قبيل ساعات من زيارة الرئيس الفرنسي إيمانوال ماكرون التي امتدّت بين يومي 31 جانفي و01 فيفري 2018، كانت تونس تخوض جولة أخرى من المحادثات في دافوس ومرّاكش حول تدعيم المساعدات الاقتصاديّة “للتجربة التونسيّة” والإطمئنان على مسار المصادقة على القسط الثالث من قرض صندوق النقد الدوليّ. هذه المساعي لترقيع عجز الموازنات العموميّة وتعزيز ثقة المانحين، لم تنفصل عن الإعداد “الكرنفاليّ” لزيارة الرئيس الفرنسيّ. فبعيدا عن “عمق العلاقات التاريخيّة” بين البلدين، و”دعم فرنسا للديمقراطيّة الناشئة”، كان الملّف الاقتصاديّ أحد الرهانات الرئيسيّة، إن لم يكن أهمّها بين الطرفين. خصوصا في ظلّ التنافس الكبير بين الشريك التقليديّ والتاريخي الأهمّ لتونس وقوى جديدة استطاعت أن تنافس فرنسا بجديّة في سوق تونسيّة تعتبر بوّابة العبور إلى جنوب المتوسّط.

وعود ونوايا لتثبيت النفوذ الفرنسي

خلف الهالة الإعلاميّة التي رافقت الزيارة ووفد كبار رجال الأعمال الفرنسيين الذّين رافقوا الرئيس الفرنسي للإطلاع على مناخ الاستثمار في تونس لا غير، لم تتجاوز الاتفاقيات الممضاة بين الطرفين على المستوى الاقتصادي مرحلة وضع الخرائط وإعلان النوايا على غرار الإعلان المشترك حول أولويات الشراكة التونسية الفرنسية وإعلان نوايا بين حكومتي الجمهورية التونسية والجمهورية الفرنسية يتعلق بمبادرة الشباب وريادة الأعمال الرقمية بتونس الذّي سيتم بموجبه إنشاء صندوق دعم برأس مال قدره 36 مليون دولار لتمويل المشاريع الإنتاجية المحلية للشباب، إضافة إلى ملحق للبروتوكول المالي الخاصّ ببرنامج الدعم المخصص لفائدة المؤسسات الصغرى والمتوسطة والصناعات الصغرى والمتوسطة التونسية باعتمادات تناهز 18 مليون دولار، وأخيرا قرض بقيمة 120 مليون دولار لدعم إصلاح حوكمة المؤسسات العمومية. أما على مستوى الديون القديمة، فتمّ تحويل 36 مليون دولار إلى استثمارات ومشاريع تنموية. كما تعهّد الرئيس الفرنسي إيمانوال ماكرون بمواصلة صرف أقساط قرض “دعم مخطط التطوير الممتد من 2016 إلى 2020” المقدّر قيمته بـ1.44 مليار دولار والمقدّم من قبل الوكالة الفرنسية للتنمية والذّي تمّ الاتفاق عليه خلال المؤتمر الدولي للاستثمار تونس 2020.

إجمالا، تمحورت المساعدات الفرنسية خلال الزيارة الأخيرة حول مزيد من القروض. فمن إجمالي المبالغ المعلنة بلغ نصيب المساعدات 54 مليون دولار، مقابل 1540 مليون دولار كقروض، أي بنسبة 3.5 بالمائة. بينما لم يتمّ تحويل سوى 6.9 بالمائة من الديون الفرنسية إلى استثمارات منذ سنة 2012. زيارة الرئيس الفرنسي لم تكن بلغة الأرقام على مستوى التطلّعات التي علّقها عليها المسؤولون التونسيّيون الذّين تجنّدوا لاستضافة هذا “الزائر الاستثنائيّ”. ماكرون الذّي قدّم الكثير من الوعود وراهن على بريق المصطلحات والنوايا، أثبت من خلال زيارته أنّ رهانات فرنسا خلال الفترة القادمة تبدو بعيدة عن رهانات الحكومة التونسيّة، فبينما يبحث هذا الرئيس الشاب عن إنجاح الملتقى الفرانكفوني في تونس سنة 2020، كان حكّام القصبة وقرطاج ينتظرون جرعات جديدة من الدعم المالي لتسكين الاحتقان الاجتماعي المتزايد.

تغير خريطة الشركاء

التغيير السياسي عقب جانفي 2011، أحدث بدوره تغييرات ملموسة على خارطة النفوذ الاقتصادي الدولي في تونس. فالسوق التونسيّة الباحثة عن توسيع دائرة جذبها شهدت حضورا متسارعا لشركاء تجاريين جدد على رأسهم تركيا التي ارتفعت صادراتها إلى تونس بنسبة 41.6 بالمائة بين سنوات 2014 و2016، والصين الشعبية التي حقّقت فائضا تجاريا إزاء تونس ناهز 100 مليون دولار. في المقابل، تراجعت الصادرات الفرنسية إلى تونس خلال نفس الفترة من 17.1 بالمائة إلى 15.2 بالمائة ولم تتجاوز مساعداتها التنموية لتونس 68 مليون دولار خلال سنة 2016 مقابل 124 مليون دولار قدّمتها ألمانيا لتونس خلال تلك السنة حسب منظّمة التعاون والتنمية الاقتصاديّة. كان الأمريكّيون اللاعب الجديد الأبرز على الساحة التونسيّة، حيث تفيد المعطيات الصادرة عن السفارة الأمريكيّة في تونس عن تسلّم الحكومات المختلفة منذ سنة 2011 ما يقارب 700 مليون دولار في شكل مساعدات وهبات، إضافة إلى ضمانات قروض ناهزت المليار دولار، كما تطوّرت المبادلات التجارية بين البلدين خلال السنوات الستّ الماضية، لتتضاعف الواردات التونسيّة من السلع الأمريكيّة أربع مرّات من 160 مليون دولار سنة 2010 إلى 606 مليون دولار تقريبا سنة 2016 حسب احصائيات منظّمة التجارة الدوليّة والمعهد التونسي للإحصاء.

فرنسا والسوق التونسيّة: الشريك التاريخيّ المُهيمِن

خروج القوّات الفرنسيّة من تونس عقب إعلان الاستقلال في 20 مارس 1956، لم ينهي الحضور الفرنسيّ في البلاد. هذه الحقبة الاستعماريّة التّي امتدت 75 سنة، حافظت للفرنسيّين على منطقة نفوذ كلاسيكيّة هُذّبت بصياغات جديدة أكثرها تداولا؛ “العلاقات التاريخيّة بين البلدين”. هذه العلاقات التي فُرِضت منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر، خلقت لفرنسا تأثيرا قويّا على القرار السياسيّ والثقافي وخصوصا على المستوى الاقتصاديّ. فعلى امتداد السنوات اللاحقة منذ نصف القرن الماضي، استطاعت فرنسا أن تحافظ على مرتبة الشريك التجاريّ الأوّل لتونس، حيث تتصدّر المرتبة الأولى في حجم الصادرات إلى السوق التونسيّة بنصيب 16 بالمائة وبقيمة جمليّة تتجاوز 3 مليار دولار. وتشمل أغلب الصادرات الفرنسيّة المعدّات الميكانيكية والأجهزة الكهربائية والنسيج ومعدّات النقل. في المقابل، فإنّ السوق الفرنسيّة تستوعب 34 بالمائة من الصادرات التونسيّة المكوّنة من المنتجات الغذائيّة والنسيج بقيمة 4 مليار دولار سنويا حسب بيانات منظمة التجارة الدولية.

الحضور الإقتصاديّ المهيمن على السوق التونسيّة، لا ينحصر في المبادلات التجاريّة فحسب، بل يشمل الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة، حيث يبلغ نصبها من إجمالي قيمة الاستثمارات 16 في المائة بقيمة 1،7 مليار دولار سنة 2016. أمّا على صعيد التشغيل، فتشغّل الاستثمارات الفرنسيّة التي تناهز 1300 مؤسّسة وفرع 135 ألف عامل تونسي. هذا وتتصدّر فرنسا قائمة المستثمرين خارج قطاع الطاقة بقيمة 180 مليون دولار و15 بالمائة من تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى تونس بين عامي 2011 و2016. وتعتبر فرنسا أكبر دائن لتونس بقيمة 1.3 مليار دولار أي ما يقارب 13 بالمائة من إجمالي ديون تونس الخارجيّة حسب بيانات البنك المركزي التونسي لسنة 2016.