المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة
ساحة معهد تالة، ولاية القصرين

فكرة تخصيص نسبة من المقاعد في الجامعات للأقليات العرقية والفئات المهيمن عليها هو مبدأ معمول به في الولايات المتحدة الأمريكية تحت مسمّى “أمر تنفيذي عدد 10925″، وهو أمر أصدره جون ف. كينيدي في مارس 1961. حيث تمّ إستعمال مصطلح التمييز الإيجابي في الولايات المتحدة للمرّة الأولى في هذا الأمر الرئاسي – رغم أنّه كان يهدف في بداياته إلى منع التمييز على أساس العرق أو الجنس أو الأصل، ليتطور المفهوم لاحقا ليأخذ شكله الحالي الذي لا يمنع فقط التمييز في التوظيف والتعليم بل ليضمن المزيد من التعددية في الجامعات وذلك بتخصيص نسبة من المقاعد للأقليات ومزيد إدماجهم فيها. أدّى هذا التمييز إلى رفع نسبة الطلبة المقبولين في الجامعات الأمريكية والمنتمين إلى الأقليات (سود، لاتينيين…) إلى 65%، مقابل 69% للبيض وذلك سنة 2011.

وتشير الإحصاءات الرسمية الأمريكية أنه في عام 1965، لم تتعدّى نسبة الأمريكيين من أصول أفريقية في كليّات الطب 2%، و1% في كليات الحقوق و القانون، بينما تصل النسبة اليوم إلى 7.3% في يال و 4.5% في ستانفورد (جامعات حقوق عريقة). نسب مقبولة مقارنة بنسبة 13% التي يمثلها السود اليوم في الولايات المتحدة. طرح هذا المبدأ منذ وقتها العديد من الإشكالات والتشكيات، حيث تم إتهام هذا المبدأ منذ البداية بخدمة النساء البيض على حساب الأقليات الأخرى، ثم واجه الأمر العديد من التشكيات في المحكمة العليا الأمريكية منذ 1978، لطلبة بيض زعموا عدم إنصافهم في دخول الجامعات بسبب هذا الأمر، لعلّ أحدثها القضية التي رفعتها الأميركية أبيغيل فيشر ضدّ جامعة تكساس، والمعروفة تحت اسم “فيشر ضدّ جامعة تكساس”، والتي إدعت فيها أنه تمّ حرمانها من دخول الجامعة لحساب طلبة غير بيض. وهو ما اعتبرته منافيا للفصل 14 من الدستور الأمريكي الذي ينص على تكافؤ الفرص للجميع، ويجدر التذكير هنا أنها خسرت القضية. كما لقي هذا الأمر أيضا معارضة من طرف الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن في 2003، إذ وصفه ب”غير الدستوري”.

أمّا في جنوب إفريقيا، بعد سقوط نظام الآبرتايد، فقد توخت الدولة مبدأ التمييز الإيجابي في الإقتصاد والتعليم من أجل تمكين الطلبة السود من فرص أكثر لدخول الجامعات عبر اعتماد العرق كعامل قبول. وتشير الإحصائيّات في جامعة كيب تاون في سنة 2013، إلى إحراز الطلبة السود القادمين من نفس الطبقة ومن مدارس خاصة مرموقة، على معدل أداء أقل ب7% من نظرائهم البيض. ظاهرة تم تفسيرها بالتفاوت الحاد في رأس المال الثقافي للطالب الأسود مقارنة بنظيره الأبيض نظرا للفروقات التّي خلفها نظام الآبرتايد. هنا يمكن طرح سؤال: ما مدى تأثير قرار حكومة الشاهد على مناطق مهمّشة تاريخيا وسياسيا منذ ما قبل الاستقلال؟  في مقارنة ممكنة بين نظام الآبرتايد نفسه و النظام البورقيبي الذي أقصى هاته الجهات؟

أفردت 40 صفحة من كتاب “في سوسيولوجيا الهوامش في تونس” في شكل دراسة عن الإنقطاع المدرسي في غار الدماء (ولاية جندوبة) و فريانة (ولاية القصرين). منطقتان داخليتان، حدوديتان، مجموع متساكنيهما، حسب إحصائيات 2004، 92153 نسمة. عينتان عن التمدرس في المناطق الداخلية، حيث تبلغ نسبة الأمية في فريانة وغار الدماء تباعا 34.85% و41.07% قرابة ضعفي المعدل الوطني الذي بلغ 19.43%. ولايتا القصرين وجندوبة تحتلان أيضا تباعا المرتبة 24 (الأخيرة) والمرتبة 21 في ترتيب مؤشر التنمية الجهوية. موضوع الدراسة مهم لمن يريد وضع هذا القرار في إطاره السوسيولوجي: ما هو مدى فاعلية هذا القرار على التمدرس في ولايتي جندوبة والقصرين مثلا؟ هل إنّ تخصيص 8% من مقاعد “الشّعب النبيلة” (على حد تعبير الشاهد) حقّا قرار مؤثر في مناطق نسبة المنقطعين فيها عن الدراسة بين سن 15 و19  سنة (قبل الباكالوريا و التوجيه الجامعي) تفوق 46%؟

باكالوريا 2018، سنة جديدة، نفس النتيجة. تتناوب كل من جندوبة و القصرين على المراتب الأخيرة، في حين تظهر خارطة نسبة النجاح تفاوتا رهيبا بين ولايات الشريط الساحلي و المناطق الداخلية. خريطة نسبة النجاح في الباكالوريا لا تختلف شكلا و مضمونا عن باقي الخرائط: خريطة توزيع المشاريع، خريطة الإستثمار، خريطة البطالة، خريطة مؤشر التنمية الجهوية. هذه الخرائط متماثلة لسبب واضح: إرتباط كل هذه العوامل وتأثيرها على بعضها البعض في إعادة إنتاج للفروقات والتفاوت في رؤوس الأموال الثقافية والاجتماعية والسياسية وتوزيع الثروات نفسه، حيث تقف الدولة عاجزة إن لم نقل متواطئة أمام إرث بورقيبي من التهميش وإعادة إنتاجه، في خرق واضح لكل القيم الإنسانية وفصول الدستور التي تنص على التمييز الإيجابي، تمييز من شأنه المساهمة في ردم هذه الفجوة بين المناطق الداخلية والمناطق الأخرى.

ويعود فشل التعليم في لعب دور المنقذ من براثن الفقر والتهميش إلى العديد من العوامل أبرزها غياب البنية التحتية المشجعة عليه في أغلب المناطق الريفية، انسداد أفقه نظرا للفساد المنتشر والمحسوبية، وحتّى غياب الرأسمال الثقافي الذي يلعب دورا هاما في التّشجيع على الدراسة حيث قد لا تحرص العائلة على نجاح منظورها ولا تلعب دورا تحفيزيا لتثمين دور التعليم في الارتقاء الاجتماعي. مما يفسر ارتفاع نسبة الراغبين في الهجرة إلى الخارج (قرابة 44% من المتمدرسين في القصرين وجندوبة مثلا) علماً أن نسبة عدم الراغبين في العودة للدراسة من المنقطعين التي بلغت 74.8% في المنطقتين.

ختاما، يبقى قرار الشاهد غير واضح المعالم، و يظهر في تضارب مع بقية سياسة الدولة التي توجهت نحو خوصصة التعليم. كما أن من المفروض الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المعتمديّات صلب الولايات كلها وليس الولايات الداخلية فقط. العديد من المعتمديّات في العاصمة نفسها مثل واد الليل ودوار هيشر وحي التضامن تعاني تهميشا واضحا في التعليم، ويجب أن يكون مشفوعا بقرارات تضمن الحد الأدنى لتكافئ الفرص للمتمدرسين في هذه المعتمديات، من تحسين البنية التّحتية إلى صرف منح مدرسيّة وتوفير المبيتات المدرسية. علاوة على هذا، يجب قبل الشروع في تنفيذ هكذا قرار، الإستناد إلى دراسات سوسيولوجية وبيداغوجية، قد تساهم بشكل لافت في فعل إصلاحي حقيقي يضمن للأجيال القادمة في المناطق المهمشة مزيدا من الفرص ويحسن المشهد المدرسي.