المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

هكذا يمكننا الخلوص إلى حقيقة أن هذه الوزارة هي المثيل الوظيفي لكَهنة المعابد في القرون الوسطى،  بل وربما لكلب الحراسة المسعور الذي لا يكتفي بالإنتظار، بل يبارح مكانه للبحث عن ضحية أخرى ممكنة، وكأن شيئا ما يدغدغ مؤخرته. وكلب الحراسة هذا ليس إلا النتاج التاريخي للنمط، ذاك الشيء العجيب!

Un dessin de Tawfiq Omrane

النمط المجتمعي، “حشوة” تاريخ تونس السياسي المعاصر

صارت كلمة النمط في الحقل السياسي التونسي تُستعمل كوصم من طرف المناوئين للنظام الحاكم في تونس منذ الاستقلال. وهي تُشير لنموذج الحداثة المزعوم لدولة ما بعد-الاستعمار، خاصة عندما يتم تملّكه وإعادة استنساخه من قبل ورثته اليوم. والمنتبه لمنطقيات هذا النمط لن يمكث طويلا حتى يكتشف التناقضات والمفارقات المضحكة التي تشقه، وفي الحقيقة هي تناقضات تشق كل الأنظمة التي وُلِدت في سياقات تاريخية تَدخَّل فيها الاستعمار واستباح مسارات مجموعات بشرية كبيرة وحَوّل وجهتها قسريا. فبدرجات مختلفة، نجد دائما حدّا أدنى من الهجانة بين منطقيات حداثة المستعمر والأسس العقدية التقليدية للمجتمع المستعمَر.

“النمط” التونسي لا يوجد خارج هذه الفوارق في الهجانة، هو خليط غريب أشبه بالكسكسي المخلوط بـ”البورغر” أو بـ”الكفتاجي” الذي مُزِج بـ”الأناناس”. إنه ذلك اللباس اللاّمتناسق الشبيه ببعض ابتكارات الموضة المستوحاة من الفن العصري، كبدلة مُركّبة من قميص T-shirt في الأعلى ومن سروال عربي في الأسفل، مع قبعة New York Yankees حمراء فوق الرأس و حذاء Converse بنفسجي اللون. فالنّمط من ناحية الذوق والميول الإستيتيقية ليس إلا “فْرارًا” (frerr أو frair) كما يقال في السياقات الحالية. لكن ما هي وظيفة هذا “الفْرَارْ” العظيم؟ لقد اشتغل بعض الباحثين على مسألة الخطاب الإصلاحي في تونس ودلالاته الوظيفية، فهو خطاب معد ليؤسس لمشروعية هيمنة حامِليه، ذلك الائتلاف الطبقي والسياسي الطفيلي الذي أعاد تشكيله بعد الثورة مع دخول الإسلام السياسي في الحلبة. والمثير للدهشة حقا هو رعونة النمط في الدفاع عن هجانته وتناقضاته، وكأنه يصدح بتلك المقولة الشائعة “معيز ولو طاروا!”. وبعد سَن دستور جديد يضمن -على ما يبدو- الحد الأدنى من الحقوق والحريات الفردية، لا يكتف هذا الكائن السياسي العجيب بالالتفاف على مسار إرساء المحكمة الدستورية، بل وينصّب كلب حراسته ليُؤوِّل فصول الدستور ويفتي في الحقوق والحريات. فلتنطلق إذن رقصة صاحب نظرية تراتبية القواعد القانونية ومبدأ علوية القاعدة الأساسية (الدستور)،Hans Kelsen، من قبره، ولينتفض مونتسكيو صاحب نظرية الفصل بين السلط وليمش على رأسه مترنحا! الإطناب في هذه الرعونة يعبّر في الحقيقة عن تلك الرجعية المُغرقة في النفاق، تلك الروح المحافظة المتبرقِعة بالحداثة والمدنية التي تتشدق بها تلك التشكيلات السياسية، والتي تعد تعبيرات حزبية للنمط. في الحقيقة يجب على المرء أن يكون أعمى سياسيا في أحسن الحالات أو مُتحيلا أرعنا على الواقع في أتعس الأحوال، حتى يواصل تصنيف هذه التشكيلات في خانة “التقدمية”.

البوليس في رمضان: مجتمع الرقابة أم مجتمع التفشيخ؟

لنحاول إخضاع هذه الحملات الرمضانية السنوية الشرسة التي يقودها البوليس لقمع المواطنين المُفطرين لما يقوله أولي الذكر من الفلاسفة وعلماء الاجتماع. لا شك أولا أن صلابة الرأس في إغلاق المقاهي  نهارا، بل وإيقاف البعض من المفطرين، يدخل في إطار رغبة السلطة في التحكم في أجساد محكُوميها. وقد تستهوينا هنا الإشارة إلى إرادة القوة التي يتحدث عنها نيتشه، لكننا سنذهب أكثر إلى أعمال ميشيل فوكو ومفهوم الـbiopouvoir، أي ممارسة السلطة على ما هو حي. فالسلطة لا تُمارس فقط من أجل ضمان حماية مصالح الطبقات المُهيمنة فحسب كما ذهبت إلى ذلك كل الماركسيات، بل هي تستهدف الأجساد والسلوكات على حد السواء قصد تطويعها قسرا لنموذج واحد. وعادة ما تنشر السلطة تركيبات كاملة، من نصوص قانونية وقرارات وتشكيل للمجالات الهندسية، وعموما كل ما يدخل تحت دائرة “تقنيات السلطة”، لكي تصل إلى هذا المبتغى. فظاهرة السلطة دائما ما تريد إخضاع محكوميها بابتكار تقنيات قابلة للتطور وللتأقلم مع السياقات الجديدة التي تتولّد عن كل حقبة. ويتحدث فوكو عن ثلاثة باراديغمات لممارسة السلطة: المجتمع السيادي، المجتمع التأديبي ومجتمع الرقابة. لنضع المكبرة على الشكلين الأخيرين. أما المجتمع التأديبي ( la société disciplinaire) فهو يقوم على هيكل هندسي يكون المراقب فيه (le surveillant) قادرا على رؤية المراقبين (les surveillés)، دون أن يكون هؤلاء قادرين على رؤية مراقبهم أو بعضهم البعض، في إطار المؤسسات الاحتجازية (les institutions d’enfermement). إنه “le panoptique” ذلك الهيكل الهندسي الذي ابتكره جيريمي بنتام في أوائل القرن التاسع عشر، وهو النموذج الذي تم الاقتداء به لبناء السجون والثكنات والمصانع طوال القرن التاسع عشر. أمّا مجتمع الرقابة، فهو مؤسّس على نموذج رقابي يدركان فيه المراقِب (le surveillant) والمراقَب (le surveillé) بعضهما البعض، بل ويصير ممكنا للثاني أن يراقب الأول. كمثال إمبيريقي على هذا النموذج، يمكن ذكر المؤسسات الاقتصادية في إطار العولمة النيوليبرالية، والتي تقوم على “التشاركية” و”الإستشارية” وعلى جعل مكان العمل مُحبّبا للأجراء وآسرا لقلوبهم. ولئن كان اختلاف النموذجين من حيث ديناميات انتشار السلطة واضحا، فإن هذا لا يعني قطعا أنهما لا يختلطان. فالمجتمعات المعاصرة هي في الآن نفسه مجتمعات تأديبية ومجتمعات رقابة. لكن ما هو نموذج المجتمعات الذي يشبه أكثر ذاك الذي يؤسس له البوليس في تونس؟ تلك المنظومة القمعية التي تشتد وتيرتها في شهر رمضان من المؤكد أنها تحمل عناصر من النموذجين. مع ذلك، لنكن طَرِيفين بعض الشيء و لنفحص فرضية أن البوليس التونسي يؤسس لمجتمع خارج التصنيفات الفوكوية (نسبة إلى فوكو Foucault) والدولوزية (نسبة إلى دولوزDeleuze) والأقامبنية (نسبة لأقامبن Agamben)، ولنطلق عليه اسم “مجتمع التفشيخ”. كيف لا، والحال أن البوليس التونسي دخل في مسار إعادة الاعتبار لزيه وسلطته وتسلطه وسلاطة لسانه وهراوته في المجال العمومي؟ كيف لا، والحال أن مؤسسة البوليس صارت لا تكتفي فقط بتطبيق قوانين الدولة، بل هي التي تشرع وتقنن وتُؤَوّل وتنفّذ؟ كيف لا، والبوليس الأرعن لا يتوارى عن إطلاق العنان لحشيشته الرمضانية على كل من شاء “تأثير الفراشة” (l’effet papillon) أن يُوقع به في براثن زبانية النمط، مفطرا كان أم صائما؟ إنه “التفشيخ”، ولا شيء غير “التفشيخ”. إنه العنف الاعتباطي المسترسل، القائم ببساطة على مبدأ “أنا أستطيع، إذا أنا أفشخ” والمفضي حتما إلى كوجيتو البوليس “أنا أفشّخ إذا أنا موجود”.

يا صائمي و مفطري تونس، اتحدوا على قاعدة المواطنة

كان من الأجدى تسمية هذه الفقرة الأخيرة “من الأحسن أن يتحد الصائمون والمفطرون على قاعدة المواطنة لكن هيهات”. وعلى كل حال فإن روح التفاؤل تغلب أحيانا. ليست هذه الجملة بدعوة حقيقية لوحدة الصائمين والمفطرين إزاء الجهاز البوليسي فهذا النص لن يصل إلا للبعض، وفي المجمل يمكن القول أنه من الصعب إجمالا تجاوز العوائق والسدود الاجتماعية والسيكولوجية والإيديولوجية بين الفرقتين على قاعدة المواطنة والمساواة في تطبيق القانون (isonomie) وعلوية القاعدة الدستورية التي تبقى حدّا أدنى لحماية الحريات الفردية. لكن لعلها فقط تعبير من تعبيرات السذاجة أو الأمل. إنها فقط حقنة تذكير، une piqûre de rappel، كما يقول الفرنسيون. فالسلطة مُمثلة في بوليسها الأكبر هي التي تنتج وتعيد إنتاج تصنيفات لها آثارا إنجازية (effets performatifs)، إذ أن وزارة الداخلية هي من أطلق التصنيف القائم على الأغلبية والأقلية، دون توفير الحد الأدنى من الجدية والمصداقية في التعامل مع هذا الشأن بالذات. وقد يكون من المؤسف للكثير أننا لم نُبارح بعد مربع الدفاع عن الحريات الفردية، 7 سنوات بعد الثورة و4 سنوات بعد سن دستور جديد، إلا أن معركة المواطنة على القاعدة الليبرالية -وما أضيقها قاعدة- لا تزال غير محسومة بالمرة. والبوليس الذي يغلق المقاهي ويحتجز المفطرين -وكأنه مؤسسة الحسبة- هو نفسه الذي كان يعتقل الملتحي العائد من صلاة الفجر، وهو نفسه الذي يطلق كلابه على المشجعين في ملاعب كرة القدم، وهو الذي قتل المحتجين في تالة والقصرين ومنزل بوزيان والرقاب وسيدي بوزيد وغيرها في جانفي 2011، وهو الذي يهدد حرية الصحافة بين الفينة والأخرى. إنها إذا معركة المواطنة ضد البوليس وليست بمعركة الفطارة ضد الصيام!