المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ في رده على أسئلة النواب في جلسة منحة الثقة لحكومته، أكّد على انتهاء عهد ”التوافق المغشوش“.. وحين سُئِل راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة ورئيس مجلس نواب الشعب عن موقفه من هذا الإعلان ،كان رده بأن التوتر لن يزول من الحياة السياسية، وهذه طبيعة السياسة حسب قوله. كانت هذه الإجابة إعلانا غير رسمي بأن عهد ”التوافق“ الذي ساد المشهد السياسي في تونس منذ هروب الرئيس الراحل زين العابدين بن علي إلى حين انتخاب قيس سعيد الذي لم يُعرف له أي ماضي سياسي على رأس الجمهورية، قد انتهى. وأن تونس مقبلة على فترة من عدم الاستقرار السياسي في وضع اقتصادي أقل ما يوصف به أنه ”كارثي“.

توافق ”الترويكا“ بين الضرورة الاستراتيجية والمصلحة الحزبية

تصدرت حركة النهضة (إسلام سياسي) نتائج انتخابات 2011 وتقاسمت السلطة مع حزبي التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات والمؤتمر من أجل الجمهورية في إطار تقاسم للسلط الثلاث الذي نص عليها التنظيم المؤقت للسلط العمومية الذي سنّه المجلس التأسيسي في ديسمبر 2011.

وكان عماد هذا التوافق ‘الضرورة الاستراتيجية لبناء الجمهورية الثانية’ في حين كان الواقع الفعلي تقاسما لكعكة السلطة الموزعة بين رئاسات ثلاث وحقائب وزارية ومناصب إدارية عليا.

حيث تسلم ”الطبيب الحقوقي“ و”المعارض الشرس“ لنظام بن علي رئيس حزب المؤتمر، محمد المنصف المرزوقي رئاسة الدولة التونسية رغم أنه لم يتحصل سوى على حوالي 11 ألف صوت فقط إثر ترشحه لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 2011 عن دائرة نابل.

وشهدت فترة رئاسته لتونس العديد من الأزمات جعلته هدفا لسهام منظمات المجتمع المدني. ووصل الأمر إلى نعته ”بالطرطور“ في وسائل الإعلام المحلية والدولية على خلفية مواقفه التي وصفت بالمهادنة لحركة النهضة وعدم القدرة على مجاراة تحركاتها. ولعل أبرز الإشكاليات خلال فترة حكمه كانت قضية تسليم رئيس آخر حكومة ليبية خلال فترة حكم القذافي ”البغدادي المحمودي“ وإعلانه عدم علمه بالصفقة التي أشرف عليها رئيس الحكومة حمادي الجبالي.

أما الدكتور مصطفى بن جعفر رئيس حزب التكتل من أجل العمل والحريات فقد أثمرت بكائياته واستقالته من حكومة الوزير الأول محمد الغنوشي فوز حزبه في انتخابات المجلس التأسيسي بعد أن استمالت دموعه عواطف الطبقة الوسطى من التونسيين التي تختلف فكريا مع الإسلاميين ولا تنسجم مع أحزاب أقصى اليسار، وتقلد منصب رئيس المجلس الوطني التأسيسي.

ووصفت فترة توليه لهذا المنصب بالضعف وعدم مجاراة نسق طموحات الحزب الاسلامي الذي استأثر بالسلطة التنفيذية ومركزتها في رئاسة الحكومة، وفق ما نص عليه التنظيم المؤقت للسلط في تلك الفترة.

إذ شهدت تلك الفترة المفصلية في مسار تأسيس الجمهورية التونسية الثانية، رئاسة حمادي الجبالي ”الخليفة السادس“ كما أعلن هو عن طموحاته في إرساء خلافة سادسة خلال اجتماع شعبي امام انصاره، لحكومة تونس.

اغتيالات سياسية وقمع للتحركات الاحتجاجية

فترة عرفت تونس خلالها تراجعا ملحوظا في نسب النمو الاقتصادي وارتفاعا في أعداد المعطلين عن العمل وصعود بارونات التهريب الذين استغلوا الفراغ الأمني في البلاد إضافة إلى 3 اغتيالات سياسية استهدفت قياديين من أحزاب اليسار التونسي هما الشهيدين شكري بلعيد في 6 فيفري 2012 والحاج محمد البراهمي في 25 جويلية 2015 ورئيس الاتحاد الجهوي للفلاحين والقيادي في نداء تونس في ولاية تطاوين لطفي نقض. وهذه الولاية ظلت خزانا انتخابيا لحركة النهضة لم يتراجع طيلة 9 سنوات من الحكم لا في التشريعيات أو البلديات وحتى الرئاسيات. ومازالت هذه المنطقة إلى الآن تمثل ورقة ضغط للنهضة ولعل ملف الكامور أبرز دليل على ذلك، إضافة لهجمة روابط حماية الثورة على مقر نداء تونس بالجهة سنة 2012.

تغلغل الإرهاب في البلاد

كما شهدت فترة حكم الترويكا المكونة من أحزاب النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات استفحال ظاهرة الإرهاب وتغلغلها في جبال تونس ومناطقها الحدودية المعروفة باستقرارها الأمني لعقود من الزمن.

إذ لم تعد ‘الأحداث الإرهابية في تونس أحداثا معزولة وعرضية ،أو فزاعة توظفها القوى الداخلية أو الخارجية لمآرب سياسية فقط بل أصبحت ظاهرة الإرهاب حقيقة ملموسة بالبلاد وهو مّا يؤرق التونسيين الذين تعودوا على مشاهد الدمّ والذبح التي نغّصت عيشهم بعد أن استهدف خفافيش الظلام الأمنيين والعسكريين والسياح وحتى المدنيين .

لكن ما أبداه الشعب التونسي من يقظة وحزم وجرأة وعزم على معاضدة جهود الأمنيين وتعزيز اللحمة الوطنية لهزم الإرهاب وصون البلاد وردود فعله على أحداث قبلاط وسيدي بوزيد وسيدي علي بن عون وقبلها من أحداث الشعانبي واغتيالات شهداء الوطن : نقض، بلعيد، والبراهمي تؤكد حيوية العقيدة الوطنية لدى التونسيين.

كما شهدت فترة حكم الترويكا هجوما لروابط حماية الثورة على مقر الاتحاد العام التونسي للشغل بتونس العاصمة 2012 واستعمال الرش في مواجهة احتجاجات سليانة المطالبة بإقالة الوالي، وممارسة العنف ضد المتظاهرين السلميين من قبل من تم تسميتهم بالأمن الموازي في ذكرى أحداث 9 أفريل 2012 بالعاصمة.

نهاية تراجيدية لتوافق الترويكا

انتهت فترة هذا ”التوافق“ بين أحزاب من مشارب فكرية وإيديولوجية مختلفة باضمحلال حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية الذي تشظى إلى مجموعة أحزاب بعضها قائم إلى الآن دون تأثير سياسي يذكر وأخرى اندثرت وحزب استقال زعيمه محمد عبو من وزارة مكافحة الفساد في حكومة حمادي الجبالي ليعود متزعما حزبا اختار له اسم التيار الديمقراطي، وله حاليا وزن معتبر وكتلة محترمة في البرلمان رفقة حركة الشعب الحزب القومي العروبي. ويبدو أنهما أقسما العهد على تحدي مارد النهضة والتكتل من أجل العمل والحريات الذي لم يعد له وجود سياسي فعلي ولم يستذكره التونسيون إلا بعد تعيين إلياس الفخفاخ رئيسا للحكومة ومحاولته إعادة مصطفى بن جعفر إلى الواجهة من خلال استقباله في مشاورات تشكيل حكومته في قصر الضيافة بقرطاج وتعيينه رئيسا للهيئة التنظيمية للاستشارة الوطنية حول مسار اللامركزية في بلاد لم تستقر فيها سلطة المركز لأكثر من 6 أشهر منذ انتخابات 2019 الأخيرة وشهدت تشكيل 11 حكومة خلال 10 سنوات.

وفي السياق ذاته، صمدت النهضة وخرجت من التجربة أكثر تنظيما و انضباطا وصعد حزب جديد اسمه نداء تونس ادعى حمله لمشعل إرث الدولة البورقيبية بزعامة الباجي قايد السبسي الذي تم ”إخراجه من الأرشيف“ كما صرح هو نفسه، لرئاسة حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة بعد استقالة الوزير الأول لبن علي محمد الغنوشي، ليفوز بالمركز الاول في انتخابات 2014 بـ 86 مقعد من جملة 217 في مجلس نواب الشعب ، ثم تلاه حزب حركة النهضة الإسلامي بـ 69 مقعد متراجعًا بـ 20 مقعد مقارنة بسنة 2011 حينما تحصل على 89 مقعد. ويصعد مؤسسه إلى رئاسة الجمهورية بعد وصوله إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية أمام محمد المنصف المرزوقي الذي أسس ما عرف بحراك شعب المواطنين وهو تنظيم سياسي ضم عدة أحزاب من بينها حزبه ”المؤتمر من أجل الجمهورية“.

”توافق“ الشيخين

بعد انتخابات 2014 ساد توافق جديد المشهد السياسي في تونس هذه المرة ليس بين حزبين أو أكثر وإنما بين ما عرف بتوافق الشيخين الباجي قائد السبسي رئيس حزب نداء تونس وراشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الإسلامية.

حيث تنازلت النهضة عن مراكز الحكم في الرئاسات الثلاث لصالح نداء تونس واكتفت بحقيبة وزارية وحيدة تسلمها أمين عام الحركة زياد العذاري في ظرف تاريخي وإقليمي شهد تغيرا في المعطيات الجيوسياسية المتبلورة في هزيمة تنظيم الإخوان المسلمين في مصر وسوريا وضعف المحور التركي القطري.

وهذا التوافق الذي مثل لقاء باريس أولى محطاته وقال عنه الغنوشي بأنه ”لم يكن لقاء الصدفة أو الصفقة بل كان محطة في مسيرة التقت فيها الهمم على تأكيد الاستثناء التونسي“.

وانتهت فترة هذا التوافق الذي عرف العديد من التوترات السياسية بالقطيعة بين الشيخين إضافة إلى انشطار حزب نداء تونس إلى عدد من الأحزاب على غرار حركة مشروع تونس وتحيا تونس وعدد من الأحزاب الأخرى التي لم يعد لها وجود سياسي يذكر.

زمن الصدام

لم تكن حركة النهضة التي ساندت قيس سعيد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية تتوقع أنها ستواجه رجلا بهذه الشخصية المتصلبة والصارمة، حيث أثبتت مواقفه وتصريحاته رفضه الدخول في منظومة ”التوافق“ التي تحذق حركة النهضة اللعب عليها جيدا والدخول في مواجهة مفتوحة لا مع النهضة فقط وإنما كذلك مع كامل المنظومة السياسية التي تشكلت بعد انتخابات 2011.

برز تحدي قيس سيعد لحركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي خلال اللقاء الذي جمعه به رفقة رئيس حكومة تصريف الأعمال يوسف الشاهد في 17 فيفري 2020 بعد فشل حكومة الحبيب الجملي الذي رشحته النهضة في نيل ثقة البرلمان وتشديده على ”ضرورة تطبيق الفصل 89 من الدستور في ما يتعلق بتشكيل الحكومة وضرورة تجنب التأويلات والفتاوى التي اعتبرها غير بريئة ولا تقوم على أسس علمية، منبها في الوقت نفسه من خطورة تجاوز الدستور باسم الدستور“.

ولم يبق رئيس الجمهورية صامتا أمام التحركات الديبلوماسية لرئيس البرلمان راشد الغنوشي وتعديه على صلاحياته المكفولة بالدستور تحت ما تم تسميته بالدبلوماسية البرلمانية.

حيث تضمنت كلمته بمناسبة عيد الفطر قصفا كلاميا وموقفا حازما أمام هذه التحركات مصرّحا خلالها ”بأن الدولة التونسية واحدة ولها رئيس واحد في الداخل والخارج.. وأن هناك من يريد العيش في الفوضى ..فوضى الشارع وفوضى المفاهيم ولكن للدولة التونسية مؤسساتها وقوانينها..الدولة ليست صفقات تبرم في الصباح وفي المساء“ ..مؤكدا أنه ”لن يسمح لأي طرف بتجاوز القانون أو تجاوز صلاحياته التي منحها له الدستور“، وذلك في رده على تهنئة الغنوشي لرئيس الحكومة الوفاق الليبية فايز السراج بعد سيطرة قواته المدعومة من تركيا على قاعدة الوطيّة الجوية وزيارته إلى تركيا ولقائه رئيسها رجب طيب أردوغان في اجتماع مغلق سويعات بعد سقوط حكومة الحبيب الجملي.

صواريخ الإخشيدي

وأمام تعطل أشغال مجلس نواب الشعب وعدم تمكنّه من ممارسة مهامه التشريعية بسبب اعتصامات نواب الحزب الدستوري الحر وتعنت النهضة وعدم استجابتها لمطالب رئيسته عبير موسي ”المفتعلة“ لمنع الغنوشي من ممارسة مهامه على رأس هذه المؤسسة السيادية، صرح رئيس الجمهورية قيس سعيد في لقاء مع الغنوشي ونائبيه سميرة الشواشي وطارق الفتيتي بأن لديه من الوسائل القانونية المتاحة وفق الدستور، والتي بإمكانه تأويلها كما يشاء في ظل غياب محكمة دستورية، لإيقاف تعطيل البرلمان، ووصفها بـ”الصواريخ على منصات إطلاقها“.

تراجعت عبير موسي عن ”مخططاتها“ لتعطيل أشغال البرلمان إثر هذه التصريحات لرئيس الدولة ليشهد المجلس انعقادا لجلسة عامة عادية تمت خلالها المصادقة على اتفاقيات قروض ومشاريع قوانين وبمشاركة نواب الدستوري الحر في التصويت، وعادت عجلات أشغال المجلس إلى الدوران.

ولم تتوقف ”صواريخ قيس سعيد“ الجاهزة للإطلاق عند هذا الحد، إذ تحدث خلال لقائه بوزير أملاك الدولة والشؤون العقارية عن وثائق سرقت من أروقة المحكمة الابتدائية بتونس تهم قضية حادث سيارة إدارية تابعة لوزير النقل أنور معروف (حركة النهضة) كانت تقودها ابنته البالغة من العمر 21 سنة قبل أن يتم تغيير محضر البحث المتعلق بهذا الحادث المروري.

كما أشار سعيد خلال لقائه ممثلين عن مؤسسة الشهيد محمد البراهمي وتتزعمهم أرملته مباركة العواينية إلى أن الدولة ستعمل على كشف حقيقة الشهيدين محمد البراهمي وشكري بلعيد وكل شهداء الوطن الذين لن تذهب دماءهم هباء حسب تعبيره.

وتزامنت تصريحاته مع قرار محكمة التعقيب سحب ملف قضية اغتيال البراهمي من المحكمة الابتدائية بتونس وإحالته إلى محكمة أريانة. وهي خطوة اعتبرتها هيئة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي بمثابة ”إدخال الجهاز السري لحركة النهضة ضمن منظومة الاتهام وانتهاء اللعبة وتعطل دور وكيل الجمهورية بشير العكرمي في حماية الغنوشي“.

كما ”قاطع“ رئيس الدولة احتفالية عيد الجمهورية بالبرلمان وخيّر زيارة مقبرة الجلاز وتلاوة الفاتحة على روح الشهيدين محمد البراهمي وشكري بلعيد وزعيمي الحركة الوطنية صالح بن يوسف وأحمد التليلي ورئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي وهي خطوة وصفت بالقطيعة البائنة مع الغنوشي.

ويواصل قيس سيعد في كل مرة تذكير حركة النهضة بأن عهد التوافق الذي تنادي به قد انتهى وفتح المجال لزمن الصدام.

هذا الصدام برز بعد اختياره مرشحا من خارج منظومة الأحزاب لقيادة مشاورات تشكيل الحكومة وهو وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال هشام المشيشي. وربما يكون هذا الاختيار أحد أوجه الصدام الجديدة خصوصا في صورة تشكيله لحكومة تستثني الأحزاب عموما وحركة النهضة الفائز الأول بانتخابات 2019 على وجه التحديد، وتأكيدا بأن حكومته ستكون حكومة الرئيس كما يقال الآن في أروقة السياسة والأحزاب.