منذ أن أعلن حمّادي الجبالي استقالته من رئاسة الحكومة سنة 2013 إثر اغتيال شكري بلعيد متعلّلا آنذاك “بفشله في تشكيل حكومة تكنوقراط قادرة على إخراج البلاد من أزمتها”، ظلّ غائبا عن الساحة السياسيّة، وحتّى استقالته من الأمانة العامّة لحركة النهضة ظلّت غامضة ولم يوضح تفاصيلها إذ اكتفى بالتأكيد على أنّ قراره نهائيّ وأن أسبابه ذاتيّة وموضوعيّة. انسحب الرجل من معترك الحياة السياسيّة لسنوات ظلّ خلالها يتصيّد الفرصة المناسبة للعودة مجدّدا واختبار شعبيّته تمهيدا للانتخابات الرئاسيّة المقبلة والتي أعلن عن نيّته الترشّح لها منذ جانفي 2018. مثّل تاريخ نشر تقرير لجنة الحريّات الفرديّة والمساواة في 12 جوان 2018 التوقيت الأمثل بالنسبة إلى حمّادي الجبالي كي يبدأ حملته الانتخابية المبكرة، حيث أصدر بيانا على صفحته الرسمية وصف فيه التقرير بأنّه “مشروع مُفسد للمجتمع ويعدّ انقلابا على الدستور وفيه مخالفة صريحة لفصوله”. ومن الفصول التي ذكرها الجبالي لتقوية عود حجّته الفصل الأوّل من الدستور والذي يُقرّ بأنّ تونس “دولة حرّة مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهوريّة نظامها”.

كثيرا ما يلجأ مناهضو التقرير لهذا الفصل من الدستور لتبرير موقفهم الرافض للحريّات وإعطائه صبغة قانونيّة وذلك بالتركيز على العبارة الغامضة والفضفاضة “والإسلام دينها”. لم يكتف حمّادي الجبالي بمساندة “الأصوات الحرّة والشجاعة التي تسعى إلى… الدفاع على هوية الشعب التونسي العربية الاسلامية” وربط التقرير “بأجندات وإملاءات خارجيّة” بل أعلن مساندته لرئيس بلديّة الكرم فتحي العيوني الذي أعلن خلال ندوة صحفية نظمتها التنسيقية الوطنية للدفاع عن القرآن والدستوروالتنمية العادلة، أنه أعطى تعليماته في الدائرة البلدية التي يرأسها بألا يتم كتابة رسم صداق بين تونسية وشخص غي مسلم، داعيا أعضاء البرلمان إلى “تفعيل الفصل 88 من الدستور القاضي بعزل رئيس الجمهورية لأنه خالف شرع الله في مبادرته المتعلقة بالمساواة في الميراث”. أثار بيان حمّادي الجبالي الجدل، حيث ردّ عليه الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبيّة حمّة الهمامي في مقال نشره بجريدة المغرب تحت عنوان “كفى دجلا على الشعب“.

الهاشمي الحامدي يتقدم بخطوات ثابتة شعارها “الشعبوية”

حمّادي الجبالي ليس المارد الوحيد الذي خرج من قمقمه بعد نشر تقرير لجنة الحريّات الفرديّة والمساواة، فالهاشمي الحامدي كان صريحا في دعوة التونسيّين إلى انتخابه رئيسا للجمهوريّة بسبب “اللجنة الفاشيّة المتحرّشة بثوابت الدّين”، واعدا، في حوار له بـ”الحكم على الطريقة الأوروبيّة والبريطانيّة التي تحفظ كرامة المواطنين وتحترم معتقداتهم”. يبدو الهاشمي الحامدي واثقا من فوزه في الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 على اعتبار أنّ الحكومة الحالية “تجرّأت على أحكام الشرع وكتاب الله”، بل وأكد ذلك بقوله “سيصل لأول مرة إلى قصر قرطاج شخص من سيدي بوزيد وستكون هناك حكومة بأغلبية من نواب تيار المحبة”. بدأ الهاشمي الحامدي بالتجييش ضدّ التقرير الذي “اعتبره مؤامرة من عصابة بشرى على الإسلام” منذ نشره في جوان الماضي، حيث أصدر حزبه تيّار المحبة رسالة مفتوحة إلى التونسيّين تحت عنوان “تونس تسير قطعا في الطريق الخاطئ، حان وقت التغيير” جاء فيها ما يلي “أريد أن يكون في تونس رئيس يحترم ثوابت الدّين ويعتزّ بهويّتنا الإسلاميّة وبلغتنا العربيّة رئيس لا يكرّر فعلة الباجي وبشرى وينحاز للفقراء والمستضعفين”،

هذا الرئيس هو طبعا الهاشمي الحامدي الذي يعرف جيّدا كيف يوظّف الدّين في حملته المبكرة. لم يقف الحامدي عند هذا الحدّ بل قام بمجموعة من الزيارات الميدانيّة إلى عدد من المناطق الداخليّة مثل حي البحري بصفاقس ومعتمدية الحنشة التابعة أيضا لولاية صفاقس ومنزل بوزيان وجدليان بالقصرين وقفصة لإقناع ناخبيه المرتقبين بأنّه الحارس الذي سيحافظ على ثوابت الدين وعلى الهوية العربية الإسلاميّة قائلا: “إذا كنتم مقتنعين بأن البلاد تسير في الاتجاه الخطأ، ووضعها العام اليوم لا يسر، وأن مبادرة الباجي لتغيير أحكام الميراث بخلاف أحكام الشرع عدوان على الدستور والهوية الإسلامية لتونس، وأن حزبي النداء والنهضة يستحقان العقاب في الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة إن شاء الله، وأن التغيير ضرورة ومصلحة وطنية مؤكدة، فإننا وإياكم نبث على موجة واحدة وتجمعنا رؤية واحدة”. لم يترك الهاشمي الحامدي حجّة إلاّ وقالها ولم يفوّت فرصة إلاّ وتحدّث فيها عن التقرير فحتّى في بيان حزبه عن أزمة المتقاعدين الأخيرة حشر فيه موقفه من الحريّات الفرديّة ودفاعه المستميت عن ثوابت الدين. دفع الحامدي بخطابه الشعبويّ إلى الأقصى بمطالبته في اجتماع عام بقفصة في 29 أوت بمقاطعة المشروبات الكحوليّة المحرّمة شرعا ومازال يتنقّل بين الجهات ليحقّق نبوءة فوزه في الانتخابات الرئاسيّة المقبلة.

“المرزوقي يشمّر عن سواعده “لتصحيح مسار الثورة

غير بعيد عن خطاب الهاشمي الحامدي الذي يراهن على التجييش العاطفي، خرج المنصف المرزوقي عن صمته بعد خطاب الباجي قائد السبسي في 13 أوت، حيث كتب تدوينة على صفحته الرسميّة بموقع فايسبوك عنونها بـ”طبّها فعماها“، أكّد فيها إدانته التامة للخطاب ولتقرير لجنة الحريّات “ليس لأنه مخالف للدستور فقط”، على حدّ قوله بل لأنّه “ينفّر جزءا كبيرا من شعبنا من الحداثة الحقيقية المتمثلة في قيم الديمقراطية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان”. واعتبر المرزوقي في نفس التدوينة أنّ التقرير هدفه “إلهاء الناس عن حاضر بائس ومستقبل مظلم”، وأنّ “هذه الحماقة أنتجت سريعا جماعة 11 و13 أوت ولا أحد يدري كيف ستتطور وتكبر القطيعة”. بدأ المنصف المرزوقي بالتمهيد للانتخابات الرئاسيّة المقبلة على مهل وقد استغل تقرير لجنة الحريات الذي أصبح من المسائل الخلافيّة الكبرى اليوم لجس نبض الشارع التونسيّ بعد أن كان اهتمامه موجّها في الفترة الأخيرة إلى الأوضاع السياسية والحقوقيّة في مصر والسعوديّة.

وسبق أن صرّح المرزوقي في حوار مع صحيفة “ميترو” الفرنسية بأنّه يطمح للعودة إلى قصر قرطاج لإتمام مهمّته لأنّ “الثورة لم تواصل مسارها الصحيح”. سيكون حراك تونس الإرادة الحزب الذي أسّسه المرزوقي “حاضرا بقوة” في الاستحقاقات التشريعية والرئاسية لسنة 2019 والتي قال بأنّها ستكون “إمّا بداية للديمقراطيّة وإمّا نهايتها” وبداية الديمقراطية لن تكون إلاّ مع المنصف المرزوقي، الحقوقيّ الرافض لمبادرة المساواة في الميراث. وقد أصدر حزبه بيانا في 17 أوت 2018 مشحونا بالرسائل التي تدعو إلى توجيه الجدل نحو الأزمة الاقتصادية والسياسية المتعمّقة في البلاد عوض الاهتمام بالحريّات المكفولة أصلا في الدستور، محمّلا المسؤولية لنظام الحكم وعلى رأسه رئيس الجمهورية “الذي أصبح طرفا في تقسيم الشعب بطرحه موضوعا اجتماعيا حساسا لا يحظى بوفاق مجتمعي واسع بشكل سطحي وأحادي يخص مسائل كبرى تتعلق بالهوية وبالحريات وجعل هذه المشاكل المفتعلة فرصة لإلهاء المواطنين والطبقة السياسية عن المشاكل الحقيقية التي فشل في حلها رغم وعوده المتعددة والحال أنها مسائل يجب الخوض فيها بكل مسؤولية واحترام لكافة الفئات الاجتماعية”.عاد الرئيس السابق مُشمّرا عن سواعده ليدخل مجدّدا إلى قصر قرطاج وهو الذي خرج من بابه الصغير بعد تحالفه مع حركة النهضة واستغلال خزّانها الانتخابيّ.