أوضح محسن الكلبوسي، الجامعي والخبير في التنوع الحيوي، لنواة أن “نزول كميات كبيرة من الأمطار في وقت قصير جدا يعكس وجود تغيرات مناخية أدت بدورها إلى حوادث مناخية”. وقد أشار الكلبوسي إلى “صعوبة تفادي مثل هذه الحوادث نظرا لحدتها”، ولكنها في تقديره كشفت عن قصر نظر الدولة في مواجهة مثل هذه التغيرات، “وهو ما تجلى في ضعف التدخل الرسمي سواء على المستوى الاتصالي أو على مستوى الإدارة الحينية للأزمة التي غابت فيها جل الهياكل العمومية”. وقد أضاف محدثنا بأن “الدولة لا تملك استراتيجيا وطنية لمواجهة التغيرات المناخية، وهو ما برز من خلال سوء التصرف في الموارد الطبيعية خصوصا الوديان التي لم تلعب دورها في تصريف الكميات الفائضة من الأمطار بسبب ازدحامها بالأوساخ وعدم تهيئتها، إضافة إلى غياب المجاري الطبيعية ومنح تراخيص البناء العشوائية في أماكن مهددة بالفيضانات”.

سوء التصرف في المياه

تشير المعطيات الأخيرة لوزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري إلى امتلاء 3 سدود بمنطقة نابل بنسبة 100 بالمائة، في حين شهدت السدود الثلاثة المتبقية إيرادات متوسطة. إضافة إلى وجود 57 بحيرة مائية تبلغ طاقة استيعابها 4 مليون متر مكعب، وقد وصلتها أثناء الفيضانات الأخيرة إيرادات بـ3.5 مليون متر مكعب، علاوة على الوديان التي شهدت هي الأخرى إيرادات مائية قياسية. وحسب وزارة الفلاحة فإن الإيرادات الجملية للسدود بجهة نابل تجاوزت 20 مليون متر مكعب، ويُذكر أن موارد السدود موجهة للري والأنشطة الفلاحية. هذه الحصيلة اعتبرها سمير الطيب، وزير الفلاحة، دعما كبيرا للموارد المائية، وذات فائدة على النشاط الفلاحي بالجهة، ولكنه أشار في نفس الوقت إلى أن الكميات الكبيرة لمياه الأمطار لا تعني أن تونس تجاوزت مشكلة ندرة المياه.

في هذا السياق أوضح علاء المرزوقي، منسق المرصد التونسي للمياه، لنواة أن “الفترة الأخيرة شهدت نزول كميات كبيرة من الأمطار ولكن أغلبها ذهب في وديان غير مجهورة، لا يقود معظمها إلى السدود”. وقد أضاف المرزوقي بأن “موضوع المياه يكتسي طابعا استراتيجيا مُهمّا ولكن يغلب على التدخل الرسمي اللجوء إلى الحلول الوقتية التي لا تتلاءم مع التغيرات المناخية ولا تؤسس لحلول مستدامة”، مشيرا إلى وجود سوء تصرف في السدود وفي الموارد المائية وهو ما ينعكس في معدلات التسربات المائية التي فاقت 50 بالمائة في بعض المناطق، وهو ما يتطلب حسب رأيه “إصلاحا للمجاري الطبيعية وتوجيهها نحو السدود، ودعم الاستثمار في الشبكات المائية وتحيين نجاعتها”.

الخطاب الرسمي، خارج عن الموضوع

سجلت الفيضانات الأخيرة بولاية نابل خسائر بشرية ومادية متشعبة؛ خمس ضحايا إلى حدود مساء الأحد الفارط، وأضرار بالممتلكات الخاصة والعامة، من بينها 35 مؤسسة تربوية موزعة على مختلف معتمديات الجهة وتضرر أكثر من 2500 مسكن بنسب متفاوتة، وأضرار أخرى بالمحلات التجارية والمؤسسات الصناعية والسياحية. كما سجل القطاع الفلاحي خسائر أشارت وزارة الفلاحة إلى أنها تمثلت أساسا في “تضرر 864 هك من الخضراوات و794 هك أشجار مثمرة في مجملها قوارص ونفوق 90 ألف طير دجاج ونفوق 86 رأس غنم وإتلاف 180 بيت نحل”، إضافة إلى تدمير بعض شبكات توزيع المياه.

رغم فداحة الخسائر وتأثيرها المادي والنفسي على السكان، فإن الخطاب الرسمي طغت عليه النزعة التلطيفية المعتادة. كانت البداية بتصريحات والية نابل، سلوى الخباري، التي قالت أن “الوضع تحت السيطرة” رغم ما لاحظه الجميع من غياب هيكلة واضحة لمجابهة الأزمة، ثم تلتها تصريحات وزير الفلاحة سمير الطيب الذي سعى إلى التهوين من تداعيات الكارثة، بالقول “الخسائر بسيطة رغم حصولها، ويمكن معالجتها”. وضمن هذا السياق اندرجت تصريحات عبد الرزاق الرحال، المهندس بالمعهد الوطني للرصد الجوي، الذي قال أثناء تدخله في إحدى الإذاعات الخاصة “هنيئا لمن فقد أحد أقاربه في الفيضانات لأن الغريق شهيد…ووالد الفتاتين سيكون له حوريتين في الجنّة…هنيئا لمن غرق ومن ضربته صاعقة”، وقد أثارت هذه التصريحات استياءً كبيرا في مواقع التوصل الاجتماعي، مما أدى بوزارة النقل، المشرفة على المعهد المذكور، إلى إيقاف عبد الرزاق الرحال عن العمل في انتظار اتخاذ الإجراءات التأديبية ضده، حسب الوزارة. ويذكر أن المعهد الوطني للرصد الجوي تميز بحضور باهت خلال الأزمة الأخيرة، سواء من الناحية الاتصالية والإعلامية أو على مستوى استعراض التغيرات المناخية، وقد اكتفي مسؤولوه بالإشارة إلى صعوبة توقّع نزول كميات أمطار بهذا الحجم.

علاوة على السطحية الاتصالية التي تميز بها الخطاب الرسمي، فإن الفيضانات الأخيرة كشفت عن عدم قدرة أجهزة الدولة على الإدارة الحينية للأزمة والتخفيف من خطورتها على السكان والممتلكات، وهو ما يعكس غياب رؤية استراتيجية لطبيعة التغيرات المناخية التي تعيشها تونس والعالم بشكل عام، ومازال العقل السياسي الرسمي يتعاطى مع الكوراث الطبيعية بمنطق انتظاري، وليس بعقلية استعدادية تُعيد توجيه الموارد الطبيعية والمناويل العمرانية في مسار جديد يأخذ بعين الاعتبار مجمل التغيرات المناخية.