مع انتهاء موجة الاحتجاجات التي عرفتها تونس إثر حملة “فاش نستناو” ضدّ قانون ميزانيّة 2018 وما رافقها من اعتقالات عشوائيّة واعتداءات بوليسيّة على المحتجّين في مختلف مناطق البلاد، صوّبت وزارة الداخليّة سلاحها القمعيّ هذه المرّة تجاه الصحفيّين. من المحتجّين إلى الصحفيّين، لا تنفكّ وزارة الداخليّة عن محاولات العودة بكامل ثقلها الاستبداديّ إلى الحياة السياسيّة، مُتمسّكة بثقافة أمنية معادية للحريّات وموروثة عن النظام السابق.

اعتراف الداخلية بالتنصت وتهديد بالاعتداء على الصحفيين

انفجرت الأزمة الجديدة بين الصحفيّين ووزارة الداخليّة، إثر تصريحات لطفي براهم في البرلمان والتي قال فيها إن “حرية التعبير لا تعني التهجم على الآخر والدعوات إلى الانقلاب والتحريض والتشكيك في مؤسسات معينة أو في أفراد”، مُضيفا “كل إنسان مسؤول عن تدويناته وأقواله والقضاء هو الفيصل”، فضلا عن اعترافه بتنصّت الأجهزة الأمنيّة على الصحفيّين مّما أثار جدلا واسعا داخل الأوساط السياسيّة والصحفيّة مازال متواصلا إلى اليوم. وإثر هذه التصريحات المشحونة بلغة الوعيد والتهديد، عبّر ناجي البغوري، نقيب الصحفيّين التونسيين، عن استغرابه الشديد من اعتراف وزير الداخلية بالتنصت على مكالمات الصحفيين، والذي يعدّ خرقا واضحا للدستور، مُضيفا بالقول “لن نسمح بأن تعود الصحافة إلى مربع الطاعة”. كما أكد البغوري، خلال ندوة صحفيّة عُقدت يوم الثلاثاء 30 جانفي 2018 بمقرّ النقابة، أن “وزارة الداخليّة ليست فوق النقد، وعلى السلطة إيقاف هذا المارد المسمى وزارة الداخلية”.

لم تتوقّف الأزمة عند حدود تصريحات وزير الداخلية الخطيرة، بل دخلت النقابات الأمنيّة على الخطّ لمزيد تعميقها بتصريحات قياديّيها التي تسير في اتّجاه واحد: لي ذراع الصحافيّين وترهيبهم. تحالفت وزارة الداخلية والنقابات الأمنية هذه المرة ضدّ عدوّهما المشترك، وهو الصحافة، للتخفيف من “الجرعة الزائدة” في حريّة التعبير. وفي هذا الصدد، كتب نور الدين الغطاسي الناطق الرسمي باسم نقابة قوّات الأمن الداخلي بصفاقس، على حسابه بفايسبوك مدوّنة دعا فيها صراحة إلى الاعتداء الجنسي على الصحفيّين الرجال، وردّا عليه أصدر فرع نقابة الصحفيّين بصفاقس بيانا، نبّه فيه إلى خطورة تدويناته التي تضمّنت “ألفاظا نابية وهابطة موجهة ضد الصحافيين”، مؤكّدا أن مثل هذه التصرّفات “تضع صاحبها تحت طائلة القانون والمساءلة عدا ما تمثله من دعوة صريحة للعودة إلى ممارسات أمنية قمعية يفترض أن يكون قد ولى عهدها”. كما أصدر فرع نقابة الصحفيّين بقفصة بيانا إثر نشر وحيد مبروك الكاتب العام للنقابة الجهوية لقوات الأمن الداخلي بقفصة “تدوينات على صفحته الخاصة بفايسبوك تضمنت سلسلة من التهديدات بلهجة واضحة وصريحة موجهة ضد الصحفيين، إلى جانب شتم وثلب عديد الصحفيّين واصفا إياهم بأبشع النعوت”. وحسب نفس البيان “قام المدعو وحيد مبروك بتحريض المواطنين على وسائل الإعلام بما يهدد سلامة الصحفيين في جهة قفصة و بقية ولايات الجنوب الغربي”.

التواطؤ السياسي مع انتهاك حرية الصحافة والتعبير

يبدو أن المناخ العام لحريّة الإعلام في تونس بدأ يتّسم تدريجيا بالضيق في ظلّ التمسّك بممارسات استبدادية تريد التحكّم في الصحافة وتطويعها، لذلك توجّهت النقابة الوطنيّة للصحفيّين برسالة مفتوحة، الأربعاء 31 حانفي 2018، إلى الرؤساء الثلاثة أكدّت فيها أن جميع هذه الممارسات التضييقيّة ضدّ الصحفييّن والتي انطلقت إثر تصريحات رئيس الجمهورية ضدّ مراسلي الصحف الدوليّة واتهامهم بـ”تشويه صورة البلاد”، “ليست معزولة، بل تمثل سياسة دولة في محاولة لإعادة القبضة الأمنية على الإعلام، ونسف أهم مكتسبات الثورة التونسية”. كما قررت النقابة، في نفس الرسالة، توجيه شكوى رسمية إلى المقرر الخاص المعني بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير لدى منظمة الأمم المتحدة لاطلاعه على الأوضاع الحالية ومطالبته بزيارة تونس والقيام بالتحقيق الأممي في الغرض. هذا ودعت إلى تنظيم يوم غضب الجمعة 02 جانفي 2018 مع احتمال تنفيذ إضراب عامّ. ويُذكر في هذا السياق أن أول إضراب عام في تاريخ تونس نفّذه الصحفيّون في قطاعات الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئيّة في 17 أكتوبر 2012، بدعوة من النقابة ضدّ رفض الحكومة التعجيل بإحداث هيئة عليا مستقلة للإعلام السمعي البصري، إلى جانب التنديد بالتضييقات التي مارستها حكومة الترويكا آنذاك ضدّهم.

في خضم هذه الأزمة، تُعتبر تصريحات وزير الداخلية وقيادات النقابات الأمنيّة القطرة التي أفاضت الكأس حول واقع الصحافة في تونس، إذ سبق وأن تقدّمت وزارة العلاقة مع الهيئات الدستوريّة والمجتمع المدني وحقوق الإنسان بمشروع قانون جديد يتعلّق بإحداث هيئة الاتصال السمعي البصري والإطار التشريعيّ لحريّة الصحافة والطباعة والنشر، ويهدف هذا المشروع إلى التضييق على حريّة التعبير والحدّ من مساحتها. ورغم توقّف المؤسّسات الرقابية عن العمل بعد الثورة، عملت الحكومات المتعاقبة ومن بينها حكومة يوسف الشاهد على خلق آليّات رقابة جديدة للتحكّم في وسائل الإعلام من خلال مشاريع قوانين مخالفة لما جاء في الدستور من ضمانات، ومضت في الالتفاف على المرسومين عدد 115 و116 المتعلّقين بالقطاع السمعي البصري وبحرية الصحافة والطباعة والنشر، عوض تطويرهما وجعل المعايير الدولية لحريّة التعبير المرجعيّة الأساسيّة للنصوص القانونيّة ولمشاريع القوانين المُقترحة. اعتُبر هاذين المرسومين بمثابة مكسب مهمّ للصحافة التونسيّة بعد التخلّص من إرث مجلّة الصحافة التي طغت عليها النزعة الزجرية، والتي كانت بمثابة مجلة جنائية خاصة بالصحافيين، بالنظر لما تضمنته من عقوبات مالية وبدنية سالبة للحريّة رغم التنقيحات العديدة التي أدخِلت عليها. كانت وزارة الداخلية تتحكّم في قطاع الصحافة بوصفها الجهة المعنيّة بتقديم التصريح لإحداث نشريّات دوريّة، واليوم تريد الوزارة العودة إلى ممارسات فترة حكم بن علي الذي أطلق يدها لبناء دولته بوليسيّة. ومن خلال قانون زجر الاعتداء على القوات الأمنيّة المثير للجدل وتوظيف عبارات فضفاضة مثل “المسّ من معنويات الأمنيّين”، إلى جانب تصريحات لطفي براهم والقيادات النقابيّة الأمنية. لكن من المهم التأكيد على أنّ معركة الإعلام ليست معركة الصحافيّين فقط بل هي معركة كافة أفراد الشعب لمنع عودة دولة البوليس بهيكلتها القديمة.