزاب الصغيرة الحاملة لأديولوجيا النيوليبرالية المتوحشة و بعض الأحزاب المتلبرلة الأخرى فيما بعد في التحويرات الحكومية المتعاقبة. قامت حركة النهضة بممارسة نفس ما فعلته الجبهة الشعبية في 2013 أي التحالف مع نداء تونس لكن في الحكم و ليس في المعارضة كخطوة إستباقية في مواجهة أيّ إحتمالات أخرى ترى تهدّد وجودها في إشارة إلى خطاب جزء من حزب نداء تونس شق محسن مرزوق خاصة في تلك الفترة و هو نفس الخطاب الذي رفعه نداء تونس فيما بتعلق بمحاسبة الترويكا و تمسّكت به الجبهة الشعبية و هو الخطاب الذي حمل إستعدادت إنتقامية بشعارات أديولوجية ثقافوية. لكن أكبر مستفيد إن لم نقل الوحيد كان النظام القديم-الجديد الذي إشتعل المسار الثوري لإسقاطه و إطلاق مسار شعبي مواطني معادي للسياسات النيوليبرالية التي أدت لإضعاف دور الدولة الإجتماعي و الإقتصادي و تغول رأس المال الخاص الأجنبي و المحلي و جعل الدولة مجرّد جهاز لخدمة مصالح رؤس الأموال على حساب أغلبية الشعب.

إنّ عودة طرح مشروع قانون المصالحة في 2017 يفهم في هذا السياق أي ضمن مسار التوافقات المصاغة خارجيًّا في تونس و عبر معطيات الإنتقال الديمقراطي و ضمان إعادة إنتاج النظام القديم الذي لم يتفكّك بل إرتبك و أعاد صياغة تحالفاته في مواجهة إستحقاقات مسار 17 ديسمبر 2010 مستفيدا من دور النخب المعارضة لنظام بن علي سابقا التي أنعشت خياراتها السياسية النظام لحظة إرتباكه.

إن سردية الإنتقال الديمقراطي و خطاب التوافقات التاريخة بين الجلاد و الضحية أو من يقدم نفسه ممثّلاً عنها أدّى لإستقواء المنظومة السياسية و الإقتصادية القديمة بمغنم الحالة السياسية الليبرالية أي الإنتخابات و مؤسسات “الدولة الجديدة”. إنّ الديمقراطية الشكلية المعزولة عن مناقشة المنوال الإقتصادي المنتج للنهب و الإستغلال و المكرّس للإفلات من العقاب لن تؤدّي إلاّ إلى تأصيل و إنتاج الحالة النيوليبرالية الإقتصادية المتعارضة جذريًّا مع إستحقاقات المسار الثوري الذي كان ردّة فعل على عقود من تطبيق سياسات و توصيات صندوق النقد الدولي و برامج البنك العالمي و الإتحاد الأروبي.

يبدو النظام واضح الخيارات في المواجهة، مصرًّا على حربه الشرسة لكن من داخل منظومة الديمقراطية الشكلية و بإستغلال التوازنات المتحركة و لو بتجاوز التوافقات التي أبرمها تحت الضغط لكن إلى أيّ مدى يمكن أن يذهب في هذه “التجاوزات”، هنا لا يمكن أن نغفل أنّ المؤسسات الدولية المموّلة و الدول المانحة و الداعمة تفرض شروطها و برامجها مقابل الدعم و الإقراض المالي الذي تضخه لضمان إستمرارية الإستعمار الإقتصادي. إنّها تريد مواصلة النهب و الإستغلال و التفاوت، لكن تريده هذه المرّة بشكل شفاف و قانوني لذلك فإنّ خطاب مقاومة الفساد و إحترام التعهدات في هذا المجال و الحوكمة وغيرها من ترسانة هذا المعجم الإمبريالي التي تتبنّاها هذه الجهات الداعمة و المانحة و المقرضة و لو بتفاوت تصبح اليوم جزء من سرديّة الإستعمار الإقتصادي لأنّ تلك الجهات واعية تمام الوعي أنّ إستمرارية آليات التحكم و الإستغلال بشكل فاضح يساهم في إعادة إنتاج التمرّد و يمهّد لخروج الوضع عن السيطرة لذلك فإنّها تسعى للحدّ من إمكانيات و قابليات الإنتفاض الذي يؤدّي لتغيرات في المشهد و تغيرات جذريّة في موازين الصراع و البنى القائمة مما قد يؤدي للإطاحة بنموذج الإستعباد المقنّع فيتمّ إقتراح جملة من الإصلاحات التشريعية و الإدارية في المنظومة القانونية للدولة التبعيّة بما يضمن إستمرارية الخيارات المنتجة للفقر و التفاوت و الظلم.

في خضم هذا الصراعات يظلّ الحراك الإجتماعي الثابت الأبرز في المشهد رغم كلّ الغبار. لذلك برزت مشاريع محاولات ترويض الحراك الإجتماعي أو إجهاضه أو الإجهاز عليه حسب كل حالة و مرحلة عن طريق التشويه لو أمكن أو التفاوض الإلتفافي من قبل السلطة و محيطها. إضافة إلى إلتفاف آخر قد يبدو جهدًا داعمًا و هو ذلك المجهود الذي يبذله المجتمع المدني التابع معرفيا لمقولات الهيمنة الثقافية و التابع إقتصاديًّا في تمويله. إذ يعمل على التخفيف من الدسم الي يتركّز في مطالب المحتجيّن من خلال دروب التفاوض الخفيّة أو التأثير حتى على المطالب ذاتها بما يجعل الحراك الإجتماعي جزء من حالة الإستقرار الذي يخدم مصلحة النظام الدولي و وكلائه محليًّا. لكن و منذ 17 ديسمبر 2010 و حتى هذه اللحظة رغم الكرّ و الفرّ بين النظام و الحراك الإجتماعي وعدم قدرة على تحقيق إنتصارات نهائية لكلّ منهما حافظ الحراك الإجتماعي على خطوط المواجهة و بقي مؤشرا للمعركة. كما برزت محطات رئيسية و مفصليّة في تطور الحراك الإجتماعي خطابا و ممارسة. فكانت “حالة جمنة” علامة فارقة واقعة تأصيلية مستمرة لإمكانية أخرى خارج التوافقات السياسية الرسمية الكبرى في إطار مجال سياسي أخر ليس هو المجال السياسي الرسمي النخبوي الحزبي . كما تقدمت بالحراك الإجتماعي من الإحتجاج المطلبي نحو فرض بدائل واقعية على الأرض و هي مازالت إلى الآن تقاوم.

و يأتي في هذه الفترة إعتصام الكامور بصحراء تطاوين الذي جاء بعد شهر كامل من الإحتجاجات و الإعتصامات بكامل مناطق و بلدات ولاية تطاوين، هذا الإعتصام الذي يرفع مطالب التشغيل و لكنه لا يقف عندها إنّما يطرح قضية السيادة و الإستقلال و التبعية الإقتصادية علاقتها بالثروات الطبيعية و التهميش الممنهج الذي إستهدف الجهات الداخلية من خلال مطلب تخصيص نسبة مؤية لجهة تطاوين من مداخيل إنتاج النفط بالجهة و الرقابة على صرف هذه النسبة في إطار التمييز الإيجابي للجهات المهمشة. مما يطرح مسألة مراقبة الإنتاج و النفاذ إلى المعلومة لإنهاء سريّة العقود بين الدولة والشركات النفطية الذي فرض أثناء صياغة الدستور. لذلك تسعى اليوم السلطات لمحاصرة الإعتصام في مطالبه من خلال حصر الإعتصام في المطالب المتعلقة بالتشغيل و تعويم مسألة التمييز الإيجابي والنسبة المؤية عبر تخصيص مبلغ مالي دون معرفة حجم الإنتاج الحقيقي و معدل الأرباح و حصص كل من الدولة والشركات الأجنبية.

لذلك لن يكون قانون المصالحة المحاولة اليتيمة فهو جزء معركة أشمل يخوضها النظام في مواجهة المسار الثوري الذي إشتعل في 17 ديسمبر 2010، و تكريسا للمنوال الإقتصادي المنتج للتفاوت و الإستغلال و سيطرة رأس المال الخاص المحلي و الأجنبي على مقدارات البلاد و بقاء الدولة مجرّد جهاز إداري في خدمة التحالفات الإجتماعية و الإقتصادية الحاكمة المرتبطة بالسياسات التي تفرضها المؤسسات و الجهات المانحة و المقرضة. مما يجعل الحراك الإجتماعي يواجه إلتفافات من قبل النظام الحاكم و المجتمع المدني التابع. و رغم ذلك تمكّن من الثبات و خلق نماذج مقاومة متجازوة لإمكانات المجال السياسي الرسمي حكمًا و معارضة. تلك هي المعركة خاصة فيما تعلق بقضية الأرض و المسألة الفلاحية و وهو ما عبّرت عنه تجربة جمعية حماية واحات جمنة رغم الحصار. و فيما يتعلق بمسألة الثروات الوطنية و الإستقلال و التبعية الإقتصادية و التهميش الممنهج المتواصل للجهات الداخلية و هو ما يعبّر عنه إعتصام الكامور حاليا رغم محاولات الإلتفاف التي يقودها النظام من خلال الحلول التي يقدّمها.