السينوغرافيا هي العمود الفقري للنصّ المسرحيّ وسنده الذي بفضله يمكن تجسيد المكان الواقعيّ، مكان حدوث القصّة، وقد نجح الفاضل الجعايبي في إعادة تشكيل الركح بديكور يخدم حكايته بتشعّباتها وأطوارها المتباينة، وبإضاءة متجانسة مع الحالات الانفعالية للممثّلين التسعة، وهم فاطمة سعيدان ونعمان حمدة ورمزي عزيّز ولبنى مليكة وأيمن الماجري ونسرين المولهي وأحمد طه حمروني ومعين مومني ومروى المناعي. ليس من السهل على أيّ مخرج أن يحوّل النصّ المكتوب إلى نصّ مرئيّ تكتمل فيه جميع العناصر التي بها يمكن تجسيد الواقع إلى أبعد حدّ ممكن على خشبة المسرح، وهذا ما عمل عليه الجعايبي دون أن يعوّل على خيال المتفرّج، فسينوغرافيا ”خوف“ تُحيل بشكل واضح إلى مكان مهجور، مُستشفى مُظلم لا تصله أشعّة الشمس، أسرّة متآكلة وجدران سوداء تعبّر عن الرهبة والفزع والشعور الدائم باللاجدوى والإحباط الذي رافق الممثّلّين في مختلف أطوار المسرحيّة وبالتحديد منذ هبوب العاصفة الهوجاء.
دلالة العاصفة
استعار الفاضل الجعايبي دلالة العاصفة لبناء نسق رمزيّ تنصهر داخله مشاعر الخوف والرعب التي تدفع الشخصيّات -وهم أفراد فرقة كشّافة- إلى البحث عن النجاة حين تُسدّ جميع منافذ المستشفى بالرمل، كما تدفعهم إلى التناحر من أجل البقاء. وكأنّ بهذه العاصفة التي يمكن أن ترمز إلى الثورة كما ذهب إلى ذلك البعض، تُعرّي عبثيّة الواقع وتضع الشخصيات في مواجهة مباشرة مع مخاوفهم، محاولين إشباع حاجتهم الملحّة إلى الأمن لكنّهم فشلوا في ذلك ليكتشفوا بعدها أنهم مجرّد دمى تُحرّكهم أياد خفيّة. فرج (أيمن الماجري) هو اليد الخفيّة التي تعبث بأقدار الشخصيات وتتحكم في مصائرهم، هو آلهة القدر، مناة عند العرب أو أنانكا عند الإغريق لا يهمّ، هو الشيطان الخفيّ، هو أيضا حكومة الظلّ، ويمكن أن نذهب بالتأويل إلى أبعد من ذلك لنقول أنه المؤامرة الخارجيّة التي تُحاك ضدّ الوطن وفي ”خوف“ ضدّ الشخصيات الذّين خرقوا قوانين منظمتهم وتخلّوا عن قيم العمل الكشفيّ. ويُلخّص مشهد البداية، حين هبّت العاصفة الرمليّة ودفعت الممثّلين إلى اتجاه معاكس لوجهتهم الأصليّة، معنى التوهان والضياع في دوّامة لا نهاية لها.
تُذكّرنا عاصفة الجعايبي في ”عاصفة“ وليام شكسبير أحد أهمّ أعماله التي تحدّث فيها عن الإرادة الإنسانيّة والسلطة والقدر، خاصّة التقاطع بين شخصيّة فرج جامع الجماجم والمُتحكّم في العاصفة وشخصية بروسبرو المُتسلّح بالسحر والمُتّصل بالعالم السفليّ (عالم الأموات والجحيم). لكن عاصفة الجعايبي تختلف عن عاصفة شكسبير، بوضع قوى الخير والشرّ على كفّة واحدة، عكس الثانية التي تنتهي بانتصار الخير على الشرّ. فمسرحيّة ”خوف“ لا تنتمي إلى المسرح الوعظي الأخلاقي ومسرح النهايات السعيدة. وعاصفة الجعايبي ليست عاصفة محمود درويش التي وعدته بالنبيذ وبأنخاب جديدة وبأقواس قزح، فالعاصفة في ”خوف“ لم ”تُكنّس صوت العصافير البليدة والغصون المستعارة عن جذوع الشجرات الواقفة“ بل أكلت الأخضر واليابس وجرفت أفراد الكشّافة إلى الهاوية، إلى الحضيض.
خوف ”خوف“
في مسرحية ”خوف“ لا توجد مخاوف سويّة ومخاوف مرضيّة، فالخوف واحد وهو الخوف من الفناء. قدّمه لنا الجعايبي في أبعاده المختلفة كالخوف من الخطر والخوف من الآخر والخوف من الظلام، بطريقة مباشرة دون ترميز وتشفير، خيار يتحمّل مسؤوليته ويُدافع عنه حتى في أعمال سابقة مثل ”تسونامي“. فالجعايبي وجليلة بكّار ابتعدا عن سيميائيّة الخطاب المسرحي واختارا المباشراتيّة لنقل الواقع كما هو دون مؤثّرات ومساحيق. لكنّ نقل الواقع بنفس كثافته وبنفس تفاصيله وأحداثه قد يتحوّل إلى اجترار لا يقدّم للمتفرّج الإضافة المطلوبة من العمل الفنيّ. لنعد قليلا إلى خوف ”خوف“، ففي هذا المكان الغريب (المستشفى)، ”مكان خارج الجغرافيا“، لا تملك شخصّيات المسرحيّة غير أجسادها وماضيها، تجد نفسها مُجبرة على تقاسم الهواء والماء والطعام، ثمّ مُجبرة على التناحر بسبب أزمة في القيادة. تتدخّل هنا نساء الكشّافة لتضعن حدّا ولو نسبيّا لسطوة الرجال على السلطة، لكنّ الصراع يحتدّ عند نفاد المؤونة وهو في جوهره وكامل تجلّياته خوف من الفناء تخلّلته بعض المشاهد الساخرة، التي جسّدتها بامتياز فاطمة سعيدان في دور شهبة حين تحدّثت عن مهنتها كقابلة وعن خوف الأمّهات لحظة الولادة وعن قصص عشقها الموهومة.
الظاهرة الإنسانية في ”خوف“ هي ظاهرة عدميّة، حيث قدّم لنا الفاضل الجعايبي الخوف والعنف بقبحهما وبشاعتهما مختزلا معنى الحياة في كونها لا تعدو أن تكون عمليّة فناء. فالشخصيات تتصارع وتتناحر، لكن هذا الصراع المحموم وهذا التناحر المتواصل يفوق طاقتهم البشريّة ولن ينتظرهم في النهاية سوى العدم. فقد تحوّل صراع أفراد الكشّافة على البقاء وبحثهم عن الخلاص إلى عبث لا قيمة له بانكشاف حقيقة فرج الذي يكره البشر، مُعلنا بأنّه كلب في هيئة إنسان وأن ”مشاعره الكلبية“ تدفعه إلى السيطرة على الآخر والتلاعب به ومن ثمّ تدميره ضمن حبكة درامية تنهل من معين السينما.
يبدو أن الفاضل الجعايبي قد استلهم البناء الدرامي لمسرحية ”خوف“ من السينما، فنحن أمام نصّ مسرحيّ قريب جدّا من السيناريو السينمائيّ من حيث طريقة تطوّر الأحداث وتقطيع المشاهد التي بدى بعضها مُقحما بطريقة فجّة، مثل مشهد محاولة الاغتصاب. توقّعنا أن تتوقّف المسرحيّة عند مشهد رسم أحد الشخصيّات على الجدار الأسود دائرة تٌلخّص كلّ شيء، الفراغ والفناء والعدم. هذا المشهد يُذكّرنا بالرجل الفيتروفي رمز العقلانيّة لليوناردو دافنشي والذي يقول بأن الإنسان هو مركز الكون والعالم.
iThere are no comments
Add yours