في سوق السمك بمنطقة سيدي مسرة التابعة لمعتمدية جبنيانة من ولاية صفاقس، يتجول البحار السابق، محمد سعيد، 73 سنة، فجراً، ليقف على ما نجح البحارة في صيده بعد ليلة مضنية. بكثير من الحزن، شرع في شرح مُصاب البحارة قائلا: “لقد تغير لون البحر إلى الأحمر، الأسماك نفقت على الشاطئ وحتى التي نصطادها تكون ميتة، هذا إلى جانب الرائحة الكريهة التي تصدر عنها. في حياتي لم أشهد مثل هذه الظاهرة” ثم أضاف بعد تنهيدةعميقة “أذكر أن أمرا مماثلا حدث سنة 1994. لكنه لم يكن بهذه الحدة، فالظاهرة لم تتجاوز حينها عشرة أيام على عكس هذه المرة، إذ تجاوزت الشهر. لا نعلم السبب الحقيقي، ولم يأت أحد ليفسر لنا ما يحدث تحديدا”. هنا في السوق تظهر الحيرة على وجوه البحارة الذين كانوا يتنقلون وسط الأعداد القليلة من صناديق السمك التي عادوا بها من عرض البحر.
الجميع يتساءل عن هذه الكارثة ومتى ستنتهيوهل ستقوم الحكومة بالتعويض لهم عن الخسائر أم سيتحملون وحدهم نتائج هذه الظاهرة؟ كلها اسئلة تدور في ذهنهم دون أن يجدوا لها إجابات. “هذا مورد رزقنا الوحيد، منذ شهر ونصف، نبحر ولا نظفر بشيء، كل السمك ميت لا يوجد شيء في البحر. المصاريف كثيرة ولا نقدر على تغطيتها” كانت هذه كلمات حسن منصر، بحار، 50 سنة، وهو يشتكي من هول الكارثة التي حلت بهم.
البحارة في حيرة أمام انعكاسات الكارثة
غير بعيد عن هذا المكان، في ميناء اللوزة الذي أغلقه البحارة يوم الإثنين الفارط كحركة احتجاجية نتيجة لتردي وضعيتهم، اعترضنا البحار الدبابي، 42 سنة، ” البحارة لم يعد بإمكانهم الصبر، الوضعية كارثية ولم نشهدها من قبل، اغلقوا الميناء وأشعلوا العجلات في الطرق المؤدية إليه، لكن لا من آذان صاغية لصدى احتجاجاتنا.” وأضاف “يعتبر هذا الوقت من السنة موسم عمل البحارة، نبقى ننتظره بفارغ الصبر، عادة ما يكون الميناء فارغا وكل السفن في البحر. لكن كما ترى لا أحد يعمل، والجميع في منازلهم. “كان الميناء بالفعل فارغاً من البحارة، إلا القليل منهم. يتدخل وسيم الخادم، 28سنة، بحار آخر عائد من الصيد مثقلا بالإحباط ليتوجه إلينا قائلا، “24 ساعة في البحر و لم نجني إلا 10 صناديق داعش (سرطان البحر). كل البحارة في أزمة.” وأضاف بين نفسين من سيجارته ” نحن على هذه الحالة منذ بداية شهر أكتوبر، ولا نعلم سبب هذه الكارثة وأعتقد أنه من حقنا أن نعرف على الأقل متى ستنتهي وكيف نتعامل معها؟”.
على عكس العادة، يشهد الميناء حالة ركود كبيرة، فارغ من البحارة والزبائن على حد السواء. يخيّم عليه الصمت وحالة الحيرة التي تعم أرجاؤه. أمّا عن أسباب هذه الظاهرة، فيشكك الجميع في أن يكون هذا الأمر طبيعيا وأن يكون الله أراد بهم شراً ويجزمون أن هذه الكارثة هي فعل بشري دون ريب. “كل المشاكل في البحر تأتينا من جهة صفاقس وقابس أي أين يوجد التلوث، حتى سنة 1994 أتتنا هذه الكارثة من هناك. إن كانت ظواهر طبيعية لماذا لا تأتينا من المهدية أو أي جهة أخرى، لماذا دائما من جهة صفاقس؟ هذه الكارثة انطلقت من تبرورة (سيدي منصور) ووصلت إلى حدود نومرو 5 (30 ميل داخل البحر). أنا بحار منذ سنة 1984 لم أشهد مثلها في حياتي أبداً، ولم يحدثني عنها لا الكبير ولا الصغير” هكذا حدثنا السيد الداهش 53 عام، عن هذه الأزمة ونحن نغادر الميناء.
التلوث: الحاضر دائما
لم يكن لدى البحارة إجابةً تشفي غليلهم وتنهي حيرتهم. ولكي نفهم الأمر أكثر قمنا بالإتصال بالمعهد الوطني لعلوم وتكنولوجيا البحار؛ باعتباره الجهة المخولة بالقيام بالتحليل اللازمة والوقوف على مكمن الداء. “هي ظاهرة طبيعية تغزو عدة شواطئ في العالم مثل المكسيك، نيوزيلندا وخليج الكويت في نفس الوقت الذي تشهدها فيه سواحلنا. عرفتها جزيرة قرقنة سنة 1933، قبل وجود السياب، المجمع الكيميائي والديوان الوطني للتطهير. كما أن كل التحاليل التي قمنا بها أظهرت أنه لا وجود لملوثات معدنية.” هذا ما أفادتنا به الدكتورة أسماء حمزة، الباحثة في المعهد والمختصة في العلق النباتي السام، قبل أن تضيف “هي طحالب مجهرية سامة اكتشفنا وجودها منذ سنة 1991 في بحيرة بوغرارة قرب جزيرة جربة. تنشط في المناطق مرتفعة الملوحة وخلال فترة ما بعد الأمطار. تتنقل من مكان لآخر عن طريق التيارات المائية. لقد كنا على علم بتفاقم هذه الظاهرة وتواصلها منذ 11 أوت الفارط وأعلمنا الوزارة بذلك. لكن ما باليد حيلة”.
ما جاء في مداخلة الباحثة بالمعهد يعيد تأكيد الرواية الرسمية التي روجتها وزارة الفلاحة ومصالحها التي تنفي أن يكون للتلوث أي علاقة بهذه الكارثة الطبيعية. إلا أن هذا التفسيرلم يقنع البحارة ولا نشطاء المجتمع المدني بجهة صفاقس على حد السواء “لا يمكن أن تكون هذه المسألة طبيعية 100%. فشواطئ صفاقس، أين برزت وتكاثرت فيها هذه الظاهرة، ملوثة بشكل كارثي، بالمواد العضوية والكيميائية. وهذا التلوث يمكن أن يكون حاضنة لعديد المشاكل البيئية”هكذا استهل شكري يعيش، أستاذ التعليم العالي في علوم الأرض والبيئة، والناشط البيئي بالجهة حديثه معنا، “حتى وإن كان ظهور هذه الطحالب السامة طبيعيافإن تكاثرها كان نتيجة للتلوث الموجود بالمنطقة. فهي تتكاثر بسرعة جنونية عندما تجد الغذاء المناسب، وهي تتغذى أساسا على النترات الموجود خاصةً في الفضلات البشرية. وفي الجهة يوجد محطتان تتبعان الديوان الوطني للتطهير، يلقيان بالفضلات في البحر دون معالجتها تقريبا. هذا بالإضافة إلى الفضلات الصناعية التي تلقى في البحر مباشرةً دون مراقبة أومعالجة. حتى إن لم يكن التلوث سبب وجود هذه الطحالب فهو سبب تكاثرها”.
يصرّ البحارة وناشطو المجتمع المدني بصفاقس على أن للتلوث دورا كبيرا في تفاقم هذه الظاهرة، طرح تنكره بشدة وزارة الفلاحة و متمسكة بأن أن الأمر لا يعدو أن يكون سوى ظاهرة طبيعية لا دخل للعامل البشري فيها.
منذ أكثر من شهر ونصف يعيش أهالي الجهة، وبحارتها، على وقع كارثة طبيعية لم تلح بعد بشائر نهايتها. خاصة مع تواصل الغموض حول الأسباب التي أدت لاستفحالها. غموض تعزز بتأخر سلطة الإشراف بالتدخل وتقديم إجابات شافية حول عشرات نقاط الإستفهام المطروحة من قبل البحارة وزبائن المنتوجات البحرية على حد سواء. تلكؤ مصالح الدولة المعنية لم يقتصر على تقديم المعلومة فحسب، بل تزامن مع اكتفائها بدور المتفرج بدل التصدي للظاهرة ومحاولة تخفيف انعكاساتها المادية على البحارة.
iThere are no comments
Add yours