تدخل بلاد السباسب العليا من القلعة الخصبة كأنك تدخل مملكة معلّقة فوق الجبال. ألف متر فوق سطح البحر. بعيدا عن المتوسط، قريبا من جبال الأوراس، تبدو السماء قريبة وتعجب من ظهور النجوم مع غروب الشمس. تستطيع أن تمد ناظريك إلى المنتهى كأنك فوق السحاب. أمامك مدن قديمة منثورة فوق سلسلة جبال الظهرية، نوميدية الاصل رومانية التأسيس، عندما تعرف تاريخها قد تعتبر العصيان جزءا من تكوينها. أرضها صلبة وطقسها بارد وهواؤها جاف، المناخ شبه قاري، قاس جدا ولكنه جميل. من حيدرة مركز الكتيبة الرومانية الثالثة منذ القرن الثاني ق.م إلى سبيطلة عاصمة القائد البيزنطي جرجير في 646م، مدن عرفت العمران والتجارة والحرب وارتقى بعضها إلى رتبة مونيسيبيوم (municipium) وتشهد الآثار والنقائش والضيعات الامبراطورية ومعاصر الزيتون على ماضيها التليد. تعيد أطلال الماضي المبعثرة في الطريق طرح تساؤل قديم؛ كيف لمدن كانت عواصم لقرون طويلة أن تنتهي أشباه قرى طاردة لسكانها؟ لماذا يكون ماضي الجهة أفضل من حاضرها على عكس التطور الطبيعي لحركة التاريخ؟

تالة، البلاد الحرشاء

تالة دائرة بلدية منذ 1904. تربط أفقيا الجزائر بسليانة وسيدي بوزيد وعموديا الكاف بالقصرين أقام فيها الفرنسيون مركزا للمراقبة المدنية ومثلت لعقود منطقة استراتيجية عسكريا واقتصاديا. وصلنا سقف البلاد التونسية(1020 متر فوق سطح البحر) حوالي السادسة مساء. ترقد من عين تالة إلى حي بولعابة مدينة أثرية أورثت المكان شوارعا فسيحة مُعبدة بالحجارة. يُسلّمك التاريخ القديم إلى الوسيط؛ السوق والجامع، شرقا حي الناظور وغربا حي النجارية، أحياء في الجبل تهبط على المدينة. تتوقف رحلتنا الواقعية والمجازية عند الجزء الحديث (الكولونيالي) والمعاصر (الاستقلال) من المدينة بسبب قطع الطريق بالحجارة والعجلات المحترقة. وراء ”خط النار“ تستطيع تبين ”المعركة“؛ ميدانها الشارع الرئيسي وبعض الأنهج المؤدية إليه، طرفاها شبيبة جامحة وأمن ”مائج“ وأسلحتها حجارة وقنابل غاز.

المقاهي شمال المدينة مفتوحة. التقينا أصدقاء في مقهى بلعابد، حرارتهم في السلام والسؤال عن الأهل والصحة والعمل تنسيك البرد الشديد. قبل الحديث عن الأوضاع يجب أن تأكل وتشرب وتدخن، وإياك أن تعتذر فلست مخيّرا في ذلك. تذكرني هذه الحفاوة بأيام ”قوافل الشكر“ في 2011 حيث تستقبل لجان التنظيم الوافدين باللحم المشوي وتودعهم بالماء العذب والعسل. نُسِر بلطف لمضيفنا أننا راغبون في الاقتراب أكثر من المواجهات فيجيبنا واثقا أنه مازال مبكرا وأن العرض الحقيقي يبدأ مع التاسعة ليلا. نجول في الأثناء في ”المنطقة المحررة“، لا أثر مطلقا لمركز الشرطة القديم فقد أصبح مأوى سيارات. المدرج الكبير للنجارية أصبح تحفة فنية بفضل الرسوم والألوان على حوافه. البلدية والمعتمدية قصران بديعان. الحديقة الأثرية أصبحت بدورها أثرية. حركة الناس والعربات بطيئة والقشابية زي رسمي.

اندلعت المواجهات في تالة في سياق الاحتجاجات على الترفيع في الأسعار، بدأت يوم السبت 6 جانفي 2018 وسرعان ما تحولت إلى صدامات مع قوات الأمن. صباح يوم الاثنين 8 جانفي وصل المدينة وفد مشترك بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل ضم الوزراء مبروك كرشيد ومحمد الطرابلسي والأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي لمحاولة التهدئة والمشاركة في إحياء الذكرى السابعة لـ”معركة“ 8 جانفي 2011 أو ”يوم الشهيد“ كما تسمّيه لجنة التنظيم.

رغم ذلك اندلع ما كان متوقعا من تجمعات في النهار واشتباكات في الليل. لم يطل الوفد البقاء وأثارت تركيبته وسرعة حلوله ومغادرته كثيرا من الامتعاض. ”لا ندري إن كان وفد معارضة أم وفد حكومة“ يتندّر بعض من عاركتهم الأيام. السنة الفارطة جاء الناطق الرسمي باسم الحكومة إياد الدهماني ووزير الفلاحة سمير بالطيب. ”هؤلاء ملحقون بالسلطة ومهامهم تعويم الاحتجاجات وتقبل صدماتها. كل 8 جانفي يأتينا أمثالهم ولكنهم يرحلون عن الحكومة قبل جانفي الموالي. في السنة القادمة ستأتي وجوه جديدة لا تملك أمرها فما بالك بحل امورنا“ يقول زياد، 32 سنة، جامعي و عاطل عن العمل.

امتعاض مضاعف من مشاركة نور الدين الطبوبي في وفد الحكومة رغم الترحيب بحضوره؛ في تالة تقاليد عمالية ونقابية منذ بداية القرن الماضي، تدعّمت بتركيز معمل الإسمنت الأبيض وارتفاع وتيرة استخراج وصناعة الرخام. كما شهدت دورا نشطا خلال أحداث جانفي 1978 قادته عناصر ومجموعات نقابية وسياسية يسارية والأمر سيان في انتفاضة الخبز سنة 1984. وقد لعب الاتحاد المحلي دورا أساسيا في احتضان الحركة الاحتجاجية في 2011 ومازال مقره إلى اليوم مفتوحا للاعتصامات والاجتماعات. ربما لكل ذلك أبدى الحاضرون أسفا من قدوم قيادة الاتحاد مع وفد الحكومة كأنهما وفد واحد، وقد كان الأمر كذلك فعلا. للأسف.

باستثناء الطبوبي ورمزية قدوم الأمين العام بنفسه، فإن تركيبة وفد الحكومة كانت ضعيفة وبدت زيارتها أقرب إلى رفع الملامة وتسجيل الحضور -في يوم شديد الرمزية في تاريخ الثورة التونسية- منها للحوار والتفاوض حول آليات الحسم في ملفات الجهة العالقة كما توقع سكانها، وفي مقدمتها بناء المستشفى الجهوي (ميزانية مرصودة منذ 2007 حسب الشهادات) وتسوية الوضع العقاري والبيئي وتقنين تجارة الرخام. وسرعان ما رحل الوفد إلى القصرين للمشاركة في ”يوم الشهيد“ ولم يجدوا هناك ما ينسيهم خيبتهم في تالة. لم يكن الامر مختلفا كثيرا في السنوات السبع العجاف السابقة، ”تأتي الوفود وتُطلق الوعود وتطير إلى القصرين“ يقول بلال، 35سنة، موظف. وقد تصل تونس قبل العصر وتكون بذلك الحكومة قد شاركت ابناء الثورة احياء ثورتهم. في حين انها تهينهم من حيث لا تدري. او ربما تدري.

لم تنجح زيارة الوفد في تهدئة الامور بل زادت من تأجيجها. ”انهم لا يأخذوننا على محمل الجد“ يضيف بلال. حتى من كان مترددا أو مراهنا على إمكانية التهدئة بعد الزيارة خاب ظنه، لا يتعلق الأمر بمواطنين عاديين بل بممثلين للنهضة والنداء. ”حزب تالة“ أقوى من كل الانتماءات الأخرى. قد يكون هذا مؤشر ”أقلمة“ خطير على ”الوحدة الوطنية“ وقد يكون مؤشر وعي أخطر على فوقية العملية السياسية وانعزالها عن المجتمع.

تطورت الأمور في المساء؛ عادت العائلات من المقبرة وخرج التلاميذ من الأقسام واستيقظ السّهارى واشتد البرد. بدأت مناوشات في مستوى مدخل ”حي الدزيرية“، سرعان ما انتشرت مثل بقع الزيت على طول الشارع الرئيسي. كانت الأعنف مقارنة بالأيام الأخيرة وكيف لا تكون كذلك واليوم هو 8 جانفي. أحيت الشبيبة ذكرى ثورتها على طريقتها وتصدت قوات الأمن لهم بقنابل الغاز، التي رمتها في كل حدب وصوب. على الساعة الواحدة صباحا انتهت المباراة بالتعادل؛ ”نجح“ المحتجون في افتكاك الشارع إلى مستوى معهد ابن شرف ونجح أعوان الأمن في الدفاع عن منطقتهم وجوارها. 3 إيقافات وسيارة شرطة متضررة وأمني مصاب ورائحة الغاز تفوح في كل مكان.

لا حياد مع الحقيقة

الأربعاء 11 جانفي أفقنا على إضراب معهد ابن شرف وإعدادية 25 جويلية 1957. عمال البلدية يمسحون آثار المواجهة والأمن في منطقته والشارع الرئيسي هادئ والمقاهي منتديات سياسية. التقينا أصدقاء وناشطين وفهمنا أن الغضب ساطع وأنه يتخذ عند المساء شكل المواجهة العنيفة مع الأمن الداخلي تحديدا، دون الحرس والجيش، حيث تتغير تركيبة الشارع لتصبح شبابية أكثر ومخفية بالكامل.

من هؤلاء الشباب الذين يضربون قوات الامن بالحجارة دون خوف ؟ ماهو الدافع وماهو تفسيره ؟ هل هو حقا غلاء الأسعار كما تقول بعض المعارضة؟ أم هو للتخريب والسرقة كما تقول السلطة؟ أم هو لأمر آخر؟ ذهبنا بالسؤال إلى حي النجارية، الذي يحتل ثلث الجانب الشرقي للمدينة-الجبل، ويهبط على شارعها الرئيسي من أنهج ومدرجات كثيرة. تستطيع أن تصعد 100 متر على درج منحوت في الصخر، أغلب بيوته مصنوعة من الحجارة نفسها وليست من الآجر. تقول الحكمة المحلية أن ”بيت الحجر“ دافئة في الشتاء وباردة في الصيف. وقد تقول العلوم الاجتماعية أن الإنسان يؤنسن الطبيعة بمثل ما تطبع به الطبيعة الإنسان. في النجارية بالذات، يصدق هذا القول كثيرا.

القهر والظلم هي اكثر الكلمات ترددا. ”لماذا يلقون قنابل الغاز المسيلة للدموع فوق اسطح المنازل؟ هناك اطفال ونساء وشيوخ ومرضى. نحن نختنق. انهم يقتلوننا. لماذا يضربون ويسبون كأنهم جنود دولة احتلال؟ لم ننسى ما فعلوا يوم 8 و9 جانفي 2011 وسوف نحمي انفسنا ونطردهم“ يتسائل جمال، 58 سنة، ميكانيكي. بعض من التقيناهم كانوا أحرص منا على تقصي حقيقة ما يحصل، أغلبهم جازم يستبق سؤالك بالجواب النابع من تجربة؛ ”لماذا خرجنا؟ لأن للصبر حدودا. لماذا نخرج بالليل؟ حتى يستحيل على الأمن تصويرنا. هل حصل تخريب ؟ لم يقع المساس بأي ملك عام او خاص. سرقات ؟ أبدا. خلع بنوك وفضاءات تجارية كبرى ؟ لا، وهي اصلا غير موجودة. مطالبنا مشروعة؟ إذا كانت مشروعة ولا تتحقق فما فائدة القول بشرعيتها. اهدؤوا ونعدكم بالحلول ؟ 8 سنوات من الوعود، كل عام يأتي الوفد الوزاري ويعطي وعودا ولا تتحقق وتأتي الانتخابات وتعطي الاحزاب وعودا ولا تتحقق“. يقول متساكنون من حي النجارية

سيل عارم من الكلام، دون تحفظ أو تكلف. من طفل السنوات العشر حتى الشيخ المسن. شيء ما يشبه رغبة في إجلاء الحقيقة كما هي؛ ”لماذا لا يصدقوننا؟ نحن لسنا همجا ولن نخرّب بلادنا، نريد حقنا فقط“. قد تكون هذه خلاصة الشهادات التي جمعناها من حي النجارية. أكثر الأحياء صخبا وأشدها فقرا وأعنفها عند المواجهة. لا يمكن أن تنسى تلك العيون الحائرة التي تجحظ فيك. أنت معنا ام ضدنا. هكذا تقرأها. لا حياد مع الحقيقة. لا تستطيع أن تبحث عن الحقيقة عند الأمن، ليس تجنيا ولكن الامر لا يستقيم فلسفيا رغم جوازه واقعيا، فالحقيقة في صف السلطة وحقيقة التاريخ يكتبها الأقوياء. انتقل مركز الأمن في تالة بعد حرقه في 9/ 10 جانفي 2011 من مقره القديم في الشارع الرئيسي وسط المدينة إلى شارع خلفي في جنوبها الغربي الأقل حركة. كان واضحا في محيطه حالة التأهب والانتظار. بعد ليلتين من المواجهات التي كان رهانها السيطرة على الشارع الرئيسي راجت اخبار عن اعتزام الأمن مغادرة المدينة، لكنها بدت إشاعة لتهدئة الخواطر أكثر منها معلومة مؤكدة؛ “يريدون حرق المركز. يريدون حرقنا. يسبون أمهاتنا بأبشع النعوت. يستغلون الليل للمباغتة والتخفي. نحن مضطرون للمواجهة. لا نريد خسائر ولا ضحايا وقد نكون متضامنين معهم. نحن نعمل في ظروف صعبة. تعليماتنا تقضي بضبط النفس. الايقافات تتم بالتنسيق مع النيابة العمومية. نحن في الواجهة. هناك مجرمون ومهربون يستغلون الاوضاع. الارهاب ليس بعيدا. المشكلة اجتماعية وسياسية فما دخلنا. لماذا يكرهون الامن“ ؟ كانت هذه ردود الامنيين. قريبا من المقهى المحاذي لمنطقة الحرس بنفس الشارع جنوب غرب المدينة أو المحلات المجاورة. أغلبهم امنيون شباب لا يعرف تالة، يستثيره الاستفزاز وقد يجتهد في التصدي لما يعتبره خطرا محدقا.

”فلان“  والبوليس

”الشارع لنا“. المحتجون يريدون ذلك والأمن متعود على ذلك. بين المحتجين والأمن، كان افتكاك الشارع هو رهان ”الاشتباك“. طوال اليوم هدوء واجتماعات ”سلمية“، وفي الليل تبدأ المعركة. هل يمكن اعتبارها معركة سياسية بالنظر إلى الشارع الرئيسي كـ”منطقة متنازع عليها“ ولفئة الشباب إياها كـ”تنظيم“ ؟ لم نطل الانتظار. وُلد السؤال كافتراض مبني على شهادات اليومين السابقين وشهدنا بأنفسنا على أرض الواقع نقاش تفاصيله. الساعة الخامسة مساءًا أعلن الغروب بداية العرض. لا يستطيع المحتجون النزول إلى الشارع الرئيسي ولا يستطيع الأمن الدخول الى الأحياء. تدريجيا ترتسم منطقة الاشتباك الأولى، من أمام مدرسة الثقافة وسط المدينة إلى نهج الجزائر آخر مدخل النجارية جنوبا، حوالي 500 متر في الشارع الرئيسي. يحاول المحتجون النفاذ إليه لغلقه بالحجارة والعجلات المحترقة والهدف من ذلك منع سيارات الأمن من حرية الحركة وعزلها بالكامل عن شمال المدينة. يتصدى الأمن لهذه المحاولات بإلقاء الغاز المسيل للدموع من داخل عرباته باتجاه المتجمهرين خلف الأنهج والمدارج. يجري الأمر إلى حدود التاسعة ليلا في ظروف أشبه بجس النبض. الكثير من المحلات والمقاهي مفتوحة، يشم روادها الغاز مثل سائر الناس. يكون حينها الشباب قد أنهى تحصين أحيائه بالكامل عبر إقامة ما يشبه السواتر الترابية، ولكن  بالحجر. انطلاقا من العاشرة ليلا تتجدد طاقة الشبيبة ويشتد الضغط على الأمن من جهات مختلفة، ربما يتطلب الأمر مقابلات وحوارات لفهم كيمياء ما يحصل، ولكن مبدئيا تصل إلى شبه قناعة بأن هؤلاء المراهقين ليسوا بالضرورة فقراء مُعدمين، على الاقل من خلال هيئتهم.

ما الذي يحاربون من أجله بهذه القوة؟ ينادون بعضهم بـ”يا فلان“، تشعر أنه إطار انتماء وهوية مشتركة، متفهمون ومتضامنون مع بعضهم وعدائيون جدا ضد الأمن. محلّيون جدا ومُعولَمون في نفس الوقت. بدت لي ”يا فلان“ أقرب إلى ”يا جمعية“ لدى مجموعات ”الالتراس“ منها لـ”يا رفيق“ أو ”يا أخ“ لدى الجماعات الإيديولوجية. ”فلان“ هو شاب بين الـ14 والـ22 سنة، رياضي قادر أن ”يحادف“ أربع قطع حجرية في أقل من عشر ثواني. قادر أن يرد قنبلة الغاز باليد أو القدم بطريقة استعراضية دون اهتمام بخطر احتراق يده أو حذائه. قادر أن يُوصل صوته اللاعن للبوليس مثلما يُوصل له حجارته. لا يهرب عندما تهجم سيارة الأمن ولا يتردد في الهجوم عندما تحين الفرصة. يبدو أن الأحياء تتنافس في إبداء القوة، وفي تقديم أكبر عدد من ”الفولانات“. لكل حي سمعته وشهداؤه، في أوقات الهدوء قد تحصل خصومة سرعان ما تُحل ولكن في جانفي كل الوقت خصومة مع الأمن. وفي جانفي تتّحد الأحياء ويصبح ”فلان“ تنظيمها المشترك، تنظيم سري وعلني، دون تراتبية ولا قيادة، مفهوم القيادة نفسه يتحول، يصبح ميكرو قيادة ومؤقتا في الزمان والمكان ومتغيرا في الوظيفة. فكرة ”المجهولية“ حاضرة بقوة فـ”فلان“ مُلثم وحريص على إخفاء هويته رغم حرصه الشخصي على أداء ما يفترض أنه دوره.

لم ينتصف الليل حتى انتهت المواجهة بانسحاب الأمن كليا من المدينة تاركا خلفه مركزا يحترق وشبيبة تعلن انتصارها. لم يكن قادرا على رد فيضان ”الفولانات“ بقنابل الغاز فقط بل كان هذا ”السلاح“ سببا في إخراج الناس من بيوتها خوفا من الاختناق. في سنة 2011 كان الحل في الرصاص الحي أما اليوم فقد كانت الحكمة تقتضي ضبط النفس وتجنّب الخسائر في الأرواح. وقد يصدف أن تكون حكمة غريبة. فالمحتجون أنفسهم شهداء في 2011 تأتيهم وفود الحكومة شاكرة صنيعهم، أما اليوم فتضربهم بالغاز دون قتلهم وتسميهم مجددا مخربين وملثمين ومجرمين. لا يمكن أن تفهم ما يحصل من عداوة بين أبناء تالة وقوات الأمن الداخلي دون العودة لوقائع مطلع جانفي 2011. كأن في الأمر تصفية حساب طال أمده. لم تعرف قضية ”شهداء تالة والقصرين“ إنصافا للضحايا وعائلاتهم. ”لن ننسى“ منقوشة في الحيطان والذاكرة.

البلاد الحرشاء؛ اقرأها بالدارجة، قَطّب حاجبيك واغضَب، ”لـبْلاد لْحَرشا“ تخمش من يلمسها. هكذا يفخر سكانها بقسوتها. يتغذى الإحساس لديهم بالقهر والنخوة من عوامل عديدة بعضها هيكلي مرتبط بالبنية الاجتماعية والتاريخية للمدينة وبعضها طارئ مرتبط بعوامل قادحة قد لا تكون محلية بالضرورة. تالة جزء من الوسط الغربي للبلاد التونسية، وهي منطقة أقرب إلى جهات تبسّة والكويف وبكارية والحويجبات وبئر العاتر الجزائرية منها إلى عاصمة تونس. يقسو عليها التاريخ والجغرافيا، وتقسو عليها السلطة المركزية. ولكن سكانها لا يغادرونها. قد يكون الأمر متعلقا بالصقر المحلق في سمائهم. تقول الأسطورة في تفسير اسم جبل بولحناش المتربع قبالتها أن معشوقة الفارس الأمازيغي المجهول قد اشترطت عليه نحت الجبل في شكل الصقر صائد الأفاعي الذي يسكن قمته. حاول العاشق دون جدوى لكن سكانه تكريما لفارسهم اعترفوا  بالجبل تحت اسم بولحناش. وقد يكون كذلك إذا امعنت النظر. فكيف يغادر الصقور قمم الجبال؟