بالتوازي مع استمرار ماراطون جلسات التقاضي، برز مسار الصلح كمعطى آخر في الملف، إذ طالب المكلف العام بنزاعات الدولة في الجلسة التي التأمت في 06جويلية 2017 بتأجيل الجلسة لانتظار نتائج الصلح بين سامي الفهري ومؤسسة التلفزة. وحسب ما أكده محمد السعيدي، كاتب عام النقابة العامة للإعلام، لموقع نواة فإن مساعي الصلح -الذي بلغت قيمته 25 مليار كتعويضات للتلفزة- تعثرت نظرا لعدم وجود ضمانات قانونية لتسديد المبلغ المتفق عليه، حيث اقترح سامي الفهري تسديد 3 مليارات كتسبقة أولية، في حين يتم تسديد بقية المبلغ طيلة أربعة سنوات. وأضاف السعيدي بأن هذا المقترح لا يضمن حقوق التلفزة بشكل قانوني، مشيرا إلى أنه قُوبل بالرفض من طرف النقابة ومن طرف الإدارة الحالية للتلفزة. وفي سياق متصل، أفادت مصادر من رئاسة الحكومة بالقصبة لنواة أن إقالة الرئيس المدير العام السابق لمؤسسة التلفزة إلياس الغربي تعود في جزء منها إلى عدم نجاحه في تمرير اتفاق الصلح المذكور، خصوصا وأن حكومة الشاهد أبرزت طيلة المدة الفارطة رهانا اتصاليا على قناة الحوار التونسي كمَحمل إعلامي لسياساتها.
من جهة أخرى تم إقحام قانون المصالحة كورقة أخرى في الملف، إذ طالب محامو المدراء العامين السابقين للتلفزة ومحامي المستشار الرئاسي الأسبق عبد الوهاب عبدالله، أثناء الجلسة الأخيرة التي التأمت الخميس 16 نوفمبر 2017، بتمكين موكليهم من الانتفاع بالعفو الذي يُتيحه قانون المصالحة الإدارية، الذي نُشِر بالرائد بالرسمي ودخل حيز التنفيذ بعد أن ختمه الرئيس الباجي قايد السبسي في 24 أكتوبر 2017. تشير الوثائق القانونية في ملف القضية –التي تحصّل موقع نواة على جزء منها- إلى أن شركة كاكتوس تشكل أنموذجا مُجسّدا لإحدى شبكات الفساد في ظل النظام السابق. تداخلت فيها مصالح العائلة الحاكمة مع لوبيات المال، يُضاف إليهما تدخل بعض المستشارين والوزراء وتواطؤ كبار المسؤولين في الإدارة من رؤساء مديرين عامين لمؤسسة التلفزة ومسؤولين في الوكالة الوطنية للنهوض بالقطاع السمعي البصري. كانت هذه المصالح تتوارى خلف برامج الألعاب والأعمال الدرامية وارتفاع نسب المشاهدة، وفي الأثناء كان مرفقا عموميا بأكمله تحت ذمة صهر الرئيس وشريكه.
حكاية الـ326 د التي جعلت سامي الفهري ثريا
يذهب سامي الفهري في شهادته القانونية إلى أن رحلة عودة من مدينة ميلانو الإيطالية في ماي 2003 كانت سببا في التعرف على بلحسن الطرابلسي الذي كان على متن نفس الطائرة. رغم أن هذه الصدفة حَوّلت سامي الفهري إلى واحد من الأثرياء والمبجّلين فإنه يصر على اعتبارها مقدمة للسطو على شركته، معتبرا أن بلحسن الطرابلسي فرض عليه شراكة متناصفة. لكن صورة الضحية التي وقعت في شراك “الطرابلسية” سرعان ما تتهافت أمام الملف القانوني لتأسيس الشركة وإفادات بعض الشهود في القضية وأمام قيمة الأموال التي جناها سامي الفهري طيلة 7 سنوات.
تشير شهادة سامي الفهري إلى أنه أسس شركة كاكتوس في فيفري 2002 برأس مال قدره 13 ألف دينار، في حين يذهب تقرير الاختبار العدلي في المحاسبة إلى أن القانون الأساسي للشركة سُجِّل بتأخير أكثر من سنة، أي في 13 فيفري 2003، وأنه لا يوجد أثر بنكي لتحرير ودفع رأس مال قيمته 13 ألف دينار، مثلما زعم سامي الفهري، وهو ما يضع الشركة تحت طائلة الفصل 104 من مجلة الشركات التجارية.
هذا ويشير الاختبار العدلي إلى أنه “تم استيعاب الفارق الذي يمثل مقدار رأس المال أي 13.000 دينار، من الحصة الراجعة للشركاء عند أول عملية توزيع للأرباح، وقد تم بنسب متفاوتة بمقدار 326 دينار للشريك سامي الفهري (عوضا عن 6.300 دينار حسب نسبة المساهمة)، و12.674 للشريك بلحسن الطرابلسي (عوضا عن 6.700 دينار فقط حسب نسبة المساهمة)”. هذه المعطيات تؤكد أن شركة كاكتوس للإنتاج لم يكن لديها رأس مال فعلي، وكل ما في الأمر أنه عندما تم تحرير رأس المال ساهم سامي الفهري بمبلغ قيمته 326 د في حين كانت مساهمة بلحسن الطرابلسي بمبلغ قيمته 12.674 د.
من هنا انطلقت حكاية الشراكة التي ستخترق مؤسسة التلفزة وتُحوّلها إلى حريف حصري لشركة كاكتوس. ومنذ جويلية 2003 إلى حدود سنة 2010 سيُراكم سامي الفهري وبلحسن الطرابلسي ثروة طائلة، قُدّر نصيب الأول فيها بـ21,370168 مليون دينار خام، بينما بلغ نصيب الثاني 20,197005 مليون دينار.(حسب ما ورد في تقرير الاختبار العدلي). فكيف تمكّن هذين الشريكين من الحصول على هذه الأموال الطائلة؟
منذ جويلية 2003، التلفزة التونسية حريف حصري لكاكتوس
حسب إفادات عادل هلال، المسؤول بالإدارة القانونية للتلفزة، فإن “مؤسسة التلفزة تعاملت في الفترة الممتدة بين 16 جويلية 2003 و31 ديسمبر 2010 مع شركة كاكتوس للإنتاج في شخص ممثّلها القانوني سامي الفهري في 23 صفقة جميعها بموجب التفاوض المباشر ومنها 10 صفقات لم يُبرم في شأنها أي عقد كتابي”. وطيلة تلك الفترة كانت التلفزة الوطنية الحريف الوحيد لكاكتوس برود. وقد تم التعامل بين الطرفين وفقا لصيغتين: تمثلت الأولى في إنتاج برامج محددة الثمن بموجب عقود كتابية أو ملاحق، أما الصيغة الثانية فهي الإنتاج وفق آلية المقايضة بالإشهار.
بمقتضى الصيغة الأولى تم إبرام عقد إنتاج 52 حلقة من برنامج “آخر قرار” في 27 أكتوبر 2003 مع الوكالة الوطنية للنهوض بالقطاع السمعي البصري (يترأسها آنذاك ابراهيم فريضي)، وعقد انتاج 120 حلقة من برنامج “أحنا هكة” في 10 فيفري 2008. بلغت كلفة إنتاج برنامج “آخر قرار” مبلغا قدره 5,524 مليون دينار أي ما يعادل 87 ألف دينار للحلقة الواحدة. بينما بلغت كلفة إنتاج برنامج “أحنا هكة” مبلغا قيمته 5,400 مليون دينار، أي ما يعادل 45 ألف دينار للحلقة الواحدة، وبفضل هذا البرنامج حققت شركة كاكتوس سنة 2008 أرباحا بقيمة 3,226023 مليون دينار وانتفعت بخدمات مجانية من مؤسسة التلفزة قيمتها 1,585800 مليون دينار.
علاوة على ما يلاحظ من ارتفاع في كلفة الانتاج، فإن الصفقة الثانية المتعلقة ببرنامج “أحنا هكة” نَجم عنها عجز مالي في ميزانية التلفزة، يبرز أثره في الطلب الذي تقدم به رافع دخيل وزير الاتصال الأسبق في 20 نوفمبر 2008 (بصفته ممثلا لسلطة إشراف) إلى وزير المالية، يحثه فيه على إسناد اعتماد إضافي للتلفزة قيمته 4,7 مليون دينار لخلاص إنتاج 120 حلقة من برنامج “أحنا هكة”.
من جانب آخر تَبرز الصفقات المُبرمة وفق آلية المقايضة بالإشهار « bartering » كشبهة فساد قوية في الملف. هذه الصفقات أبرِمت بين سنتي 2005 و2010، وشملت بعض البرامج التي لم تُحرر في شأنها عقود بين الطرفين من بينها “دليلك ملك 2006 و2007″ و”وحدك ضد100″ و”مكتوب 1”. وقد اقتضت هذه الصيغة أن تتنازل كل من الوكالة الوطنية للنهوض بالقطاع السمعي البصري والتلفزة التونسية عن عائدات الإشهار لصالح شركة كاكتوس وتمكينها من بيع 16 دقيقة ونصف استشهار كحد أقصى. ولكن لم يتم احترام هذه الاتفاقية وشهدت كل البرامج التي تدخل ضمن هذه الآلية تجاوزات في المساحات الإشهارية، قدّرها الخبراء بحوالي 22,214424 مليون دينار باعتبار إشهار البرامج.
وقد ساهم تأثير بلحسن الطرابلسي وشريكه على المُستشهرين في الإضرار بعائدات الإشهار التي كانت تجنيها التلفزة. ويبرز هذا التأثير في شهادة المنصف قوجة، أحد المتهمين في الملف والذي ترأس سابقا مؤسسة الإذاعة والتلفزة من 01 سبتمبر 2007 إلى 06 جويلية 2008، حيث أشار إلى أن “شركة كاكتوس ومن يقف وراءها هم من سعوا إلى عرقلة مساعي مؤسسة التلفزة في جهودها الرامية إلى جلب كبار المستشهرين لاقتناء مساحات إشهارية خلال بث برنامج “أحنا هكة” ذلك أن هؤلاء المستشهرين لم يترددوا عندما تواصل إنتاج 25 حلقة جديدة من نفس البرنامج وفق آلية المقايضة بالإشهار”.
الجميع في خدمة شركة كاكتوس
تسمح إفادات المتهمين والشهود في الملف بتشكيل صورة واضحة حول النفوذ الذي كانت تمارسه العائلة الحاكمة السابقة من أجل السطو على المال العام وإغداق البعض منه على شركائها، مستندة في ذلك إلى سلطة الأمر التي يمثلها الرئيس بن علي، بالاستعانة بمستشاريه ووزرائه. وفي الأثناء كانت المصالح الإدارية تنفذ التعليمات عبر رؤساءها الذين يشكلون جزءا من منظومة الامتيازات.
كانت التلفزة التونسية مرتعا فسيحا لصهر الرئيس الأسبق وشريكه، حيث أُبرِمت عقود الانتاج دون تفعيل المنافسة ودون الالتزام بالقواعد المنظمة للصفقات العمومية، وجزء كبير من البرامج المنتجة لم تُبرم في شأنه عقود. منذ سنة 2003 إلى غاية 2010، وضعت شركة كاكتوس على ذمتها معدات التلفزة وتقنييها وأعوانها، وهو ما جعل قيمة الأرباح تصل في بعض الأحيان إلى 62 بالمائة مقارنة بكلفة الإنتاج.
هذه الحظوة الاستثنائية، وفّرها الرئيس بن علي عبر مستشاريه عبد الوهاب عبد الله ومحمد الغرياني، وفي بعض الأحيان كان يتصل مباشرة بمديري التلفزة ووزراء الاتصال لحثهم على توفير المبالغ المالية التي تشترطها شركة كاكتوس. في هذا السياق تشير شهادة الهادي بن نصر، رئيس مدير عام للتلفزة من 2005 إلى 26 جوان 2009، إلى أنه تم استدعاؤه يوم 21 أوت 2008 من طرف الوزير المستشار لدى رئيس الجمهورية المكلف بقطاع الإعلام محمد الغرياني إلى مكتبه برئاسة الجمهورية ليبلغه توصيات الرئيس قائلا “الرئيس بن علي يعتبر التلفزة ملكو ومتاعو وراهو يتبع بأدق التفاصيل كل برامجها وتعاملاتها مع مزوديها وخاصة برامج كاكتوس متاع انسيبو بلحسن الطرابلسي”. في نفس السياق تشير شهادة ابراهيم الفريضي، مدير الوكالة الوطنية للنهوض بالقطاع السمعي البصري سنة 2003، إلى أن عبد الوهاب الله دفع نحو إبرام أول عقد بين التلفزة وشركة كاكتوس لإنتاج برنامج “آخر قرار” ، وقد كان يشغل آنذاك خطة ناطق رسمي باسم رئاسة الجمهورية.
ولئن كانت شهادات المسؤولين السابقين للتلفزة تُضمر رغبة في التفصّي من المسؤولية فإنها تعكس جزءا من واقع استغلال النفوذ الذي ساد في الحقبة السابقة، والذي ترتبت عنه امتيازات جَعلت بعض الأشخاص يتحولون إلى أثرياء بمجرد علاقات الشراكة التي جمعتهم بـ”الطرابلسية”. ولكن هل أسست الثورة قطيعتها الخاصة أم أن هذا الواقع أعاد تشكيل نفسه بمضامين جديدة وبفاعلين آخرين عوّضوا آل الطرابلسي؟ هذا السؤال سنسعى للإجابة عنه في الجزء الثاني من التحقيق.
Le journaliste écrit , décrit, rassemble les éléments, et le peuple dispose… Et la justice ? à l’époque la télé et la justice était la propriété de Ben Ali . En fait aujourd’hui la télé nationale et la justice sont la propriété de qui ? J’ai posé la question à quelqu’un à qui je fait confiance, il m’a répondu, la propriété du peuple ! je suis resté très étonné …. On attend le deuxième volet de ce dossier .
Bravo.