المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

إنه ميراك الذي يقول “صراع الإنسان ضد السلطة هو صراع الذاكرة ضد النسيان”، و إن كانت الذاكرة قصيرة، فإن سينما التوثيق هي أفضل ٱليات هذا الصراع. في 2011، فتح الباب على مصراعيه لكل الإيديولوجيات و التوجهات، الواقع المعيشي في بلاد أنهت للتو ثورتها لم يضمن تكافؤ في فرص الاستقطاب والتأثير، حيث لعبت الجمعيات و التنظيمات المتطرفة دورا هاما في استقطاب الشباب و أدلجته، مستعينين بخبرات المئات من السجناء السياسيين الإسلاميين الذين تم إطلاق سراحهم بعد الثورة، أبرزهم أبو عياض الذي قام في أفريل  2011بتأسيس جماعة أنصار الشريعة التي نجحت في تأسيس عدة أذرع إعلامية و إنشاء نقابات إسلامية و عقدت مؤتمرها في القيروان سنة 2012، و تورطت الجماعة في هجمات على معارض فنية، سفارة أمريكا و قناة نسمة في أكتوبر 2011.

الجماعة لم تكن الوحيدة، صعود التيار السلفي تزامن مع صعود التيار الإسلامي للحكم، و تسريبات لقاءات زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي مع قياديين سلفيين لا تثبت إلا سكوت متواطئ للدولة حينئذ، مما خلق مناخ ملائما لتثبيت هذه التيارات السلفية المتشددة، التي باشرت في 2012حربا إعلامية من المنابر و المدونات و وسائل التواصل الإجتماعي على ما سمته “مظاهر كفر و شرك”في تحذيرات واضحة و متواصلة للقائمين بأضرحة الأولياء الصالحين و مقاماتهم، مما جعل الاعتداءات بالحرق ، بالهدم أو الغلق متكررة و متواصلة على مقامات أبرزها زاوية سيدي عبد القادر الجيلاني بمنزل بوزلفة ، مقام سيدي بوسعيد الباجي، و في فجر 16أكتوبر  2012تم حرق مقام السيدة المنوبية في ولاية منوبة، حيث تسلق خمسة ملثمين جدران المبنى و ملأه بقوارير بنزين و عجلات مطاطية و هددوا النساء بحرقهم داخل المقام. في جوان 2013، أصدرت المحكمة الإبتدائية بتونس حكما بالسجن مدة خمس سنوات في حق ستة سلفيين تتراوح أعمارهم بين ال22و ال27سنة، من متساكني المنطقة.

الوثائقي : السيدة في عيون النساء

طيلة الفيلم، لا يسع المشاهد إلا أن يلاحظ تغييبا متعمدا للعنصر الرجالي في حبكة الخرافة، إستأثرت النساء بكل المشاهد والخطابات، السيدة المنوبية، كانت رمزا للنسوية بمفهوم عصرها، و لأن كان عدد النسوة في تعداد الأولياء الصالحين قليلا مقارنة بالرجال، فإن السيدة تكتسب مكانة خاصة لدى النساء و زوار مقامها، حيث تلقب ب”أم الولايا”. السيدة المنوبية جزء من خرافة، خرافة نستقيها من المخيال الشعبي للنسوة اللاتي مثلن أماما الكاميرا و حدثن المشاهد مباشرة عن علاقتهن بالسيدة المنوبية و عن مدى تأصل الأسطورة أو الفكرة نفسها، أي فكرة وجود ولي صالح يهتم بشؤون النساء ويسهر على حمايتهم، في أذهانهن. “وقفت عليا السيدة”هي أكثر جملة تتكرر و تتناسخ بين المتحدثات، اللاتي يجمعن على أن السيدة تتمثل لهن وقت الحاجة أو تشير عليهن إذا ما طلبنا المشورة في الأحلام أو الرؤى، هاته الاعتقادات تتحول لهستيريا جماعية في حلقات المدح و الغناء الصوفي.

الموسيقى التصويرية : المدح و التخميرة

منذ دقائقه الأولى، فيلم سيدة من تحت الرماد يعلن أنه ليس ريبورتاج، بل هو فيلم، فيلم يخبر قصة بالصوت و الصورة و القلب قبل العقل : الموسيقى، يختلط فيها الذكر الصوفي و التلاوة بالأوتار، و تستعرض أمامها مشاهد قريبة لوجوه النساء في المقام، الوجوه الشاردة، النظرات المتقلبة القلقة، كلها تخبرك بشيء واحد : أنت لست أمام فيلم دون وجهة نظر، الفيلم ليس فيلما موضوعيا ولا هو استعراض حقائق، الفيلم منذ أوله منحاز للنساء، سمية بوعلاڨي التي تفتتح الفيلم بصوتها الراوي بينما تأخذنا على الطريق نحو المقام، إختارت أن تبدأ فيلمها بأن تحدثنا عن تجربة وصمت طفولتها : زيارتها الأولى لمقام السيدة المنوبية. سمية بوعلاڨي ليست غريبة عن المقام و نساءه، و رغبتها في صناعة الفيلم مستمدة بالأساس من هذه العلاقة الغريبة بين طفلة و شخصية شعبية : السيدة المنوبية. سمية تروي لنا منذ البداية خرافة : خرافة الشخصية النسوية الشعبية، و الملثمين الذين اعتدوا على ذكراها.

وثائقي للمهزومين، روائي للمنتصرين

جون لوك ڨودار، يقول “في 1948دخل الصهاينة عالم الرواية ودخل الفلسطينيون عالم التوثيق”، الفيلم الوثائقي سردية المنهزم المتحدثة عن مٱسيه، و الفيلم الروائي سردية المنتصر الذي يستعين بالخيال لتثبيت موقعه، فيلم سمية بوعلاڨي قد يندرج ضمن الوثائقي، لكنه قطعا لا يخضع لمثل هذا المنطق. الفيلم إختار تغييبا كليا للعنصر السلفي الٱثم، و بينما تحدثت عنه النسوة مدافعات عن أنفسهن، فقد أتاحت المخرجة للمتحدثات باب الخيال و الخرافة في توصيفهن لعلاقاتهن بالسيدة المنوبية و رمزيتها، و كأن الفيلم هو روائي طويل يثبت موقع الولية الصالحة في مخيال المشاهد عبر ما يستشفه من موقعها في المخيال الجماعي و الشعبي لرائدي المقام و خادميه، الفيلم نجح في أن يكون وثائقيا يؤرخ لحادثة لكنه في نفس الوقت يفتح سردية روائية يسرح فيها خيال شخصياته حيث شاء، و إن لم يكن هذا كافيا، الفيلم لا يعود للواقعة بقدر ما يتحدث عن عودة الحياة للمقام بعدها، بفضل إصرار النساء العاملات فيه و كفاحهن.

مقام السيدة المنوبية : تجاوز وظيفة دينية إلى وظيفة إجتماعية و إقتصادية

في تقطيع الفيلم، المخرجة راوحت بين مشاهد إعادة إعمار و تنظيف المقام و خطابات النساء العاملات فيه، هؤلاء النسوة لا يتحدثون فقط عن جانب روحي للعيش في المقام، بل عن وظيفة إجتماعية يلبيها المقام لهن، حيث العديد منهن التجأن للمقام كملاذ من عالم وجدن أنفسهن على هامشه، المقام وفر بيئة إجتماعية متماسكة، ولا عجب، الإنسان دائما ما يحتاج بناءات اجتماعية خيالية مشتركة لتحسين و تطوير التعايش و التعاون : الدين، الوطن، المال …

المقام وفر مثل هذا الصمغ الإجتماعي : السيدة المنوبية و الإعتقاد في خرافتها، هذا مكن بطريقة فعالة من إيجاد أرضية تعايش مشتركة بين غرباء جمعهن القدر و حضنهن المقام . المقام أيضا، عبر ما يتلقاه من هدايا و هبات من زائريه، خلق حركة اقتصادية مصغرة داخل جدرانه، العلاقة النفعية بين العاملات في المقام اللاتي يقدمن خدمة دينية نفسية و بين الزائرين الذين يشترون بعض السلع و يقدمون الهدايا، كانت محركا فعالا للمقام و ما يحتضنه من حلقات مدح و ذكر وأعياد “زردة”و غيرها، بطريقة تضمن عيشا كريما لخادمات السيدة المنوبية كما يسمين انفسهن.

لإن كان الإطار المكاني للفيلم هو مقام السيدة المنوبية، فإن إطاره الزماني إطار مشبع بعمليات الإعتداء على المقامات الأخرى، الفيلم لم يفته أن يدلف بنا هذا الإطار، حيث يستعرض عناوين الجرائد في تلك الفترة و يوثق ما يحدث في بلاد اهتزت بعد الثورة لتستفيق على واقع ينتصر فيه التطرف في المعارك الأولى دون أن يفوز في الحرب، حرب الهوية .