عشية الإضراب العام وبُعيده سِيقَ المئات من النقابيين والمعطلين والعمال إلى المحاكم في إطار حملة إيقافات عشوائية شنها نظام بورقيبة، وقد أُحِيل البعض منهم على أنظار المحاكم العادية، في حين أحيلت “مجموعة المؤامرة” على محكمة أمن الدولة التي تم إرسائها في جويلية 1968 للنظر في “الجنايات والجنح المرتكبة ضد أمن الدولة الداخلي أو الخارجي أو في التحريض بأي وسيلة كانت على تلك الجنح أو الجنايات”. بلغ عدد المُحالين على محكمة أمن الدولة 30 شخصا وهم أساسا معظم أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد برئاسة الحبيب عاشور وكتّاب عامين للاتحادات الجهوية وللجامعات القطاعية وبعض الفاعلين في النقابات العامة والأساسية.

محكمة أمن الدولة: آلية لتصفية الحسابات السياسية

تكشف حجج الإدانة الواردة في نص الحكم الذي أصدرته محكمة أمن الدولة عن مراكز الهيمنة داخل النظام الحاكم وآلياتها في إدارة التوترات السياسية والاجتماعية. في الظاهر كانت المحكمة جهاز دولة ولكنها كانت آلية بيد جزء من منظومة الحكم التي كانت تعيش آنذاك تحوّلا هيكليا على مستوى أخذ القرار. كان نص الحكم يدافع بشدة عن فرضية التآمر على الحكومة، وخصوصا التآمر على ثالوث الهيمنة: الهادي نويرة (الوزير الأول)، عبد الله فرحات (وزير الدفاع) محمد الصياح (مدير الحزب الحاكم ووزير معتمد لدى الوزير الأول). في هذا السياق استند نص الحكم أكثر من مرة إلى تصريح إعلامي أدلى به الحبيب عاشور لجريدة الصباح يوم 11 جانفي 1978، قال فيه “لا يمكن الخروج من الأزمة مادام يحكم البلاد سياسيا ثلاثة أشخاص فقط نويرة والصياح وفرحات” ليتم من خلاله إثبات تهمة “تبديل هيئة الدولة”، وللإقناع أيضا بوجود مؤامرة نسَجتها قيادة الاتحاد مع أطراف خارجية، هي أساسا نظام معمر القذافي في ليبيا، ومع أطراف “مناوئة للنظام” هما الوزيران السابقان أحمد بن صالح ومحمد المصمودي.

⬇︎ PDF

رغم أن تنقلات الحبيب عاشور أواخر 1977 إلى ليبيا كانت تحت الضوء، فإن نص الحكم أعطاها صبغة المؤامرة، حيث ورد فيه “ولئن كان من الوارد في الاعتبار أن بعض هذه التنقلات الأخيرة تندرج في نطاق النشاط المهني النقابي فإن الأمر على خلاف هذا التصور بالنسبة للتحول إلى ليبيا في مرتين متقاربتين خلال سنة 1977 والاجتماع في المرتين مع محمد المصمودي يبدو أنه لم يكن من قبيل الصدفة سيما وقد صرّح محمد المصمودي في شهادته بأنه هو الذي هيأ له المناخ الملائم لزيارته إلى ليبيا واجتماعهما معا في المرة الثانية مع العقيد معمر القذافي”. بالإضافة إلى هذا اتُّهِم الحبيب عاشور بالتحالف مع أحمد بن صالح، رئيس حركة الوحدة الشعبية، المقيم خارج تونس آنذاك. وقد وُصِفت أهداف هذا التحالف بـ”معاداة النظام والكيد له”، واستنتجته محكمة أمن الدولة من خلال كلمة ألقاها الحبيب عاشور في اجتماع الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل يوم 15 نوفمبر 1977، أشار فيها إلى أن أحمد بن صالح هاتفه للإطمئنان على صحته و”اعتذر له ثلاث مرات”.

من الملفت للانتباه أن الحكم الصادر عن محكمة أمن الدولة لم تستند بنيته الحجاجية إلى معطيات أمنية أو استخباراتية متعلقة فعلا بوقائع ملموسة تهدد أمن الدولة الداخلي والخارجي، وإنما استندت إلى تصريحات إعلامية سواءً تلك التي أدلى بها الحبيب عاشور أو الأطراف المنسوب إليها المشاركة في المؤامرة. وهنا يبرز التوظيف المتعمد لخلافات سياسية سابقة كآلية محددة في صياغة نص الحكم وفي تصفية قيادة الاتحاد والفاعلين في الحراك الاجتماعي، لأن الفاعلين المُقحمين في المؤامرة تجمعهم خلافات سياسية سابقة مع حكومة الهادي نويرة، فمحمد المصمودي ومن خلفه نظام القذافي يعود خلافهم مع مجموعة الهادي نويرة إلى قضية الوحدة الليبية-التونسية الممضاة في 12 جانفي 1974، والتي لعب نويرة ووسيلة بورقيبة دورا كبيرا في إلغائها. أما الخلاف مع أحمد بن صالح فيعود إلى تجربة التعاضد أواسط الستينات التي دشنها هذا الأخير ولعب الوزير الهادي نويرة دورا كبيرا في إلغائها سنة 1969 ومحاكمة صاحبها بتهمة “الخيانة العظمى”، لتدخل بذلك تونس مرحلة اقتصادية جديدة يُطلق عليها المؤرخون “العهد الليبرالي”. ولعل استحضار هذه الأطراف وحشدها في السردية الرسمية للأحداث كان الهدف منه إخراج الحركة الاحتجاجية من سياقاتها الاجتماعية والنقابية ومنحها صبغة “المؤامرة” و”النية المبيتة” لقلب نظام الحكم.

طمس النضال الاجتماعي

حرصت المحاكمة السياسية لمحكمة أمن الدولة على تغييب الأسباب الاجتماعية والاقتصادية للانتفاضة الاجتماعية التي قُمِعت بالرصاص الحي –قتلا وجرحا- وبالإيقافات والطرد من العمل والشيطنة الإعلامية. في هذا السياق اقترن الفعل الاحتجاجي في رواية أمن الدولة بالتخريب والاعتداءات على الأملاك العامة والخاصة، وهو ما يلخّصه هذا المقتطف من نص الحكم ” فكان ذلك اليوم يوما أسود بحق في تاريخ البلاد التي تعرضت فيه لأبشع أنواع الاعتداء على الأشخاص في ذواتهم وكراماتهم وأموالهم فأضرِمت الحرائق ونُهبت الأرزاق وأزهِقت الأرواح البريئة وأصِيب عدد كثير بجراح وحُطِّمت السيارات وهوجِمت المؤسسات الخصوصية والعمومية ولو لا تدخل الجيش الذي كان ضرورة حاتمة لا مندوحة منها وإعلان حالة الطوارئ لدُمرت البلاد”. وقد نُسبت الكثير من هذه “الجرائم” إلى الفاعلين النقابيين رغم أن الكثير من الوقائع تشير إلى أن أغلبهم كان يوم 26 جانفي 1978 مُحاصرا من قبل أجهزة البوليس داخل مقرات الاتحاد المركزية والجهوية، إلى أن تم اقتيادهم إلى مراكز الاعتقال.

لئن اعترفت محكمة أمن الدولة بقوة الهبّة الشعبية من خلال الإشارة إلى أن “الإضراب لم يقتصر على الإمساك عن العمل فقد نزل المضربون إلى الشارع في تظاهرات عارمة لم يتمكن السيطرة عليها من طرف أعوان الأمن الذين غُلبوا على أمرهم”، فإنها نَزعت عن الجماهير وعيها الاجتماعي بتدهور أوضاعها الحياتية وتذيلها الأعمى للتحريض النقابي. علاوة على هذا اجتهدت المحكمة في طمس البعد الداخلي للأحداث وتضخيم فرضية المعطى الخارجي من خلال الإشارة إلى وجود “تيارات عقائدية وافدة من الخارج تسللت إلى تونس بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل باتجاهاتها المختلفة والتي لا توجد بينها سوى مناوأة النظام ومعاداته”. وقد لقي هذا الخطاب السياسي رواجا في أجهزة الدعاية الرسمية وتم استنساخه في معظم المراحل التاريخية التي شهدت فيها البلاد هبات شعبية مماثلة، ومازالت بعض ظلاله تطل على الخطاب السياسي المهيمن حاليا، رغم تغير السياقات والظروف.

المراجع المعتمدة في المقال:

-مجموعة مؤلفين. المحاكمات السياسية في تونس 1956-2011، ط أولى، تونس: المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، 2014.

-محمد الكحلاوي. معركة 26 جانفي 1978، ط أولى، تونس، 2011.