كان توجه مؤسسي أيام قرطاج السينمائية نضاليّا بحتا رغم الخلاف الحاصل بينهم حول إعطاء المهرجان بعدا متوسّطيا من عدمه ورغم ذلك تمكنوا من بعث مهرجان بهوية واضحة تحفر في العمق الإفريقي والعربي، هوية ملتزمة بمناصرة قضايا الشعوب المسحوقة ومعاداة الامبريالية. أثار هذا التوجه جدلا واسعا حول بعض الأفلام المنتقاة للعرض خلال المهرجان منذ تأسيسه وعلى امتداد سنوات متلاحقة مثل فيلم “ريح السد” للنوري بوزيد، الذي فاز -رغم بعض المزايدات السياسية- بالتانيت الذهبي سنة 1986، وفيلم رضا الباهي القصير “العتبات الممنوعة” والذي مُنع من العرض بسبب جرأته في الطرح و”تعدّيه على المقدّسات”. وأفلام أخرى لا تقع تحت حصر كانت محلّ خلاف ونقاش حادّ خاصّة المتعلّقة منها بالقضيّة الفلسطينيّة.
تانيت قائد السبسي وبروباغندا الوزير
مازالت إلى اليوم العديد من الأفلام التي تُعرض خلال أيام قرطاج السينمائية توّجه بوصلة الجدل حول هويّة هذه التظاهرة والتي يبدو أنها تعيش ارتباكا في اختياراتها وتوجّهها العام من سنة إلى أخرى، ولعلّ ما قام به إبراهيم لطيف مدير الدورة الـ27 لأيام قرطاج السينمائية (2016) عند تسليمه التانيت الذهبي للباجي قائد السبسي خير دليل على انحراف المهرجان عن هدفه الأصليّ المتمثل في فكّ الارتباط بالمؤسسات والسلطة والانتصار للفن وللمخرجين الأفارقة والعرب دون غيرهم. ما قام به إبراهيم لطيف والذي كان مفاجأة من العيار الثقيل للعديد من المبدعين والفنانين ومحبّي السينما فتح باب النقاش حول استقلالية المهرجان وتبعيّته لوزارة الثقافة ومؤسسات الدولة حيث لا يوجد قانون يحفظ هذه الاستقلالية من التجاذبات السياسية وميولات المسؤولين والقائمين على الشأن الثقافي في البلاد. وتتضارب هويّة المهرجان مع “الثقافة الرسمية” أو لنقل ثقافة المكاتب والتقارير الإداريّة البعيدة كلّ البعد عن روح الثقافة وجوهرها، فقد استغلّ الوزير الحاليّ للثقافة محمد زين العابدين الفرصة خلال افتتاح أيام قرطاج السينمائية في دورتها الـ28 للترويج لـ”مدينة الثقافة” الذي يعدّ مشروعا سلطويّا يكرّس هيمنة الدولة على الثقافة ويقصي جزء هامّا من هوية التونسيّين الثقافية وهي الفنون الشعبية مثل المزود والهيب-هوب، فقد تحدّث بإسهاب خلال كلمة الافتتاح عن عدد قاعات السينما الموجودة داخل “مدينة الثقافة”، التي من المرجّح أنها ستقضي على قاعات السينما وسط العاصمة والتي بدورها تعاني من أزمات حادّة.
حاول المدير الحالي لأيام قرطاج السينمائية نجيب عيّاد أن يُعيد للمهرجان توجهه الأصليّ وبعده النضاليّ، مثلما صرّح خلال الندوة الصحفية للإعلان عن تفاصيل الدورة الـ28 للمهرجان، معلنا أنه سيقطع مع بعض الممارسات التي قام بها أسلافه والحديث هنا عن إبراهيم لطيف، مثل السجادة الحمراء والنجوم والدخلاء وهو ما حصل نسبيّا مع عدم إلغاء السجادة الحمراء التي يعتبرها البعض رمزا للتطبيع مع السائد والتجاريّ ولا تعبّر عن روح التظاهرة. رافق المهرجان هذه السنة جدل حادّ حول الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية، رغم أن الأفلام التونسية المشاركة على وجه التحديد تعبّر بشكل أو بآخر عن الروح النضاليّة لأيام قرطاج السينمائية بغضّ النظر عن جودتها الفنيّة. تصاعد هذا الجدل إلى حدّ إعلان بعضهم مقاطعة المهرجان بسبب بعض الأفلام المشاركة والتركيز هنا على فيلمي “مطر حمص” للمخرج السوري جود سعيد و”القضية رقم 23” للمخرج اللبناني زياد الدويري.
“مطر حمص” السينما والدعاية السياسية
يُقال عن جود سعيد بأنه “مخرج النظام” و”ناطق رسمي” باسم السلطة، هذه الأحكام التي تبدو لنا مُسبقة لعدم معرفتنا الكافية بتفاصيل الأزمة السورية وبعدنا الجغرافي عن هذا البلد الذي أنهكته الحرب قد تحول ربّما دون قراءة موضوعية لفيلم “مطر حمص”، ولكننا عند مشاهدة الفيلم نُصدم منذ المشاهد الأولى برداءة الطرح الفني وانحياز الفيلم الواضح والمباشر لنظام بشار الأسد الذي يعارضه الكثيرون ويؤيّده الكثيرون أيضا. تدور قصّة الفيلم في مدينة حمص بعد خروج الجماعات المتشددة منها وتتحدث عن العائلات التي عاشت حالة الحصار سنة 2014. لا يحتاج الفيلم إلى الكثير من التحليل والتعمّق نظرا إلى سطحيّته في معالجة الملف السوري الذي تعدّدت أطرافه والمتدخّلين فيه، فجود سعيد لم يجد علينا بقراءة فنيّة ذكية حتى وإن كانت منحازة وبسيناريو محكم الكتابة وبخيال جامح، فقد علّق أسباب الأزمة على شمّاعة نظرية المؤامرة وظلّ وفيّا لخطاب النظام الأحاديّ. لم يستغل جود سعيد الخراب في مدينة حمص لإنتاج جماليّات بصرية، ولم يحاول حتى تطوير شخصيّات فيلمه التي بدى الحوار بينها باهتا مُصطنعا وغير حقيقيّ ومُشبعا بالكليشيهات والجمل الجاهزة. فيلم “مطر حمص” أثار ضجّة خلال أيام قرطاج السينمائية بعد أن قرّر المخرج السوري سامر عجوري سحب فيلمه “الولد والبحر” احتجاجا على جود سعيد وفيلمه، معتبرا أن “وجود هذا الفيلم على قائمة أفلام المهرجان هو تصريح من إدارة مهرجان قرطاج بدعمهم لرواية النظام السوريّ وعرض الفيلم في صالات المهرجان هو مشاركة حقيقيّة في ترويج تلك البروباغندا”. ما يمكن أن يقال عن فيلم “مطر حمص” المثير للجدل أنه فيلم لا يظل في الذاكرة ويُنسى كأنه لم يكن.
“القضية رقم 23” جدل حول الفيلم أو حول مخرجه
لا يمكننا الاختلاف حول القيمة الفنية لأفلام المخرج اللبناني زياد الدويري، ففيلم “بيروت الغربية” (1998) أحدث نقلة نوعية في تاريخ السينما اللبنانية بشهادة كبار النقاد. زياد الدويري مهووس حقيقي ومخرج عبقري، وبعد فيلمه “الصدمة” (2012) والذي بسببه اتهم بـ”التطبيع مع إسرائيل” لتصوير أجزاء منه في تل أبيب يعود إلينا بفيلم جديد شارك في أيام قرطاج السينمائية ضمن المسابقة الرسمية وهو فيلم “القضية رقم 23”. أصرّت إدارة المهرجان على عرض الفيلم رغم ضغوط بعض الأطراف الفلسطينية وهو ما لم يُعلن عنه رسميا، وحتى أثناء الندوة الصحفية لنقاش الفيلم وبحضور زياد الدويري الذي تحدث عن ضغوط خارجية على المهرجان لمنع الفيلم أصّرت الإدارة على دحض كلام الدويري، نافية تلقيها أي ضغط أو تهديد من أي طرف. الجدل المثار حول فيلم “القضية رقم 23” شابته الكثير من المغالطات لأن تهمة التطبيع التصقت بزياد الدويري على فيلم “الصدمة” أي منذ خمس سنوات وليس على فيلمه الجديد.
ما يهمّنا هنا هو محاولات منع عرض الفيلم والتعدّي على حريّة الإبداع والتعبير، فمن حق المناصرين للقضية الفلسطينية الاحتجاج على المخرج واعتبار تصوير أجزاء من فيلمه القديم في تل أبيب تطبيعا ثقافيا مع الكيان المحتل ولكن المشكل في اتهام كل من دخل لمشاهدة الفيلم الجديد أثناء عرضه الأوّل بقاعة الكوليزي بالتطبيع مع الإسرائليّين و خيانة القضية. هذه الاتهامات المغشوشة لا تستند إلى استدلالات منطقية وحجج عقلانية بل تتلاعب بالعواطف وتحصر الفيلم الذي لا علاقة له بالتطبيع ومشاهديه في خانة المغضوب عليهم. يمكننا طرح فيلم “القضية رقم 23″ الذي تدور فكرته الأساسية حول عدم أحقيّة أي شخص أو أقليّة أو طائفة أو شعب في احتكار المعاناة، من وجهة نظر أخرى وهي مسألة المصالحة بين اللبنانيين من الطائفة المسيحية والفلسطنيين والتاريخ الطويل من المعاناة والدم والسلاح بينهم. يمكننا مناقشة هذه الفكرة والنظر إن كان المخرج عالجها بطريقة ذكية أم لا، ولن نخوض في تفاصيل الحكاية كما لن نخوض في مسألة التطبيع التي ستُدخلنا في دوامة لا قرار لها وفي سلسلة لا نهاية لها من الاتهامات قد تصل إلى حد اتهام عرب 48 المقاومين بـ”التطبيع”. تحيلنا الضجة حول زياد الدويري وأفلامه إلى جدلية الفن والرسالة ومدى استعدادنا لقراءة أي عمل فني مهما اختلفنا مع الأفكار والخطابات التي يحملها بين طياته، قراءة جديّة بعيدا عن العنتريات والوجدانيات وأزمات الانتماء.
مهرجان أيام قرطاج السينمائية ورغم الارتباك في توجهاته وهويته السياسية يحاول الحفاظ على طابعه الأصليّ وهو مناصرة المبدعين والانتصار لأفلام مُنعت من العرض في بلدانها إمّا باسم الدين أو باسم القوميات أو باسم الأخلاق.
iThere are no comments
Add yours