لن يستغرب أحد من سيدي حسين إذا قلت له مثلا أن “الخربة” التي تقع وراء المدرسة الابتدائية بسيدي حسين أكثر إغراء بأضعاف من مقاعد المدرسة الإعدادية الملاصقة لها على اليسار وأكثر استقطابا للتلاميذ ـ على مدى كامل اليوم ـ من رفوف المكتبة العمومية الملاصقة للخربة على اليمين. وإذا طرحت المسألة من زاوية أخرى، فإنها ستكون في شكل مشهد سريالي مضحك ومرعب في آن واحد: مستوى جدران عالية لونها أصفر وأبيض يتوسطها باب واسع مخصص لدخول التلاميذ، بجانب الجدار، في ذات المستوى يبدأ جدار آخر من الصعب تحديد لونه، أهو أبيض أم أسود، لما طاله من حرائق وأوساخ وكتابة بالفحم ونفايات محروقة وأخرى مكدسة ومدخل عرضه متر ونصف. وبجانب هذا السواد القذر تنتصب مكتبة عمومية بجدران تحمل ذات ألوان جدران المدرسة الإعدادية.. نحن هنا نحدد مكان “الخربة” أو بالأحرى الفضاء الذي رآه بعض التلاميذ بديلا عن قاعة الدرس.

بعد استطلاع المكان، تم التوجه إلى أحد النشطاء المدنيين في منطقة سيدي حسين لمعرفة حكاية هذا المبنى الخالي ولماذا توسط مدرسة إعدادية ومكتبة عمومية بتلك الطريقة. الناشط هو  كمال بن عبد الله نائب رئيس جمعية تأهيل ورعاية المعاقين وعضو فرع منظمة الهلال الأحمر بتونس 2 والناشط في منطقة سيدي حسين. يقول كمال “كان هذا المبنى دارا للجمعيات، تم بناؤه من طرف ليلى بن علي ليكون محلا لنشاط جمعية بسمة التي كانت تستغلها لنشاطها السياسي الذي كان يتخفى وراء هذا الغطاء الاجتماعي. لم يكن ينشط في الحقيقة، كان عبارة عن مجموعة من المكاتب وفضاء لتنشيط ذوي الاحتياجات الخاصة، ولا أتذكر نشاطا واضحا قامت به. بعد الثورة تم حرق المبنى، وبقي على حاله كما رأيته دون أبواب أو نوافذ يستعمله تلاميذ الإعدادي للقيام بممارسات يندى لها الجبين”.

ما وراء الـ”خربة”

لفهم أعمق للظاهرة تم اللجوء إلى النشطاء الشباب في حقل العمل الجمعياتي في سيدي حسين، من بينهم شريف المنجلي، وهو عضو المبادرة المواطنية للإئتلاف الشبابي بسيدي حسين، والذي رافقنا في جولة ميدانية في محيط نقطة الكثافة التلمذية في سيدي حسين حيث المدرسة الابتدائية والمدرسة الإعدادية والمكتبة العمومية. يقدم شريف نفسه على أنه من بين النماذج التي كانت قد تخلت عن الدراسة في السنة التاسعة للتعليم الأساسي لأسباب عديدة من بينها رغبته في العمل. تجربته في ترك الدراسة جعلت منه نموذجا للمتابعة في فهم هذه الظاهرة خاصة في الفترة التي سبقت تحوله إلى مدرسة للتكوين المهني ثم الالتحاق بالمجتمع المدني بعد الثورة وما وفره هذا النشاط من اقتراب وثيق بتلاميذ وشباب سيدي حسين.

يصرح شريف الذي أصبح مشرفا على مجموعة من التلاميذ محبي المسرح وفن الراب قائلا “في السنوات الخمس الأخيرة ازدادت الأحياء العشوائية في المناطق المحيطة بسيدي حسين بشكل مهول، خاصة في طريق الجيارة أو طريق مرناق”. وحسب إحصاءات المعهد الوطني للإحصاء لسنة 2014 فإن عدد سكان منطقة سيدي حسين وصل إلى 109.672 ساكن بعدد أسر بلغ 26501 أسرة مقسمين على 31082 مسكن نصفهم غير مالك لمحل سكناه. لكن تأكيدات شريف والسيد كمال وعدد آخر من الناشطين تشير إلى أن عدد السكان قد زاد بشكل ملفت في السنوات الخمس الأخيرة، بل وهناك أحياء بكاملها قد تشكلت خارج دائرة الحصر والإحصاء التي تقوم بها الدولة.

ويشير شريف إلى أن “تلك الأحياء تمثل خزانا بشريا للتلاميذ القابلين لاحتمال انقطاعهم عن الدراسة، طبعا هناك أيضا تلاميذ من سيدي حسين نفسها والذي انقطعوا بالفعل عن الدراسة. أعرف العديد منهم لأن أقرانهم من المغرمين بالمسرح قد حدثوني عنهم”. وبسؤاله عن أسباب قابلية هته الفئة للانقطاع المدرسي يجيب شريف أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي والعائلي يعد المسؤول الأول عن هذه الظاهرة الخطيرة، ويضيف “تخيل أن ولدا أو بنتا من تلك الفئة يأتي كل يوم للدراسة بعد معاناة كبيرة في التنقل، ليلتقي بأقران آخرين لهم ظروف أكثر رفاهة ويلبسون لباسا أكثر أناقة.. تخيل أن أحدهم يرى كل يوم زميله بـ”سبادري مزيان، وحجامة شعر علموضة، وتلفون مضخم.. مع توة الأنترنت توري كل شي والناس الكل فرد موجة.. شنية بش تكون ردة فعل هاك التلميذ اللي ما في حالوش مسكين؟ أكيد بش يكره القراية ويحاول يدبر فلوس بش يعيش كيما صاحبو أو صاحبتو”.

هل السبب هو “الفلوس” فقط؟

البحث عن المال يدفع التلميذ إلى خيارين: الإجرام أو العمل المبكر، وكلاهما مآل حتمي لترك مقاعد الدراسة. هكذا أشار الناشط ياسين الفطحلي مؤسس الإئتلاف الشبابي بسيدي حسين. ويضيف ياسين أن معرفته الجيدة بسكان حي سيدي حسين أوصلته إلى قناعة مفادها أن الأولياء أيضا لهم دور في ضمور رغبة التلاميذ في مواصلة الدراسة. فغالبا ما يكون الأب منشغلا في العمل طوال اليوم أو طوال أسبوع أو شهر بحاله، أما الأمهات في تلك الأحياء فهن حريصات بشكل دقيق على أولادهن وبناتهن لكن قصور حركتهن وكثرة المشاغل اليومية يثنيهن عن متابعة تحركات الأبناء إلى أبعد الحدود. ويقول ياسين “الأولياء قاصرين على زرع حلم ما داخل أبنائهم يمكن تحقيقه بمواصلة الدراسة. هؤلاء يرسلون أبناءهم إلى المدرسة ليس للتعلم بل للتخلص منهم أثناء النهار.. العديد منهم لا يعرف حتى لماذا يدرس أبناؤهم وماذا يدرسون وكيف يقضون يومهم في المدرسة وما جاورها وكيف يعيشون نهارهم وهم لا يملكون ثمن لمجة بخسة”.

تشير أرقام المعهد الوطني للإحصاء إلى أن المستوى التعليمي في منطقة سيدي حسين بالنسبة لمستوى الابتدائي لا يتجاوز الـ37,3%، 40,7% من تلك النسبة ذكور أما الإناث فبنسبة 33,8%. أما عن المستوى الثانوي فبنسبة 40.1% وأما التعليم العالي فلا تتجاوز الـ7%. ويمكن تأويل هذه الأرقام بالقول إن نسبة التمدرس في سيدي حسين تعتبر من النسب الضعيفة والتي تؤشر على انقطاع مدرسي منتشر داخل نطاق واسع من التلاميذ في سيدي حسين، ما يجعل سيدي حسين من ضمن المناطق التي تشهد ارتفاعا لهذه الظاهرة بعد كل من القصرين وقفصة وسيدي بوزيد.

يؤكد كل من شريف وياسين وأيضا كمال بن عبد الله أن من انقطعوا عن الدراسة لم يتركوا أماكنهم شاغرة في محيط المدرسة، بل عادوا إليها. وهنا يمكن العودة إلى تلك “الخربة” التي تتوسط المدرسة الإعدادية بسيدي حسين والمكتبة العمومية. فهذه الخربة عبارة عن مركب متكون من طابق واحد أرضي كل أركانه قد طالتها النيران. الرائحة المميزة للمكان هي رائحة البول والفضلات البشرية وبقايا الحرائق، يسكنها شخص يعاني إشكالات صحية عقلية وابنه أيضا الذي ورث الإشكال ذاته. في حديقة هذا البناء تنتشر الأكياس البلاستيكية المليئة ببقايا “الكول فور” وهي آثار تدل على أن الشباب كان “يكلفر”. توجد أيضا أعقاب سجائر ملفوفة ربما كانت محشوة بالزطلة وكل ذلك محاط بنباتات نمت بشكل عشوائي وبراز حيوانات ونفايات منزلية وصحية أخرى.. المكان باختصار قذر جدا، وهو المفضل لدى فئة من المراهقين المنقطعين عن الدراسة يأتون إليه لتلك الممارسات “ويستقطبون معهم العديد من التلاميذ الآخرين الذين إذا لم تتم حمايتهم فسيكون مصيرهم كمصير الآخرين” حسب تصريح لأحد الأساتذة المباشرين في المدرسة الإعدادية ابن أبي الضياف سيدي حسين والذي تحدث إلى نواة رافضا نشر اسمه.

لقد أنقذني المسرح.. ماذا عن الآخرين؟

هكذا تساءل الناشط شريف عند إجابته عن سؤال حول رؤيته للحلول التي يمكن أن تنقذ التلاميذ من الانقطاع عن الدراسة. يقول شريف “تركت الدراسة من أجل العمل والحصول على المال وهذا لا أنكره، تعرضت إلى ضغط نفسي عال عندما كنت أدرس، لم أحتمل أن يكون أقراني أفضل مني في شيء.. غادرت المدرسة الإعدادية للتكوين المهني وبينهما وقع غرامي على المسرح وإلى الآن لم أترك الخشبة”.

يعمل شريف وعدد آخر من رفقائه على استقطاب التلاميذ إلى المجال الثقافي والفني، وله عدد من المسرحيات التي عرضها في مناسبات عديدة، لكنه يشتكي لـ”نواة” قلة الفضاءات المخصصة للأنشطة “فحتى دار الثقافة 20 مارس وعلى رغم دعم مديرها لبرامجنا إلا أننا نجد صعوبة في تأمين التمارين من المتطفلين والـ”باندية” ولا نملك فضاء آخر لممارسة أنشطتنا التي تساهم بنسبة 90 في المائة في إبعاد التلاميذ عن أماكن كـ”الخربة” وأيضا لتغريمهم بالمسرح الذي يدفع بدوره إلى المطالعة وبالتالي تهذيب الذوق والتمسك بمقاعد الدراسة وعدم مغادرتها رغم الظروف الاجتماعية الصعبة”. ويتساءل شريف “لماذا لم يسرعوا في تحويل تلك الخربة مثلا إلى دار ثقافة؟”

تم التقاط تساؤل شريف وحمله جديا إلى معتمدية سيدي حسين، حيث بحثت نواة عن معتمد الجهة كمال بوجاه إلا أنه غير موجود في مقر المعتمدية، أين وجدت مجموعة من العمداء أفادوا بأن ذلك البناء سيتم تحويله فعلا إلى دار ثقافة بعد سنوات طويلة من النزاع بين وزارتي الثقافة وأملاك الدولة لتحويله إلى مصلحة من مصالح الوزارتين، لكن وبعد “ضغوطات من النشطاء في المجتمع المدني بسيدي حسين تمت أخيرا الموافقة على تحويل “الخربة” إلى فضاء ثقافي” حسب تصريح الناشط شريف المنجلي.


تم دعم هذه الفيديو من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ من خلال الدعم المقدم لها من وزارة التعاون الاقتصادي و التنمية الألمانية.
إن محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية موقع نواة ولا يعبر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.