المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

سعيد الذي لم يعرف له أي ماض سياسي أو حزبي أو نشاط في الميدان الحقوقي والجمعياتي أو حتى موقف نضالي زمن الدكتاتورية، دفعت به انتخابات 2019 إلى أعلى هرم في سلم السلطة أي رئاسة الجمهورية، في حين أن دستور 2014 ينص على أن أغلب صلاحيات السلطة التنفيذية بيد رئيس الحكومة الذي يقع تكليفه عن طريق الحزب الفائز بأغلبيّة الأصوات في الانتخابات التشريعية .لا شك أن سعيد والفريق المحيط به على علم بهذه الحيثيات في ظل مساعي الأحزاب لإخراج رئيس الجمهورية في صورة العاجز عن إيجاد الحلول الاقتصادية والاجتماعية وتحميله مسؤولية تواصل تأزم الأوضاع.

النظام الإنتخابي :قانون اللعبة وضعته النهضة

دستور 2014 الذي خطه مجلس تأسيسي سيطرت حركة النهضة على مفاصله بتحالفها مع حزبي التكتل من أجل العمل والحريات والمؤتمر من أجل الجمهورية تحت ما سمي بحكم الترويكا نص على نظام انتخابي لا يتيح لأي حزب الحكم بمفرده.

هذا النظام الانتخابي أرسته حركة النهضة التي عانت الاقصاء والملاحقات ومحاولة تجفيف منابعها حتى تضمن لنفسها تموقعا دائما في دوائر الحكم خصوصا وأنها تملك خزانا انتخابيا عرف في المحطات الانتخابية التي شهدتها تونس تشريعية كانت أم بلدية بوفائه لها رغم تراجعه في الفترة الأخيرة ومازال في تراجع مستمر وفق نتائج سبر الآراء الأخيرة التي لا تفوت الحركة أي فرصة لاستهجانها والتنديد بها .

يجمع غالبية خبراء القانون الدستوري ومختلف الفاعلين في المشهد السياسي التونسي على أن النظام الانتخابي أدى إلى أزمة حكم في تونس خصوصا في ظل النظام السياسي الهجين والمعقد وهي أزمة ستظل متواصلة إذا ما لم يتم على الأقل، إنهاء طريقة الانتخاب بالتمثيل النسبي بشكل عاجل وهو التمشي الذي تنادي به مختلف الأحزاب في البرلمان، إلا أن دخول فاعل سياسي بثقل غير متوقع وقد يسقط حسابات هذه الأحزاب في الماء.

هذا الفاعل هو الرئيس قيس سعيد الذي لم يفوت أي فرصة لمهاجمة النظام السياسي الحالي. وتثبت تحركاته أنه ماض في مساعيه خصوصا وأن كل الظروف تعمل  لصالحه، ففي ظل غياب المحكمة الدستورية بإمكان سعيد تفصيل الدستور وإعادة خياطة مضامينه وفق مقاساته ومساعيه.

مشروع حكومة الجملي وانتقال محور سلطة القرار

فشل حكومة الحبيب الجملي في نيل ثقة البرلمان كانت بمثابة الفرصة الأولى التي أعطتها الأحزاب على طبق من ذهب لسعيد الذي كلف إلياس الفخفاخ بتشكيل الحكومة الأولى بعد انتخابات أكتوبر 2019.

تصدت النهضة لحكومة الفخفاخ بعد إعطائها الثقة في البرلمان، ولم تبخل بأي جهد لإسقاطها في محاولة لقطع الطريق أمام طموحات أستاذ القانون الدستوري العالم بكل خبايا دستور 2014 وثغراته التي وضعتها النهضة ظنا منها أنها ستكون على مقاسها، والتي اعتبرها سعيد ك”الصواريخ الجاهزة للإطلاق” على منصاتها ولم يفوت أي فرصة لتهديد كامل المنظومة الحزبية باستعمالها.

الخطوة الاستباقية التي قام بها إلياس الفخفاخ وتقديمه استقالته لرئيس الجمهورية عرقلت مساعي النهضة لسحب البساط من سعيد وعادت الكرة إليه مجددا ليكلف شخصية لم تخطر على بال أجدر المستشرفين والمحللين وكانت بمثابة الصدمة للأحزاب: وزير الداخلية في الحكومة المستقيلة هشام المشيشي الذي شرفه الرئيس بزيارة فجائية في مقر وزارته فجر 22 جويلية 2020 تزامنت مع تداول معلومات حول مساعي لاستهداف رئيس الجمهورية.

في مقر وزارة الداخلية، قال سعيد إن الدولة التونسية قائمة ومستمرة وأنه لن يتوانى عن تطبيق القانون على كل من يخالفه دون استثناء، مؤكدا أنه لن يقبل أن تكون تونس مرتعا للإرهابيين، ولا أن يكون فيها عملاء يتآمرون مع الخارج ويهيئون الظروف للخروج عن الشرعية قائلا “من يتآمر على الدولة ليس له مكان في تونس”.

وفي خطاب تكليف وزير الداخلية هشام المشيشي بقيادة مشاورات تشكيل الحكومة، دعا سعيد “بلا مواربة لمراجعة الشرعية”، متابعا بأنه ” يحترم الشرعية لكن آن الأوان لمراجعتها حتى تكون بدورها تعبيرا صادقا وكاملا عن إرادة الأغلبية”.

ويواصل سعيد إبراز تحكمه في كامل المشهد السياسي وفق أهدافه من خلال تحركاته التي رافقت مسار تشكيل حكومة المشيشي.

فبعد أن أعلن المكلف بتشكيل الحكومة هشام المشيشي نيته التخلي عن المرشح  لتولي حقيبة الشؤون الثقافية وليد الزيدي من تشكيلة الحكومة المقترحة ونيته تعويضه بشخصية أخرى على خلفية تصريحاته التي عبر فيها عن تعففه عن تحمل هذه المسؤولية، تدخل سعيد معبرا عن دعمه له وأهليته لهذه الوزارة خلال استقباله له في قصر قرطاج في نفس اليوم، مؤكدا ثقته بأنه جدير بتولي هذه المسؤولية. ليتراجع المشيشي عن قراره بعد هذا الموقف لرئيس الدولة، مثبتا فعلا أنها حكومة الرئيس 2 وأن سلطة القرار لم تخرج من قرطاج.

مساعي سعيد بكل الوسائل والطرق الدستورية المتاحة للاستحواذ على السلطة تؤكد أنه يتجه نحو تقديم مبادرة تشريعية لتعديل الدستور وتغيير النظام السياسي من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، ومراجعة كامل منظومة الحكم التي سيطرت على مفاصل الدولة طيلة 10 سنوات من عمر الثورة، والدفع نحو دعم الحكم المحلي والتنمية الجهوية.