اعترضت هيئة الاستشراف واللامركزية وصندوق القروض والمساعدات للجماعات المحليّة في مراسلة وُجّهت لرؤساء النيابات الخصوصية بتاريخ 9 جوان 2017 على اعتماد البلديات آلية الميزانية التشاركية. وأشارت المُراسلة إلى أنّ “اعتماد الميزانية التشاركية لا يُمكّن البلديات من الانتفاع بالمساعدات التي تندرج ضمن برنامج التنمية الحضرية والحوكمة المحلية والذي يضمّ عديد الشروط والمراحل التي يجب استيفاؤها”، وقد وجّه البلاغ دعوة بضرورة التزام البلديات بمنهجية إعداد برنامج الاستثمار السنوي التشاركي -دون سواه- “للتمكن من الانتفاع بالمساعدات الموظّفة وغير الموظّفة”.

⬇︎ PDF

صندوق القروض والمساعدات المشروطة

يستند المخطّط الاستثماري التشاركي السنوي بالبلديات إلى المنشور عدد 11 المؤرّخ في 7 أكتوبر 2015 ويتعلّق بضبط وتمويل ومتابعة إنجاز البرامج الاستثمارية البلدية وتنفيذ برنامج التنمية الحضرية والحوكمة المحلية. ويموّل صندوق القروض والمساعدات للجماعات المحليّة المشاريع المُدرجة بالمخطّط الاستثماري للبلديات التي استوفت الشروط التي يضبطها الأمر عدد 3505 لسنة 2014 المؤرخ في 30 سبتمبر 2014، وذلك عن طريق مساعدات موظّفة قدّرت ضمن اعتمادات الصندوق لسنة 2017 بـ 40 مليون دينار.

يرتبط تحويل المساعدات السنوية للجماعات المحلية باستيفائها الشروط الدنيا المستوجبة لضمان حسن التصرف واستعمال التمويلات العمومية طبقا للقوانين والتراتيب الجاري بها العمل. (…) ويتولى الصندوق التثبت من مدى استجابة كل جماعة محلية لهذه الشروط قبل المبادرة بتحويل المنح المخصصة. الفصل 10 من الأمر عدد 3505 لسنة 2014

جذور آلية الميزانية التشاركية
تعود جذور تجربة الميزانية التشاركية إلى البرازيل وتحديدا في مدينة بورتو أليغري سنة 1989 مع تسلّم حزب العمّال مسؤولية إدارة البلديّة، حيث أتت هذه التجربة في سياق تنامي حراك اجتماعي وفي إطار الانتقال الديمقراطي الذي شهدته البلاد نهاية الثمانينات من القرن الماضي. وكانت الغاية تشريك المواطنين في تولّي شؤون أحيائهم كبديل على قصور الديمقراطية التمثيليّة في التعبير عن مشاغل الناسّ وتحسين مستوى الخدمات، خاصّة على المستوى المحلّي. وبالتالي تُعدّ الميزانية التشاركية في جوهرها إستراتيجية سياسية مع نجاحها في تحسين الإدارة المحلية وتفعيل الديمقراطية التشاركية. وقد وظّف حزب العمال في البرازيل الآلية للتقرّب من المواطنين عبر تمكين الفئات المهمّشة من اتخاذ قرارات أدّت إلى تحسين مستوى معيشتهم. كما ساعدت الميزانية التشاركية على محاربة الفساد وتفكيك شبكاته وتكريس ثقافة المساءلة. هذه النتائج أدّت إلى تعميم التجربة في كلّ البرازيل قبل أن تتبناها دول أخرى، ليصل عدد المدن التي تعتمد هذه الآلية النموذجية اليوم إلى أكثر من ألف مدينة.

ويندرج هذا النظام الجديد لتوزيع مساعدات البلديات ضمن برنامج التنمية الحضرية والحوكمة المحليّة تحت إشراف وزارة الشؤون المحليّة والبيئة. ورغم تعميم البرنامج، إلاّ أنّه لم يثبت نجاعته في جميع البلديات بل أثقل كاهل العديد منها خاصّة في ظلّ عدم استقرار النيابات الخصوصية قبل الانتخابات. وتتعارض هذه الآلية مع مبدأ التشاركية، إذ تمّ توظيف المخطّط التشاركي بشكل عمودي وإقصاء الهياكل البلدية خلال اتخاذ التدابير المتعلّقة بتنفيذ البرنامج التنموي، كما تمّ ضبط الآجال والشروط ومنهجيّة العمل دون مراعاة خصوصية كلّ بلدية. هذا ولم يتمّ تشريك منظّمات المجتمع المدني الناشطة في مجال الديمقراطية التشاركية والحوكمة المحلية، بل عملت الهياكل المركزية على التضييق وضرب مبادرات تشريك المواطنين كما هو الشأن بالنسبة للميزانية التشاركية.

التضييق على آليات التشاركية

بادرت منظّمة الحركة الجمعياتية إلى طرح آلية الميزانية التشاركية بدعم من مركز التعاون الألماني وتؤّطّرها اتفاقية عمل مع البلدية والجمعيات المحليّة. وقد بلغ عدد البلديات المنخرطة في الميزانية التشاركية 19 بلدية. رغم التجاوب الذي لقيته هذه الآلية على مستوى البلديات المشاركة خلال السنوات الأخيرة، إلاّ أنّ البلاغ الأخير أكّد نية الدولة عدم المضي قدما في تعميم الميزانية التشاركية ضمن السياسات العامّة.

⬇︎ PDF

في هذا السياق، طالبت أكثر من 40 جمعية وطنية ومحليّة على رأسها الحركة الجمعياتية وزير الشؤون المحليّة والبيئة رياض المؤخّر، في مراسلة بتاريخ 6 نوفمبر 2016 بتوحيد منهجية مخطّط الاستثمار السنوي التشاركي ومنهجية الميزانية التشاركية وتشجيع البلديات على تطبيقها ابتداء من ميزانية 2018، ومساندة آلية الميزانية التشاركية من قبل الوزارة ضمانا لديمومتها.

⬇︎ PDF

هذه السياسة أكّدها رئيس منظّمة الحركة الجمعياتية قريش جاوحدو خلال جلسة استماع يوم الثلاثاء 20 جوان 2017 صلب لجنة تنظيم الإدارة والقوّات الحاملة للسلاح حول مشروع مجلّة الجماعات المحليّة، إذ ندّد بمحاولات هيئة الاستشراف واللامركزية وصندوق القروض والمساعدات للجماعات المحليّة ضرب الميزانية التشاركية رغم نجاعتها مقارنة بالمخطط الاستثماري التشاركي. كما سبق وأثارت باقي منظّمات المجتمع المدني الحاضرة في جلسة استماع سابقة يوم الخميس 15 جوان 2017 إشكالية التضييق على منهجية الديمقراطية التشاركية في مشروع مجلّة الجماعات المحليّة معتبرين أنّ التنصيص في الفصل 28 على “ضبط المنهجية التشاركية بأمر حكومي” تتعارض مع أحكام الدستور الذي ينصّ على ضرورة اعتماد آليات الميزانية التشاركية والحوكمة المفتوحة في الفصل 139 وذلك وفق مبدأ التدبير الحرّ والاستقلالية الإدارية والمالية حسب الفصل 132 من الدستور.

تتمتع الجماعات المحلية بالشخصية القانونية، وبالاستقلالية الإدارية والمالية، وتدير المصالح المحلية وفقا لمبدأ التدبير الحرّ. الفصل 132 من الدستور

في المقابل تصرّ وزارة الشؤون المحليّة والهياكل المعنيّة التابعة لها على غرار هيئة الاستشراف واللامركزية وصندوق القروض والمساعدات للجماعات المحلية على العمل وفق النهج العمودي مع البلديات. هذه السياسة تأكّدت من خلال نفس البلاغ الذي وُجّه إلى الولاّة قبل رؤساء النيابات الخصوصية، تكريسا لسلطة الوالي وسلطة الإشراف غير الدستورية التي تتعارض مع مبدأ الرقابة اللاحقة على عمل البلديات.

تشترط اللامركزية اليوم إرادة سياسية للقطع مع النهج العمودي وضمان الحدّ الأدنى من مشاركة الفاعلين المحليين بشكل مباشر. لكن هذا المشروع الذي يحظى بتمويلات مهمّة من الداخل والخارج مهدّد بأن يبقى شعارا في ظلّ إصرار العقل السياسي على رفض تبني المقاربة التشاركية كخيار استراتيجي.